هذا كتاب رائع للصديق د. فكرى أندراوس، المصرى الأمريكى. خلال حكم محمد على كانت مصر أول دولة غير أوروبية تسعى للتحديث ونقل الوسائل التى تقدم الغرب بها، وسبقت مصر اليابان بقرابة نصف قرن. اليابان كانت دولة منعزلة عن جيرانها، كوريا والصين وروسيا، بينما كانت مصر فى قلب العالم القديم وعلى اتصال بالجميع. وبعد ضعف مصر القديمة تم احتلالها بحضارات ودول مختلفة. وكما قال لويس عوض، كان مصرع مصر يأتى من خطيئة عظمى يقترفها كل جالس على عرش فرعون. هذه الخطيئة هى طلب «العظموت» قبل مقومات العظمة. وحيث توجد فجوة بين الحلم والحقيقة يعشق المرء السلطان بأكثر من إمكانياته الحضارية كما حدث مع محمد على، ويعشق الحضارة بأكثر من إمكانياته المادية كما حدث مع إسماعيل، ويعشق المرء الحرية بأكثر من امتلاكه مقوماتها كما حدث لعرابى، ويعشق المرء الديمقراطية بأكثر من إدراكه مسؤوليتها كما حدث لسعد زغلول، ويعشق المرء العزة والكرامة والقوة بأكثر من إدراكه أن القومية أو الفردية لا تضمن عزة ولا كرامة. إدراكه أن البطش لا يصنع القوة وأن الخوف لا يصنع الرجال وأن الوطن القوى لا يبنيه المواطنون الضعفاء أمام سادتهم وأمام شهواتهم كما حدث لجمال عبد الناصروقال أحمد بهاء الدين إن طه حسين والليبراليين خاضوا معارك فكرية قوية فى مجتمع متخلف جدًا ودعكم من الهتافات «المصريين أهمة». وقال مكرم عبيد تحت قبة البرلمان: لقد عملنا لتخليص مصر من الاستعمار الأجنبى وبقى علينا أن نحرر مصر من الاستعمار المصرى. الأخطاء القاتلة لكل هؤلاء هى التى أعاقت تقدم مصر وصاحبها تقديس لكل هؤلاء من المصريين.
اليابان كان النظام السائد فيها حتى أواخر القرن السادس عشر نظاما يحكمه عدد كبير من الإقطاعيين، وكانت الحروب دائمة بين المقاطعات. وكل إقطاعى تحت سيطرة مجموعة من الأشداء يسمون ساموراى. وقد قاموا بزيارة لمصر فى عصر محمد على لاستطلاع أحوالها لأنها سبقتهم فى التحديث، ثم ذهبوا إلى أوروبا. كان الساموراى يدينون بالولاء الكامل لرؤسائهم ولو شعر أحدهم أنه خذل رئيسه لانتحر.
فى بداية القرن السابع عشر تمكن اليابان من تحقيق الاستقرار فى سلطة مركزية. الدين فى اليابان هو «الشنتو» وهو عبادة القوى الطبيعية المختلفة وأهمها الشمس، ورمزها على علم اليابان. وفشلت محاولات تحويل اليابان إلى دولة مسيحية بالمبشرين الكاثوليك. فى عام 1853 ذهبت 4 بواخر حربية أمريكية إلى اليابان وطالبت بفتحها للتجارة واستخدام الموانئ، وكان ذلك بداية الصراع اليابانى مع الغرب. واستمر حتى قامت ثورة ميجى ووضع الإمبراطور على رأس الدولة وأعيد تشكيل الحكومة بموظفين أكفاء. وتمت صياغة دستور مشابه لدساتير الغرب عام 1889. وبدأ الصراع بين أنصار العزلة (السلفيين اليابانيين) وبين أنصار الحداثة. لم تشجع اليابان الاستثمار الأجنبى لأنه غالبًا يكون مصحوبًا بنفوذ أجنبى وهو ما تجنبه محمد على ووقع فيه إسماعيل.
