كأننى كنتُ أتوقّع! لو لم يفُز هذا الكتاب بتلك الجائزة الرفيعة، لكان هناك شىء خطأ. حين سمعتُ مفردة «السراب» تخترقُ صمتَ القاعة المترقبة، لحظة إعلان الفائزين بجائزة الشيخ زايد للكتاب، صفقتُ فى قلبى: أولا لحدسى السليم، ثم للجنة المثقفة التى اختارت هذا العقل النيّر لتُتوّج مسيرته العلمية والفكرية المحترمة فى دروب السياسة بعد عديدِ جوائزَ من جامعات ومؤسسات عالمية عريقة.
إنه المفكّر الإماراتى د. جمال سند السويدى، الذى كرّمته مصرُ مؤخرًا بجائزة نجيب محفوظ للآداب، ويعدُّ أحد أبرز المفكرين الاستراتيجيين الذين نجحوا فى تفكيك شرانق جماعات الإسلام السياسى، وتحليل نواتّها الإجرامية تاريخيًّا وفلسفيًّا وعَقَديًّا من أجل التبصير بأحابيلها الزلقة التى تلتفُّ حول أعناق النشء الجديد لتجنيده فيكونون أذرعها فى تفتيت الأوطان وتخريب العالم.
تُرجم كتاب «السراب»، الصادر قبل عام، إلى عديد اللغات الأجنبية، حتى يتعرّف العالم على خفايا مطبخ التنظيمات الجهادية والجماعات التكفيرية وطبيعة فكر أولئك الخارجين عن ناموس الإنسانية، الذين يدمّرون البشر والحجر والفكر والأثر مع كل نهار جديد. كان من الحتمىّ نقل ذلك الكتاب إلى ألسن الدول الغربية التى تدعم الإرهابيين لتقويض المجتمع العربى بزرع السرطان فى جسده، وكذلك الدول التى تقف على الحياد لأنها لا تكترث بهم، ولا بنا، فيوقن الجميعُ أن أولئك هم المغول الجدد وأن على العالم أجمع أن يحتشد ليضيق الحصار عليهم قبل أن تتوسع دولتهم الوحشية المزعومة وتغطى الأرض بالدم، وتملأ السماءَ بصرخات الثكالى.
ومازلتُ أرجو أن يتم تعميمُه فى مكتبات الوطن العربى وصالونات النوادى الاجتماعية، ومحافل الجامعات والمعاهد، حتى يتعلم الشبابُ خفايا ذلك الفكر الإقصائى الدموى، علّنا نفوّت على تلك الجماعات فرصة تجنيد شبابنا الغافل. كما آمل أن تنتثر قطوفٌ من كتاب «السراب» فى مناهج التعليم بالسنين الإلزامية الأولى حتى نزرع فى قلوب صغار النشء رفضَ ذلك الفكر الوحشى، فننزع فتيل الفرص المحتملة لاختراق أولئك الصبية الأبرياء، حين يشبّون، بعدما يتعلمون منذ الصغر أن كل الشعارات التى ترفعها تلك التنظيمات حول العدل والمساواة والتُقى والإيمان، إنما هى سرابٌ فى سراب، وأن كل ما يشغل رؤوس الإرهابيين ليس إلا مغانم السلطة وسرقة كراسى الحكم للتنكيل بالشعوب وإذلال الرجال، وسبى النساء، وسرقة الأطفال والثروات وتحطيم ميراث البشرية الثرى، تمامًا كما تفعل داعش اليوم.
يؤصّل الكتاب فى٨٠٠ صفحة المنشأ التاريخى والإطار النظرى لنهج الإسلام السياسى، بين الواقع والخرافة متأملا وثوق الصلة، أو انعدامها، بين هذا النهج وبين صحيح الدين كما ورد فى القرآن والسنة. ثم يتأمل العلاقة التاريخية المرتبكة بين الدين والسياسة عبر التاريخ. ثم يحلل أربعةَ نماذج من الجماعات الدينية السياسية: «الإخوان المسلمون» بوصفها الرحِم الحرام الذى لفظ كلَّ ما بعدها من تنظيمات متطرفة، ثم «السلفيون» وهم الوجه التنظيرى لكل ضربة سيف تُطيّر عنقًا وكل رصاصة تخترق رأسًا، ثم «السروريون»، نسبة إلى مؤسسها «سرور بن نايف»، وهو معلّم رياضيات سورى نزح للمملكة العربية السعودية لتدريس الرياضيات ثم برع فى نهج التكفير والجهاد، وأخيرًا التنظيمات الجهادية التى تنثر الرعب وتزرع الويل أينما حلّ رحالُها.
ثم نقف على الرؤية الختامية حول تلك الظاهرة المعاصرة التى تحيق مخاطرُها بالعالم وتهدد بتقسيمه وتدمير بنيته التراثية والحضارية كما لم تفعل القنابل النووية والهيدروجينية فى بلاد الله. الكتاب مُصاغ بلغة سلسلة عذبة وموثق بالمراجع التاريخية، ويعدُّ فى تقديرى حجرًا عثرًا فى طريق انتشار هذا الفكر الشيطانى الذى يهدد الإنسانية. نموذج محترم لمحاربة الدماء بالفكر، ومواجهة قطع الرقاب بالمعرفة.
No comments:
Post a Comment