رحل زرقاء اليمامة د. جلال أمين، قارئ كف مصر وخريطتها الاجتماعية وتحولاتها الثقافية، وهو الذى درس الاقتصاد وصار من أهم أساتذته فى مصر، ولم يكن أستاذاً لعلم النفس أو الاجتماع، لكنه أحياناً يخرج من جعبة غير المتخصص دراسة تكون أكثر عمقاً ونفاذاً وصدقاً من المتخصّص، ينطبق هذا على كتابه الرائع «ماذا حدث للمصريين؟»، الذى لا بد أن يكون فى صدارة مكتبة كل مصرى. د. جلال أمين له دراسات وكتب وإسهامات عديدة، لكن يظل هذا الكتاب هو الأثير والمتفرّد والمتميّز والمؤثر، فجلال أمين ابن بيت متذوق للأدب، لذلك يتمتع بأسلوب أدبى رفيع، ولغة سلسة طيعة اكتسبها من الأب العظيم أحمد أمين، وأيضاً لديه جسارة الاختلاف عن السائد، وقراءة التراث بعين الناقد لا المنسحق، وسبقه فى هذا وأثر فيه شقيقه الكاتب الفذ حسين أمين، إذن نحن أمام خلطة مصرية ثقافية تستطيع الحرث فى تربة جديدة، كوكتيل قادر على إدهاشك، لا تستطيع إلا أن تهتف مع كل قراءة له «إزاى فاتت علىّ الحكاية دى»، أنت ربما تكون قد شاهدت وعاصرت، لكن من خلال عينى جلال أمين أنت ترى المشهد مختلفاً وصادماً وغير مألوف، لا أنسى فى هذا الكتاب قراءته لتغيرات الإنسان المصرى من خلال المصايف، بداية من رأس البر وانتهاءً بمارينا، مروراً بالمعمورة وميامى وجمصة وبلطيم.. إلخ، كيف كان التصييف طلباً للبهجة، وتحول إلى عطش للشو والاستعراض، هذا مجرد نموذج التقطته عين جلال أمين الذكية الواعية العاشقة للمحروسة، عينه التى هى دائماً بكر فى حالة طزاجة مزمنة، والتأبين الحق الذى يستحقه جلال أمين هو استكمال تلك الدراسة بأجزاء أخرى، ماذا حدث للمصريين فى الألفية الثانية؟، ماذا حدث بعد الثورة؟.. إلخ، لو كان جلال أمين بيننا ماذا سيقول عن كومباوندات الساحل الجديدة التى صارت مارينا بالنسبة إليهم «بيئة»؟، ماذا سيقول عن ملاك الفيرارى واللامبورجينى بعد أن صارت المرسيدس بالنسبة إليهم مجرد «توك توك»؟!، ماذا سيضيف جلال أمين عن تطورات الزى الذى صار أفغانياً قندهارياً؟!، جلال أمين مثال ونموذج مثالى للمثقف المهموم الوطنى بجد، ودون صراخ أو استجداء، شجرة الثقافة المصرية التى تضرب بجذورها فى عمق تراب هذا الوطن، تتساقط ثمارها بإيقاع سريع يدعو إلى الفزع والرعب، الفزع ممن يجهلون ملامح مصر، والرعب ممن يستخدمونها سكناً لا وطناً.. رحم الله جلال أمين، وكل أمين على ثقافة وذاكرة وروح مصر.
No comments:
Post a Comment