Translate

Friday, January 3, 2014

بمناسبة رأس السنة 6254 المصرية كيف أبدع المصري القديم فكرة التقويم؟



يقول عالم المصريات محسن لطفي السيد, أن أجدادنا المصريين قد قسموا السنة إلى ثلاثة فصول هى:

  1. الفيضان: (آخت), فيه يفيض النيل.
  2. البرد: (بِرِت), فيه بذر البذور, ومنه "البرد".
  3. الصيف: (شمو) فيه الحصاد, ومنه "شم النسيم".
كل فصل من تلك الفصول مدته أربعة  أشهر.
كما قسموا الشهر الواحد إلى ثلاثة أقسام، كل قسم عشرة أيام .
وقسموا اليوم إلى 24 ساعة, نصفها لليل والنصف الآخر للنهار.
أما أسماء الشهور المصرية, وسبب تسمية كل منها, فهي كالتالي :
1- توت: نسبة إلى "تحوت" رب العلم والحكمة والرياضيات, مخترع التقويم والكتابة, الكاتب الأعظم,  حاضراً مع رموز الحضارة المصرية القديمة في كل ما يتعلق بالثقافة الذهنية.
2- بابه: نسبة إلى "حابي" الذي يجسد النيل وفيضانه, بقدومه تعم السعادة.
في أنشودة النيل, يتم وصف "حابي" بـ : الذي ينبع من الأرض, خلقه رع ليغذي كل الماشية, محبوب جب (الأرض), ومدير رب الغلة, ومن يجعل كل مصانع بتاح ناجحة, رب السمك, الذي يجذب الطيور, صانع الشعير, وخالق القمح, الذي يجعل المعابد تقيم الأعياد.
3- هاتور: من إسم "حتحور" ربة الجمال, إعتبرها المصريون الجسم الحقيقي للسماء, والروح الحية للأشجار, وربة في صورة بقرة, مربية ملك مصر, ربة الذهب, تظهر في معبد دندرة كـ ربة عامة وكإمرأة جميلة شابة,  مرحة وباسمة, ربة للسعادة والموسيقى والرقص, تُرى في هيئة الكوبرا "أعرت" رمز الصحة على جباه الملوك والملكات, ولذلك هي رمز الدواء والصيدليات في العالم حتى الآن, وتظهر في شكل "سخمت" لبؤة ضارية, وهي أيضاَ  ًالبقرة الحوراء ذات العيون الفاتنة "حتحور" رمز العشق والحب التي تفضلها نساء العالمين, وكذلك هي "باستت" القطة الحامية, والمخلوق المفضل لدى كل أسرة, وهي العين "أوجات" الصورة المتغيرة لإيزيس, الفتاة الجميلة التي تتألق شباباً وفتنة. 
4- كيهك: أصل الإسم "كا حر كا" وهو شهر للذكرى, حيث إجتماع الأرواح, لقاء الأحياء بأحبائهم الراحلين.
من تراتيل آني في كتاب الخروج للنهار:
يا أبناء "شو", يا أبناء "شو" المصبحين, الذين لهم السلطان على هؤلاء الذين يزورون البشر في ميعادهم, لعلي أتحرك كل يوم".
تتزاور وتظهر الأرواح في وقت معلوم من السنة, وإعتبرت الأجرام السماوية المعروفة بإسم "زهور الليل" أو "زهور السماء" أرباباً وأرواحاً, فهي أرواح الراحلين الذين سكنوا السماء.
في اللوحة الخامسة والعشرين من بردية آني – الرسم الأول: "طائر الخَطاف يقف على التل, والنص المصاحب له عبارة عن تعويذة تمكن المتوفي من أن يتحول إلى صورة طائر الخَطاف, فيستطيع الطيران, وقد يحوم حول قريته ليرى منزله ويشاهد أهله...إلخ".
5- طوبة: سمي هذا  الشهر نسبة إلى  "طي - طوبيا" أقدم أرباب طيبة, وقد سميت المدينة العظيمة على إسمه, ورثت صفاته الربة "وبت" على هيئة فرس النهر, وقد إندمجت في صفات "نوت" والدة أوزيريس , بإضافة أداة التعريف للمؤنث "تا" إلى إسمها, تقرأ "طوبة" و "طوبا", ومن إسمها إشتقت "الطيبة" للفعل الطيب, و"الطيب" للريح الطيب.
بينما يرى آخرون إشتقاق إسم الشهر من إسم "طيبه" نفسها, بإعتباره إسم لمعبد الكرنك "وبت نسوت" بإضافة أداة تعريف المؤنث "تا" إلى "وبت".
