السؤال الذى تردد على الألسنة لعقود طويلة هو: هل يمكن أن يزدهر الفن فى غياب الحرية؟ الفن بمفهومه الواسع يشمل السينما والمسرح والرواية والفن التشكيلى والموسيقى والعمارة. يذكر الجميع فترة النازية الرهيبة، وكيف تصرف هتلر الزعيم الذى قاد ألمانيا إلى طفرة صناعية تلاها خراب. هتلر كان يريد أن يصبح رساماً تشكيلياً، ولكنه فشل فى دخول كلية الفنون، وعندما سيطر الحزب النازى على ألمانيا بدأ هتلر فى تطبيق نظريته عن الفن، وكان يريد للإنسان الألمانى أن يبدو فى اللوحات أو السينما أو المسرح جميلاً قوياً مبتسماً بصحة جيدة، وأن تكون أعمال النحت خالية من العيوب الجسدية، وتكون الأعمال السينمائية عن النضال القومى وحب الوطن. وأسس غرفة ثقافة الرايخ لتدير شؤون الصحافة والإذاعة والأدب والسينما والمسرح والفن التشكيلى، وحتى الموسيقى ليستمع الناس إلى أنواع الموسيقى التى تعبر عن عظمة ألمانيا. وأقام معرضين كبيرين فى ميونخ أحدهما سماه معرض الفن الألمانى وعرض فيه الفن الذى يمجد عظمة الإنسان الألمانى وقدرته وجماله وبطولاته، والمعرض الآخر سماه معرض الفن المنحط، وفيه عرض أعمال كبار الفنانين التأثيريين ورواد الفن الحديث من سيريالية وغيرها، وكان مصحوباً بدعاية سيئة تذم فى هذه الفنون ولكن مسؤولى الحزب النازى أصيبوا بالاحباط بسبب إقبال الناس على معرض الفن المنحط، وكانت مبيعات هذا المعرض ثلاثة أضعاف معرض الفن الألمانى. قرر هتلر رفع جميع لوحات وتماثيل الفنانين الكبار الذين يمثلون الفن المنحط ووضعها فى المخازن، وكان تصرف الفنانين المصريين عظيماً بأن أصدروا بياناً بعنوان «عاش الفن المنحط» ووقع عليه ٣٣ فناناً ومفكراً منهم إبراهيم واسيلى، ألبير قصيرى، كامل التلمسانى، أنور كامل، جورج حنين، حسن صبحى، فاطمة نعمت راشد ومحمد نور. ويقول البيان: يا رجال الأدب ويا رجال الفن لنقف معاً ونقبل التحدى، يجب أن نقف فى صف هذا الفن المنحط ففيه كل آمال المستقبل.
ومنذ سنوات شاهدت معرضاً كبيراً فى متحف الفن النمساوى فى الشارع الخامس فى نيويورك عنوانه «معرض الفن المنحط» وعرض عدداً كبيراً من اللوحات والتماثيل التى وضعها هتلر فى المخازن. وكان الإقبال رهيباً، معلناً أن الفن الحقيقى يعيش وينتصر ويبهج الناس والفن الدعائى وليد الفاشية والديكتاتورية يثير ضجة دعائية ولكنه يندثر ولا يترك أثراً.
ماذا كان تأثير اللجنة التى شكلها هتلر لتنظيم الفنون والآداب على الفن الألمانى بأنواعه المختلفة؟ التأثير كان كارثياً، تحول الفن والسينما والأدب الألمانى فى فترة قليلة من فن عالمى إلى فن محلى ضعيف وحتى الألمان عزفوا عنه. ولاقى الفن بكافة أشكاله نفس المصير فى إسبانيا تحت حكم فرانكو وفى إيطاليا تحت حكم موسولينى. خلال القرن العشرين لحسن الحظ لم تتدخل الدولة المصرية فى الفترة الليبرالية فى الفنون فكانت السنيما المصرية تنتج أفلاماً عظيمة فى كافة الاتجاهات، وكانت ثالث دولة فى الإنتاج بعد أمريكا والهند ولا تزال هذه الأفلام تعرض حتى الآن بكثافة وتلقى إعجاباً كبيراً، وكان المسرح المصرى منتعشاً، والفن التشكيلى كانت به نهضة عظيمة، ولم يتدخل أحد فى هذه الفنون ولا فى طريقة التدريس فى الكلية ولم يتطرق أحد لفن النحت العظيم بأنه حرام. الفن المصرى ازدهر وأصبح هو الفن الأعظم فى كل المنطقة العربية، والفن التشكيلى أصبح معروفاً ومقدراً عالمياً وذلك بسبب الحرية الكبيرة التى كانت متاحة له.
وبعد ذلك بالرغم من وضع قيود على الفن إلا أنه بسبب ثروت عكاشة، المثقف المستنير، حدثت نهضة مسرحية وموسيقية كبرى، وبالرغم من التضييق على بعض السينمائيين وتأميم الشركات إلا أن السينما أخرجت عدداً من الأفلام العظيمة واستطاع الفنانون أن يعملوا بحرية نسبية. الفن التشكيلى انتعش بفنانين من الشباب. وتلى ذلك فترة انهيار المسرح المصرى، ونكسات فى كليات الفنون ومع ذلك أبهرنا شباب الفنانين التشكيليين والسينمائيين الذين قدموا أعمالاً عظيمة فى ظروف صعبة. ولكن بسبب الضغوط على الفنانين الواعدين وتشجيع أنصاف الموهوبين سحبت السجادة من تحت أقدام مصر وفقدت قوتها الناعمة.
الفن موهبة وإحساس يتحول إلى عمل فنى بالدراسة والعلم واستخدام التكنولوجيا ويلزمه تمويل. حين تتدخل السياسة فى الفن تستطيع الصرف بسخاء على إنتاج مبهر قد يثير مشاعر الناس ولكن أثره قصير الأمد ومحدود. الأعمال التى أثرت فى البشرية وحركت مشاعر الناس وظلت عالقة بالوجدان معظمها أعمال بسيطة نابعة من ومضة فن وموهبة صادقة. ربما يكون أثر مشهد بسيط فى فيلم مثل الإرهاب والكباب فى وجدان الناس ومشاعرهم تجاه الإرهاب أكثر من عشرات الأفلام أو المسلسلات الضخمة الخطابية وعالية النبرة والتى سرعان ما تفقد تأثيرها.
السيطرة على الفن بروافده المختلفة لا يؤدى إلى نجاح لأى نظام حاكم وهذا ما أثبته التاريخ من هتلر إلى القذافى وصدام، الفن إذا تُرك للفنانين الحقيقيين سوف يبدع وينتصر للفنان ولوطنه. تأثير أم كلثوم وعبدالوهاب على المنطقة أعطى قوة ونفوذاً لمصر وحكامها فى جميع العهود مع اختلاف الأنظمة الحاكمة. الفنان المبدع لا تصنعه الدولة وإنما تساعده ولا تعرقله وتتركه يبدع. مصر بلد ملىء بالموهوبين يحتاجون للتشجيع وإعطائهم الحرية فى الإبداع، وفى غضون لمحة بصر سوف تعود مصر لتصبح رائدة الفن فى المنطقة وسوف يستمر هذا الفن ويخلد اسم مصر كما خلده الفن أيام قدماء المصريين.
قوم يا مصرى.. مصر دايماً بتناديك.
|
Translate
Tuesday, June 2, 2020
الحرية والفن المنحط بقلم د. محمد أبوالغار ٢/ ٦/ ٢٠٢٠ - المصري اليوم
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment