Translate

Friday, January 24, 2014

لماذا انهارت؟ وكيف تنهض؟ بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى ٢٤/ ١/ ٢٠١٤

ونحن نتحدث عن الثقافة، يجب أن نتذكر دائماً أن قضية الثقافة قضية محورية إذا تحدثنا فيها تحدثنا فى كل شىء، وإذا تحدثنا فى أى شىء تحدثنا فى الثقافة ورجعنا إليها.
الحديث فى الثقافة لابد أن يأخذنا للحديث عن السياسة، وعن الدين، وعن الأخلاق، وعن التاريخ، وعن الاقتصاد، وعن أنفسنا، وعن الآخرين.. كما أن الحديث عن أى من هذه الموضوعات لابد أن ينتهى بنا للحديث عن الثقافة التى اشتق اسمها فى كل اللغات من أسماء وصناعات وأنشطة أخرى.
ومن الطبيعى أن ترتبط كلمة الثقافة فى اللغة العربية بحياة العرب القدماء، وأن تشتق مما كانت تقوم عليه هذه الحياة من نشاط، وما كان سائداً فيها من قيم وتقاليد. ولأن الحياة فى البادية صراع دائم على الماء والكلأ، وغزوات متبادلة وحرب لا تنتهى، فالثقافة فى بداية أمرها كانت تعنى تقويم الرمح وتسويته وتهيئته للنزال، ثم استعيرت لتقويم العقل وتأديب النفس وتهذيبها حين أصبحت الحياة بحثا عن القيمة واختياراً لطريق من طرق وصراعا بين فكرة وفكرة تتغلب فيه إحداهما على الأخرى.
ومن الطبيعى كذلك أن يختلف المعنى الأول للثقافة فى اللغات التى نشأت فى بيئات مستقرة وحياة اجتماعية منظمة، كما نرى مثلا فى اللغات الأوروبية التى ارتبطت فيها ثقافة العقل بثقافة الأرض، فالثقافة والزراعة فى اللغات اللاتينية من أصل واحد. وإلى هذا الأصل أيضا ترجع الكلمات الدالة على الحرث والغرس وتربية البدن وممارسة الشعائر الدينية.
ولا شك أن الثقافة بمعانيها فى اللغات الأوروبية أقرب إلينا من الثقافة بمعناها العربى القديم. لأن الاستقرار.. فى مصر هو الأصل. والزراعة هى حرفة المصريين قبل أن تكون حرفة غيرهم. ولهذا فهم المصريون الثقافة بمعناها المجازى وحده. فالثقافة فى مصر لا تتصل بالحرب بل تتصل بالسلم. بالعمل والعقل والخلق والإبداع، وليس بالغزو والقنص. ومن هنا يتحدث المصريون عن التربية وعن الأدب بمعنييه: إبداع النصوص، وتهذيب النفوس. والمصريون يغنون للأرض التى أصبحت تتكلم العربية، كما قال فؤاد حداد فى كلماته البديعة التى غناها سيد مكاوى.
أرض مصر تنتج وتثمر غلة وفاكهة وزهورا مختلفة ألوانها، أليست هذه فصاحة؟ وأليست اللغة العربية فى مصر لغة محروثة مغروسة مبذورة مسقية مروية أطلعت لنا شوقى وحافظ، وطه والعقاد، والحكيم ومحفوظ وزملاءهم وخلفاءهم؟
هذا هو ما أراد أن يقوله فؤاد حداد. أما أنا فأريد أن أقول إن قضية الثقافة ليست قضية بسيطة وعديمة الخطر يمكن أن نؤجل الحديث فيها أو نضعه فى آخر جدول أعمالنا أو نبتسره ونغلقه قبل أن نكمله. وإنما الثقافة قضية محورية تتصل بحياتنا كلها وتؤثر فيها وهذا ما وضحته فيما سبق. والثقافة من ناحية أخرى قضية عاجلة مطروحة علينا بإلحاح فى هذه الأيام، وإن كان إلحاحها يتميز بما تتميز به الثقافة من تلطف يغرينا بتأجيل النظر فيها، خاصة ونحن نعالج ما ترتب على سقوط النظام من خلل ونعمل بكل طاقتنا على إقرار الأمن من ناحية وإنعاش الاقتصاد وتأمين الضروريات اليومية من ناحية أخرى.