بدأت الحكومة اليابانية ببعض الصناعات والمشاريع العامة، بعضها فشل، ولكنها أنتجت فئة من الإداريين والفنيين التى قادت القطاع الخاص الذى نما ولكن تحت رعاية الدولة.
بدأت الدولة فى أواخر القرن التاسع عشر فى بعض الصناعات الثقيلة مثل الحديد والبواخر. وترك للقطاع الخاص حرية العمل. واهتمت اليابان بالتعليم وأرسلت بعثات للخارج وأحضرت خبراء من20 دولة.
فى أثناء الحرب العالمية الأولى توقف وصول صادرات أوروبا إلى مستعمراتها فى الشرق، فانتعشت الصناعة اليابانية لتغطية الفجوة وزاد التصدير خمسة أضعاف. ومع التقدم الصناعى السريع وارتفاع التعليم استولت اليابان على جزر قريبة ومنها فيرموزا، ثم احتلت كوريا ودمرت الأسطول الروسى عام 1904 واحتلت منشوريا وبدأ نفوذها يزداد فى الصين، واحتلت أجزاء من الصين عام 1937، وكان الاستعمار اليابانى شديد العنف.
.وبعد الحرب العالمية الثانية وإلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان واستسلامها، ساعدت أمريكا اليابان على النهوض لتقف أمام روسيا، وكان التقدم الصناعى الرهيب بعد تدمير كل شىء فى اليابان معجزة، ترجع إلى التعليم والتدريب والابتكار، فكل الفنيين المتعلمين أعادوا البناء بسرعة رهيبة.
هناك فارق كبير بين الرأسمالية الأمريكية والرأسمالية اليابانية، فالأمريكية التى يدين معظمها بالمسيحية البروتستانتية تتقبل وجود ملياردير وفقراء فى نفس المجتمع من الناحية الدينية ويمكن أن يصبح أيضًا مقبولًا من الناحية الاجتماعية. الرأسمالية اليابانية متأثرة بالكونفوشية وهى تعتمد على وجود الفضيلة والعمل والشهامة فى علاقة الإنسان مع المجتمع. وهو موجود فى كل درجات التعليم اليابانى من المنزل إلى المدرسة وإلى العمل. وأدى ذلك إلى أن الإنسان لا يجب أن يعيش على حساب الآخرين أو إيذائهم والطاعة عظيمة ولكنها مبنية على الحب والثقة وليس الخوف. نادراً ما يغير اليابانى مكان عمله أو يتم فصله، ورؤساء الشركات يحصلون على مرتبات أقل بكثير من نظرائهم الأمريكيين وبالتالى لا يوجد فقراء فى اليابان.
وعند زيارتى لليابان لفت نظرى أن إعطاء البقشيش هو إهانة بالغة لا تحاول أن تفعلها بينما الأمريكى يفرض عليك البقشيش ونسبته.
هناك ثلاثة عوامل هامة أدت إلى النهضة العظيمة وهى التعليم على كافة المستويات، فقد حصل 30 يابانيا على جائزة نوبل. والعامل الثانى هو الكود الأخلاقى المتفق عليه والمؤمن به جميع الناس. والأمر الثالث هو أن الديانة اليابانية مختلفة تمامًا عن الديانات الإبراهيمية فهى عبارة عن مبادئ أخلاقية بدون تعليمات ولا قيود.
كما ذكرنا فإن مصر بتاريخها الذى بدأ قبل اليابان لم تستطع أن تقوم بثورة تعليمية على جميع المستويات وفشلت الصناعة المصرية لأسباب بعضها سياسى وبعضها بسبب الاعتماد الكامل على الأجانب وعدم وجود كوادر فى فترات كثيرة قادرة على الابتكار والتصنيع.
وبالرغم من التزام معظم المصريين مسلمين ومسيحيين بتعاليم الدين إلا أن نسبة الفساد الجبار فى مصر عظيمة مقارنة بندرة الفساد فى اليابان. ومصر أضاعت وقتًا ومجهودًا كبيرًا فى خلافها حول تفسير الدين مما أدى إلى تقسيم المجتمع وإضاعة وقت كان يمكن أن يبذل فى التعليم ثم التقدم والصناعة.
(قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك)