6- أمشير: نسبة إلى رب الحرب "منتو", رب "أرمنت" و "طيبة", الذي يتجسد كـ رب للزوابع بإسم "مشير", ويتميز شهر أمشير بالبرد والرياح والزوابع, لدرجة أن مايشابهه في شهر "طوبة" ينسب إليه, وفقاً للمثل الشهير: الإسم لـ "طوبة" والفعل لـ "أمشير".
تقول آنا رويز في كتابها روح مصر القديمة: "مونتو" رب الحرب برأس الصقر أو رأس الثور, وهو أول إبن متبنى لـ"آمون" و"موت", وكان شعاراً لمدينة " بر– مونتو", خلده المصريون في أصعب الشهور وأشبهها به مناخاً.
7- برمهات: هناك إتجاهين لترجمة إسم هذا الشهر:
الأول: ترجمة حرفية ظاهرية (لعالم المصريات / محسن لطفي السيد), بأن معناه شهر الخروج لجمع المحاصيل (بر إم حات), إذ فيه تنضج كثير من الثمار.
والثاني: في رأي عدد من الكتاب (منهم / وليم نظير), أنه تحريف لإسم الملك المقدس أمنحتب الأول (إختلط نطق إسمه لدى أتباعه مع إسم أمين سره وكاتب قرابينه "أمنمحات" – له لوحة بإسمه محفوظة في مدخل متحف "جنيف"), قدسه المصريون بسبب تثبيته لدعائم وهيبة الدولة, وكذلك أعماله ومنشئآته العظيمة,
 وإصلاحاته الإجتماعية والإقتصادية العديدة, فخلدوه وعاملوه معاملة الأرباب والقديسين, وأطلقوا إسمه على أحد شهور السنة.
8- برمودة: ينسب إلى "رنودة", وأصل إسمها "رع نينت" ربة الحظ الجيد والخصوبة والحصاد.
وفي كتاب روح مصر القديمة : Renenutet  ربة حسن الحظ والخصوبة والحصاد, برأس الكوبرا, عقدت مهرجانات الحصاد على شرفها, وكانت هي أيضاً حارسة أثناء الولادة.
وفي المعجم الوجيز: "رينينوت", حية خيرة (جالبة للخير) الإلهة الصل, ربة الحصاد.
9- بشنس: هناك إجماع بين كتاب المصريات على أن إسم هذا الشهر مشتق من إسم "خنسو" رب القمر, وأحد أعضاء ثالوث طيبة.
في معجم الحضارة : "خونسو" أحد أرباب القمر, دخل منذ القدم في أساطير طيبة على أنه إبن "آمون" و"موت", ومعبده في الكرنك محفوظ حفظاً مدهشاً, ويصور عادة كرجل برأس صقر يعلوه قرص قمري.
10- بؤونة: نسبة إلى أقدم عواصم العالم "أون" من الوجه البحري في مصر القديمة, حيث إكتُشف عدد أيام السنة, ورصدت العلامة الدالة على بدايتها, وإخترع التقويم لأول مرة في الوجود.
و"أون" هي ضاحية "عين شمس" الحالية, وتعرف في اللغة المصرية بإسم "أون" أو "أيونو", وقد سماها الإغريق "هليوبوليس" أي "مدينة الشمس", هدمها قمبيز في الغزو الفارسي ولم يبقى من آثارها منتصباُ إلا المسلة المعروفة الآن بإسم "مسلة المطرية", وما حولها من حفريات لهيئة الآثار, ذكرت في كتب المؤرخين القدماء كـ "هيرودوت" و"سترابون" بأنها مدينة عظيمة ذات مجد عريق, وجاء ذكرها في خمسة أسفار من العهد القديم.
في كتابه "الشرق الأدنى القديم" ينسب عبد العزيز صالح لمدينة "أون" فلاسفة مبرزين في مجال الفكر الميتافيزيقي, كانوا هم أقدم المنظرين لمذهب فلسفي ديني لتفسير الوجود ونشأته , حتى أصبحت تلك المدينة هي أقوى المدن الفكرية في العالم القديم وكعبة طالبي العلم من جميع أنحاء العالم, وبالذات فلاسفة اليونان.
11- أبيب: هو "عبيب" رمز لسُنة الكون في التغيير والتداول الذي ينتهي دائماً بإنتصار الخير, وهو ثعبان ضخم يقوم بدور أزلي في عملية تعاقب الليل والنهار, حيث يلتهم الشمس كل مساء ويخرجها عنوة كل صباح مطلقاً لها على هيئة لهب يخرج من لسانه, ولعل لذلك علاقة بتوقيت ذلك الشهر شديد الحرارة.

يشرح ذلك محسن لطفي السيد في ترجمته من الهيروغليفية لـ "كتاب الموتى" :
"في أقصى يسار اللوحة العاشرة من بردية آني, نرى القط, وهو الشمس, يسكن في شجرة الـ "يشد" في "أون", يحاول القط قطع رأس ثعبان ضخم إسمه "عبيب", ومنه سمى المصريون شهر "أبيب", حيث الثعبان هنا رمز لأعداء الشمس, لا ينفك يحاول إبتلاع قرصها, والصراع بينهما دائم, كل يوم".
12- مسرا: وترجمتها من "مس-رع" أي ميلاد رع, ويترجم أيضاً  "أولاد رع", ويذهب المفكر الكبير عباس محمود العقاد إلى أن هذا هو أصل إسم "مصر" أي أبناء (رع) الشمس, وهو إسم الدولة الوحيد المذكور في القرآن الكريم حوالي "14" أربعة عشر مرة, منها "5" خمس مرات مباشرة باللفظ الصريح, عدا "9" تسع مرات ضمنياً في الذكر الحكيم.
13- أبد كوجي Kogi Apd: يحتوي الخمسة أو الستة أيام المتبقية من السنة   ويعني الشهر الصغير, ويُنطق أيضا (أبض أوزي), حيث مازال اللسان المصري الحالي يستخدم كلمة "أوزي" للدلالة على الشئ الصغير.
وهو من خمسة أيام فقط, في السنوات العادية, ومن ستة أيام, في السنة الكبيسة.
أراد المصري القديم أن يكون تقويمه دقيقاً منتظماً, فجعل من الشهر ثلاثون يوماً, بلا زيادة أو نقصان, فترتب على ذلك بقاء عدد من الأيام خارج شهور السنة.
وأيام الشهر الصغير هذه هي الموضوع الأساسي لأقدم وثيقة تقويمية حجرية في الوجود بإسم قصة "خلق السنة", حيث يمكن لزوار هرم "أوناس" في سقارة, أن يقرأوها بالحروف الهيروغليفة في الممر الأفقي المؤدي لغرفة الدفن.
إستثمر المصريون أيام الشهر الصغير في حفلات الزواج والمناسبات الإجتماعية, إذ أنها المناسبة الوحيدة التي يمكن التأكيد بوجود أجازات رسمية وتوقف تام عن العمل خلالها, خلافاً لباقي الأعياد المصرية على مدار السنة, التي لا تستدعي الأجازة, بل كان يُكتفى فيها  بالقسم الثاني من النهار, وبداية الليل, دائماً لبدء مراسيم الإحتفالات بأعياد المعابد والأرباب.
  • ·       مظاهر الإحتفال بعيد "رأس السنة المصرية" في مصر القديمة
وصف "هيرودوت" نموذجاً عن مشاهداته الشخصية لإحتفالات المصريين بعيد ميلاد الشمس "رع" في مدينة هليوبوليس في يوم بداية السنة المصرية الجديدة.
أما عالمة المصريات "كريستيان لاروش نوبلكور" فتشرح بالتفصيل أحد مظاهر إحتفاليات عيد رأس السنة المصرية الموثقة على جدران المعابد, كالتالي:
الإحتفال الذي كان يقام بمناسبة العام الجديد كان يتصف بالمهابة والإجلال, إذ كان يبدأ في مساء اليوم الأول من شهر "توت" أول شهور العام, وكان يتجلى في هذا العيد تمثال "حتحور" المحفوظ في قدس أقداس المعبد ليخرج للضياء في ذلك اليوم الذي يمنحه الحياة لعام كامل فيفيض بها من معبدها.
على مشهد من الحشود, في موكب مهيب, يتقدمه الكهنة نحو "خزانة المعبد" فيحضرون تمثالاً بهيئة طائر له رأس إمرأة مصنوع من الذهب, يُدعى "باي".
يتم وضع التمثال داخل ناووس زجاجي صغير, ثم يقوم ثمانية من الكهنة بحمله حيث يبدأ الموكب في السير, ليتوقف في بضعة أماكن محددة بالمعبد لوضع تيجان مختلفة, رمزاً للقوى المتعددة التي تتمتع بها "حتحور", في بهو يطلق عليه "واعبت", وفي النهاية يقوم الكاهن الذي يرمز لفيضان النيل بقيادة هذا الموكب, فيسكب أمامه أثناء سيره الماء المقدس الجديد, يتبعه شخص آخر يمثل الملك يقوم بحرق البخور للناووس, حيث يسير بظهره لكي لا يواجه التمثال, يأتي بعد ذلك دور حاملي الرموز, وكوكبة من التماثيل, وعند وصول الموكب إلى سطح المعبد يتوجه نحو أحد الجواسق (غرفة صغيرة "كشك" موجودة حتى الآن), لوضع الناووس به, وعندما تشرق الشمس في موعدها فإن أول شعاع لها يسقط على وجه "باي" حتحور, داخل الناووس الذي أزيحت عنه الستائر, لتدب الحياة في أوصاله , وكانت الموسيقى تصاحب هذه اللحظة الحاسمة, ومعها أيضاً تراتيل الكهنة لإعلان ذلك الحدث السعيد, وتستمر عملية البعث حيث يعم الفرح والسرور أنحاء البلاد, وهذا الإحتفال بالذات من الإحتفالات الفريدة من نوعها, فهو بمثابة سر من أسرار الكون, ويمكننا رؤية نقوش هذه المراسم كاملة في معبد "دندرة", حيث نرى منظر الموكب الكهنوتي أثناء صعوده السلم المؤدي للجوسق الموجود فوق سطح المعبد, وكذلك أثناء نزوله منه, وكما يمكننا مشاهدة بعض الكتابات الموضحة لكل تلك الطقوس الفريدة من نوعها.
  • ·       كيف وضع التقويم؟
وضع المصريون هذا التقويم عندما إتفق أن تكرر وصول فيضان النيل فى الوقت الذى يظهر فيه النجم "سبدت" المعروف الآن بالشعرى اليمانية, وهو ألمع نجم فى مجموعة نجوم كلب الجبار الذى كانوا يتتبعون حركته  حتى ظهوره الإحتراقى بأقصر مسافة من شروق الشمس، فجعلوا هذا اليوم بداية السنة، أى أول شهر توت، لأنه اليوم الذى إجتمعت لهم فيه ظاهرتان :
ظهور "سبدت" قبيل شروق الشمس، ووصول الفيضان .
وكان حسابهم هذا صحيحا، بدأ  بخطأ طفيف مقداره ست ساعات وبضع دقائق فى السنة, قاموا هم أنفسهم بتصحيحه مع مرور الوقت, إذ تركوا لنا أقدم وثيقة حجرية في الوجود عن التقويم بعنوان "قصة خلق السنة" توضح كيف تطورت المعرفة بعدد أيام السنة , تلك التي كانت 360 يوم, ثم أصبحت 365 يوم, حتى صُححت بإضافة يوم كامل كل أربع سنوات.
لذلك كان إهتداؤهم إلى هذا التقويم القائم على دورة "سبدت" الشعرى اليمانية بالنسبة للشمس عملاً  بارزاً جليلاً.
  • ·       كيف؟
نعلم أن الإنسان القديم رصد بسهولة الليل والنهار, لإرتباطهما بظهور الشمس.
بعد مجهود وملاحظة إستطاع الإنسان رصد "الشهر", برؤية القمر.
لكن القدماء توقفوا عند ذلك ولم يستطيعوا التوصل لأكثر منه, وظل "الشهر" القمري هو أكبر مقياس للزمن لدى المجتمعات القديمة, مئات وآلاف السنين , وكان العمر الذي يحياه الإنسان القديم يقدر بعدد الشهور (السنين) التي عاشها!
لكن خصوصية جغرافيا وتضاريس مصر أو عبقرية المكان, كما وصفها المفكر الراحل جمال حمدان, أوصلتهم أولاً لمقياس أكبر للزمن, عُرف بالسنة الفيضانية , أي يحسبون الأعمار والمناسبات وسنوات حكم الملوك بما مر عليهم من فيضانات.
كان المقياس الفيضاني في شكله الأول مقياساً تقريبياً, بسبب عدم دقة زمن وصول وإنتظام الفيضان, فضلاً عن إحتمالية عدم وصوله من الأصل, ففي بعض السنوات لا يحدث الفيضان مما يعرف بسنوات الجفاف, إلا أن إستثمار الظاهرة الطبيعية في المقياس الفيضاني, ثم تخصُص فريق من المصريين في "أون" وغيرها من المدن المصرية في متابعة الفيضان, كان المقدمة الطبيعية للإكتشاف أو الإختراع الأهم التالي, حيث جاءت السنة المصرية النجمية كتطوير للسنة الفيضانية.
توصل المصريون (بالملاحظة المتأنية الطويلة) لرصد توافق ظهور النجم "سبدت" مع شروق الشمس وقت الفيضان, مع التكرار المنتظم المستمر أبداً.
وللنجم "سبدت" في سماء مصر ظهورين كبيرين, مختلفي الزمان والمكان, حيث يحجب قرص الشمس ظهور الشعرى لبعض الوقت, لوجودهما على خط واحد بالنسبة لبعض الأماكن.
الظهور الأول للنجم "سبدت" يكون في وسط سماء مصر مرتبطاً ببداية زمن وصول الفيضان, إعتباراً من مكان الشلال الأول (جنوب أسوان) قريباً من خط العرض 22 الممثل لحدود مصر الجنوبية الحالية.
بينما يكون الظهور الثاني مرتبطاً بشروق الشمس معه أو بعده بقليل جداً , أي في أقصر مسافة زمنية بين رؤية الشروقين الإحتراقيين للنجمين العظيمين "سبدت" و"الشمس", ويكون ذلك مع قرب زمن إكتمال الفيضان, قريباً من خط العرض رقم 30 على شواطئ العاصمة "أون" وسط مصر.
أما الظهور الأول ففيه إحتفاليات عيد "ليلة النقطة".
وأما الظهور الثاني ففيه إحتفاليات عيد "رأس السنة المصرية".
وخلال المدة التي بين رؤية الظهورين الكبيرين تكون المهرجانات المتنقلة بين المدن النيلية إحتفالاً بحابي في عيد "وفاء النيل"! 
الظهور الأول ليلي وغير مرتبط بشروق الشمس , لذلك كان التعامل في حساب السنة النجمية مع الظهور الثاني الذي يأتي بنهاية الليل وأول النهار.
إستثمر المصري القديم تلك الظاهرة الفلكية النادرة وإرتباطها بالظاهرة الطبيعية الخاصة بمصر (الفيضان), وإخترع منها مقياساً أكبر للزمن , غاية في الدقة والإنتظام حتى الآن!
لأنه حسب عدد الأيام من لحظة ظهور النجم "سبدت" قريباً من وقت شروق الشمس, وجمع تلك الأيام التي بين كل ظهورين, وسماها "سنة" (رنبت) , فأصبح الناس يحسبون أعمارهم, وسنوات حكم الملوك, وينظمون أعمالهم وزراعاتهم ومناسباتهم الرسمية والإجتماعية وغيرها من الأحداث, بالمقياس المصري النجمي الفيضاني الجديد "السنة"!
الظروف التي أدت لإختراع المقياس الجديد للزمن (السنة) , كلها ظروف خاصة بـ مصر, بل ربما وتحديداً عاصمة مصر القديمة في دولة الوجه البحري "أون", لذلك نستطيع -بكل ثقة-  تأكيد أحقية المصريين في براءة إختراع "السنة"!
عدد من المؤلفات في العلوم, منها كتاب "تاريخ العلم" لـ "ج ج كراوثر" ترجمة يمنى الخولي, وكتاب "مولد الزمان" لـ "جون جريبن" ترجمة مصطفى فهمي, وكذلك الموسوعة الفلكية الألمانية, يؤكدون أن الوسيلة الوحيدة لإكتشاف دورة كاملة لأي نجم من النجوم, قبل صعود الإنسان للفضاء, لا تتوفر للإنسان إلا بالمراصد الضخمة, مثل مرصد هابل, وقبل ذلك لم يكن الإنسان يستطيع رصد أي دورة نجمية كاملة!
بمعنى أنه لولا الملاحظة والمثابرة والعمل الدؤوب وإجتهاد أجيال طويلة بما أدى لإختراع المصريين مقياس "السنة", لكان يفترض أن يظل الإنسان محروما من ذلك المقياس الكبير الدقيق للزمن, ولما إستطاع تجاوز مقياس "الشهر" حتى الثلث الأول من القرن العشرين!
لذلك فإن ما توصل إليه قدماء المصريين هو شئ عظيم جداً يستحق التمجيد والإحتفال كل سنة, صحيح أن المرصد الذي إستطاعوا به الإكتشاف والإنجاز لأنفسهم وللعالم, هو عبارة عن ظواهر طبيعية (ظهور نجم + شروق الشمس+الفيضان), لكن رصد الظاهرة وتنظيمها وإستثمارها, هو بلا شك عمل إبداعي عظيم!
  • ·       بدايات وصعوبات التطبيق
ظهر فى الفترات الأولى من وضع هذا التقويم أن الفصول ومواعيد الزراعة تقع فى شهور هى بعينها من كل سنة, ولكن ذلك الفارق القليل بين التقويم –في صورته الأولى- ودورة نجم سبدت أخذ يُحدث أثره على مر السنين, ثم توالت القرون فصار الفرق يزداد، وصارت الفصول ومواعيد الزراعة تقع فى شهور غير التى قدرت لها, ولم يخف هذا الفرق على العلماء الباحثين، بل أدركوه وعرفوا أنه ربع يوم في السنة, ولكنهم  تركوا التقويم على ماهو عليه، ربما بسبب إختلاط المفاهيم العلمية بمتطلبات السياسة والدين في بعض الفترات, فإكتفوا بأن يقومون بتسجيل الفرق كلما حانت فرصة لتدوينه, الأمر الذي جعل "مارتن برنال" مؤلف كتاب "أثينا السوداء" يُسمي التقويم المصري المرتبط بالنجم "سبدت" والشمس بالتقويم المدني, تمييزاً له عن التقاويم القمرية التي فرضتها –بعد ذلك-بعض القيادات السياسية القديمة.
وبما أن السنة تنقص ربع يوم فمن البديهى أن يتوالى هذا النقص بمقدار عدد أيام السنة مضروباً فى أربعة، أى 365 × 4 = 1460 تضاف إليها السنة التى نقصت فى هذه المدة فيكون المجموع 1461، ومعنى هذا أنه كلما مضت 1461 سنة إعتدل الحساب من جديد، وعادت "سبدت" تظهر على شاطئ نيل العاصمة "أون" مع شروق الشمس فى موعدها الصحيح أول يوم من شهر "توت"!
الآن يستطيع الفلكيون أن يعرفوا دورات الشعرى اليمانية ودورات الشمس فى الماضى كما يعرفونهما فى الحاضر والمستقبل, فهم يعرفون جميع السنين التى ظهرت فيها الشعرى اليمانية فى أفق مصر مع شروق الشمس، ويعرفون أيضا أنها لا تظهر كذلك إلا فى منطقة تقع فى الدرجة الـ 30من خطوط العرض، وتلك المنطقة هى منطقة الوجه البحرى حيث كانت مدينتا "منف" و"أون", وبما أن "منف"  لم تكن قد نشأت حينما وضع التقويم المصرى، حيث أسسها الملك "مينا" بعد توحيد القطرين (الأخير) عام 3200 ق.م, فلابد أن يكون أساس الحساب هو ظهور"سبدت" الشعرى اليمانية فى أفق هليوبوليس "أون", ليحدث ما يطلق عليه في كتاب "أثينا السوداء" بالشروق الشمسي للنجم "سبدت" .
وبذلك يتأكد الظن أن علماء "أون"، أى كهنتها، هم الذين وضعوا التقويم, وهذا يتفق مع المعروف عن تلك المدينة العظيمة من ولعها بالعلوم كالفلك والرياضيات والطب والكيمياء وغيره، إذ الأدلة قائمة على أن المدينة التي تأسست زمن عصر التوحيد الثاني للقطرين (زمن الملك العقرب 4500 ق.م) كانت منذ ذلك الزمن وقبل عصر ما قبل الأسرات ذات نفوذ علمى ودينى واسع, وقد إستمر نفوذها هذا فى عصر الأسرات، كما إستمرت عبادة معبودها "رع" خلال وإلى نهاية حكم الأسر المصرية الثلاثين, حسب قوائم المؤرخ المصري "مانيتون" السمنودي.
حيث أن مما إشتهرت به مدينة "أون" على وجه الخصوص، أن كهنتها كانوا فى كل وقت يعنون برصد الشمس والنجوم, وكانوا يدونون نتائج مشاهداتهم سنة بعد أخرى, لذلك اُطلق على ديانة "رع" بأنها ديانة فلكية, وديانة شمسية,  وكان من ألقاب رئيس كهنتها :
المبصر العظيم, ورئيس الذين يبصرون الشمس وجهاً لوجه!
  • ·       وثائق التقويم المصري
ترك المصريون القدماء عدة قرائن وخرائط فلكية "زودياك" مرسومة أو محفورة على الحجر لأجزاء من السماء, ودلائل معرفتهم بالتقويم منها :
  1. قسمة طول قاعدة الهرم الأكبر (الأسرة الرابعة من الدولة القديمة)  بالبوصة ÷ 25 بوصة (مساوية لوحدة القياس المصرية) = 365,25, أي الرقم الصحيح لعدد أيام السنة.
  2. الكتابات الموجودة في الممر الأفقي من هرم "أوناس" (الأسرة الخامسة من الدولة القديمة)  بسقارة, تتحدث عن قصة خلق  السنة, بشكل أسطوري, ثم كيف تم تصحيح ذلك الإكتشاف السابق من 360 يوم إلى 365 يوم.
  3. زودياك في سقف مقبرة "سن ن موت" من الأسرة 18- مستشار الملكة "حتشبسوت"– الدير البحري بالأقصر.
  4. ساعة مائية منحوتة على شكل إناء (طاجن) من الرخام , زمن الملك أمنحتب الثالث , منقوش على جدرانها الداخلية خطوط وثقوب بعدد 12 ساعة لليل ومثلها للنهار, ولمعرفة الوقت يتم مراقبة مستوى المياه , حيث تسيل بحساب من ثقب في القاع, النقوش الموجودة خارج جسم الإناء عبارة عن الأرباب الحامية لعشرة أيام تمثل الأسبوع (عاشورا) المصري, ورموز للكواكب, وتصوير لمجموعة النجم القطبي على هيئة أرباب – متحف كاسل , ألمانيا.
  5. خريطة فلكية ببروج السماء, واحدة من أقدم خرائط البروج, توضح النجوم التي لا تأفل أبداً, وعدد أيام السنة (365 يوم), بالتفصيل على سقف حجرة التابوت في مقبرة الملك سيتي الأول بوادي الملوك بالأقصر.
  6. خريطة فلكية مذهلة لأجزاء من بروج السماء في معبد الرمسيوم بالأقصر(رمسيس الثالث).
  7. زودياك تفصيلي لشهور وفصول السنة (الخريطة المقدسة) في معبد دندرة.
  8. وثائق مكررة خاصة بعدد كبير من ملوك مصر, خلال الأسر المختلفة, عن يوم وشهر وسنة تولي الحكم إعتباراً من اليوم التالي لإنتهاء حكم الملك السابق, وتدوين عدد السنوات التي قضاها الملك نفسه, والمناسبات المميزة خلال فترة حكم كل ملك!
من ذلك نطالع بعض ما دونه االمصريون عن التقويم ودورة النجم,  فنجد أنهم يجعلون لـ "سبدت"  مقاماً دينياً, حيث كانوا يقيمون لها إحتفالية (عيد نقطة إيزيس) مع ظهورها بداية الفيضان، وفى عهد تحوتمس الثالث وصلنا نقش على أحد الصخور فى معبد الفنتين (بأسوان) يقول أن الشعرى اليمانية ظهرت قبيل شروق الشمس فى يوم 28 من شهر أبيب بدلاً من اليوم الأول من شهر توت, ومثل هذه 
البيانات تكفى علماء الفلك فى وقتنا الحالي لكى يعرفوا أن ذلك الفارق وقع فى المدة من سنة 1474 إلى سنة 1471 قبل الميلاد ومن الضرورى أن نذكر هنا أربع سنوات لأن الفرق فى السنة الواحدة ربع يوم, فلابد أن تكون "سبدت" قد ظهرت فى ذلك المكان يوم 28 أبيب أربع سنوات متتالية!
كما جاء فى ورقة من أوراق البردى الطبية معروفة بإسم " بردية إيبرس " أنه فى السنة التاسعة من حكم الملك أمنحوتب الأول ظهرت "سبدت" مع شروق الشمس فى يوم 9 أبيب.
يعرف علماء الفلك أن ذلك الحادث الأخير زمن "أمنحتب" قد وقع فى المدة من سنة 1550 إلى سنة 1547 ق. م, ومن هنا يمكن أن يقال أن الأسرة الثامنة عشرة جلست على العرش فى نحو سنة 1580 ق . م.
كذلك فى ورقة من البردى تعرف باسم "بردية اللاهون" ذُكر أنه فى عهد الملك سنوسرت الثالث (الأسرة الثانية عشرة)، وفى السنة السابعة من حكمه ظهرت "سبدت" فى 16 برمودة بدلاً من أول توت, وعلماء الفلك يعرفون أيضاً أن ذلك  قد وقع فى المدة من سنة 1882 إلى سنة 1879 ق م, وبتلك الطرق الحسابية إستطاع الأثريون أن يعرفوا زمن إبتداء جلوس الأسرة الثانية عشرة على العرش الذي كان حوالى سنة 2000 ق.م .
  • ·       من هو مخترع التقويم؟
على الطريقة الأزلية في إهتمام وشغف الناس بمحاولة معرفة من فعل ماذا؟ يحاول البعض معرفة إسم الشخص الذي إستطاع رصد الظاهرة الفلكية وربطها بظاهرة إكتمال الفيضان, ثم أعاد الرصد عشرات أو مئات المرات, ليتوصل في النهاية لتلك النتيجة المعرفية الثمينة.
الإجابة هي أنه لا يمكن أن يكون ذلك عمل فردي, بل هو بالتاكيد تراكم جمعي, إبداع ومثابرة, متلازم ومتعاقب, والأقرب للمنطق أن إختراع التقويم جاء نتيجة مجهود أجيال متعاقبة من الجماعة العلمية الفلكية المقيمة في أقدم جامعات الوجود, جامعة "أون", تلك التي تؤكد التوراة (العهد القديم) أن أبو الأنبياء الخليل إبراهيم عليه السلام قد إلتحق بها, وكذلك موسى عليه السلام "تخلق بأخلاق المصريين" بالتعليم فيها!
  • ·       بداية التاريخ وتوحيد الدولة
إذا أخذنا بالتاريخ القصير الذى وفقاً له  يكون الملك ( مينا ) قد حكم نحو سنة 3200 ق . م, فالتقويم المصرى كان موجوداً قبل هذا الملك بأكثر من ألف سنة, أي خلال المحاولة التوحيدية السابقة له,  وتحديداً في عصر الدولة التي أسسها الملك المعروف بإسم "العقرب" سنة 4500 ق.م,  وإستمرت لما يقرب من 700 سنة, لكن الوثائق المصرية لا تنسب التقويم لملك معين, إنما تنسب إختراعه وإبتداعه لـ  "تحوتي".
ومن الجدير بالذكر أن عالم المصريات الكبير "جيمس هنري بريستيد", الذي كان من أشد المعجبين بقدرة المصريين على وضع هذا التقويم منذ ذلك الزمن القديم, قال فى كتابه "تاريخ مصر القديم" :
"إن هذا التقويم العظيم الذى كان يستعمل فى عصر بعيد، هو بعينه الذى يستعمل فى أيامنا هذه, فقد حمله يوليوس قيصر من مصر إلى روما فإستُعمل فيها على أنه أفضل تقويم, ثم ورثناه نحن عنها, وبذلك يكون قد إستُعمل بغير إنقطاع أكثر من ستة آلاف سنة, وقد كان المصريون من أهل الوجه البحرى وعاصمتهم "أون"، الذين عاشوا فى نحو القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد، هم أصحاب الفضل علينا فيه, ومن المهم أن نلاحظ أنه خرج من أيدى واضعيه الأولين، بشهوره الإثنى عشر، والتى كان كل شهر منها ثلاثين يوما ، أفضل مما صار إليه بعد أن عدله الرومانيون "!
ثم يكمل "بريستيد" بترجمة سليم حسن في "فجر الضمير" :
"وقد كان الذى فعله يوليوس قيصر أنه لما جاء إلى الإسكندرية وجد فيها التقويم المصرى النجمي، وكانت روما لا تزال تستعمل التقويم القمرى، فلما عاد إليها حمله معه ، فأخذه الرومانيون وأضافوا إليه يوما كل أربع سنوات فتكون كل سنة من السنوات الثلاث الأولى 365 يوما ثم تكون السنة الرابعة 366 يوما, وسموا الثلاث سنوات الأولى بسيطة والسنة الرابعة كبيسة!
وفى سنة 1582 قررمجمع الكرادلة برئاسة البابا (جريجور الثالث عشر) إدخال تعديل طفيف على التقويم الرومانى, فسمى تقويمه هذا بالتقويم الجريجورى، وهو الذى يستعمله العالم إلى الأن, بإسم التقويم الميلادي"!
  • ·       مازال التقويم المصري هو الأفضل عالمياً
كتب جورج بوزنر في معجم الحضارة المصرية القديمة :
"وضع قدماء المصريين تقويماً وأحكموا وضعه, حتى ليقول خبراء التقاويم: لاشك في أن ذلك التقويم هو الوحيد الذي عمل بذكاء في التاريخ البشري كله, لقد إعترف علماء الفلك الهيلينستيين بميزة التقويم المصري وإعتمدوا إستعماله في حساباتهم, وإنتفع به كوبرنيكس, وربما عاد العالم إلى إستعماله في يوم ما".
  • ·       التقويم المصري أساس تقاويم العالم
إستفاد البشر من إختراع المصريين, وقاموا بتنظيم حياتهم وحساباتهم بالمقياس الزمني الجديد (السنة), لكنهم طوعوه حسب ظروف ومعارف كل مجتمع, ما بين تقاويم نجمية وشمسية وقمرية, مدنية ودينية, لينتج عدد كبير من التقاويم, منها على سبيل المثال :
(1)                 التقويم الآشوري "السرياني".
(2)                 التقويم الأمازيغي.
(3)                 التقويم الروماني.
(4)                 التقويم القبطي.
(5)                 التقويم الأثيوبي.
(6)                 التقويم العبري (مدني وديني / شمسي وقمري).
(7)                 التقويم البيزنطي.
(8)                 التقويم الفارسي.
(9)                 التقويم الصيني (قمري).
(10)           التقويم البنغالي.
(11)           التقويم السلوقي.
(12)           التقويم الميلادي الجولياني.
(13)           التقويم الهجري (قمري وشمسي).
(14)           التقويم الكوري.

معنى ما سبق,  أن التقاويم المطبقة في كل الدنيا حتى الآن, مع إختلاف أشكالها وأسباب صدورها وطرق حساباتها, إستخدمت المعيار الزمني للتقويم المصرى "السنة", معدلا وفقا لتوجهات قومية ودينية مختلفة!
على أية حال, وأياً كان سبب إحتفالنا ببداية إعادة العمل بالتقويم المصري, وأياً ما كانت التوجهات الساعية لعودة ذلك الحدث إلى بؤرة الإهتمام, فإن الإحتفال بإختراع "السنة" وبداية التقويم , التي أرجو أن تستمر رسمية وشعبية في السنوات القادمة, هي إحتفاليات بالإنسان المبدع في كل العالم.

No comments:

Post a Comment