غير أننا فى مواجهتنا لإرهاب الجماعة الإرهابية وفى سعينا لإقالة عثرات الاقتصاد نحتاج للثقافة. لأن الإرهاب ليس مجرد بنادق وقنابل وسيارات مفخخة، وإنما هو نفوس مريضة وأفكار مختلة لها جذورها التى لا نستطيع أن نستأصلها برجال الأمن وحدهم، وإنما نستأصلها وينحل محلها ثقافة العقل والحرية والمواطنة والمعاصرة والتقدم والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وكذلك نحتاج فى نشاطنا الاقتصادى للثقافة، وهل نستطيع أن نزرع الصحراء ونوفر المواد الأولية والاستثمارات الكافية والتقنيات الحديثة، ونفتح الأسواق القريبة والبعيدة، ونتعاون مع غيرنا فى هذا النشاط ونستفيد بتجارب الأمم الأخرى إلا بثقافة شاملة نمتلك بها هذه الإمكانيات وهذه الخبرات؟
ثم إن المرحلة الفاصلة التى نمر بها وتمر بها ثقافتنا تفرض علينا أن نراجع ما خرجنا منه ونستكشف ما نحن فى الطريق إليه، نحصى أرباحنا وخسائرنا. ونعترف بأخطائنا حتى لا نكررها ونجعلها خبرة ودرسا نستفيد منه فى التخلص من الماضى الذى ثرنا عليه، وبناء المستقبل الذى نحلم به.
وليس بيننا من ينكر أن ثقافتنا خسرت الكثير فى العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، وتراجعت فى كل المجالات كماً وكيفا. ولست فى حاجة لتقديم أدلة كثيرة أو أمثلة. ما علينا إلا أن ننظر لما أصاب السينما المصرية، والمسرح المصرى، والأغنية المصرية، وكانت هذه الفنون الثلاثة حتى ستينيات القرن الماضى مواسم عامرة وموائد حافلة وأعياداً يومية، وأمجادا قومية نعتز بها ونزهو، فصارت ساحات خالية وأبنية مهجورة وما علينا إلا أن ننظر للغتنا العربية لنرى ما أصابها. لا اللغة التى نستخدمها فى حياتنا اليومية فحسب، بل لغة المتعلمين والمثقفين أيضا، وحتى لغة المشتغلين بالأدب والعلم.
ومنذ بضعة أيام كنت أشاهد مع ملايين المشاهدين وأستمع معهم لبيان مهم انتظرناه وانتظره معنا العالم كله، وقرأه علينا رجل من رجال القانون، فأفسد علينا فرحتنا بما جاء فى البيان، لأنه لم يترك حرفا عربيا إلا وأساء نطقه ولا قاعدة نحوية إلا وخرج عليها، حتى لقد أدى بنا فساد لغته إلى الشك فى صحة ما جاء فى بيانه. وهو استهتار بالمناسبة وبنا وبمصر كلها، لأن مصر تتمثل فى لغتها القومية. واللغة الفاسدة تثير الشعور بعدم الطمأنينة، وتمنعنا من تصديق ما تقوله. وهذا الشعور هو ما عبر عنه المصريون البسطاء الحكماء بقولهم: كذب سوى يوافق بعضه بعضا، خير من صدق متناقض مضطرب! ومن المؤسف أننا جمعنا فى العقود الماضية بين الشرين: المعلومات الكاذبة المزيفة، والتعبير السوقى المبتذل.
ما الذى حدث لتنهار ثقافتنا بعد نهضتها؟
الذى حدث هو أننا خضعنا لنظام عسكرى زعم أنه جاء ليصحح مسار الديمقراطية فأوغل بنا فى ظلمات الطغيان. صادر الحريات واحتكر منابر الرأى وأجهزة الإعلام، ونكل بالمعارضين، وحارب الثقافة بالدعاية لنفسه، وحرم النقد، وفرض الرقابة، وخلط الدين بالسياسة، وحول المثقفين إلى موظفين!
لكننا أسقطنا هذا النظام منذ ثلاث سنوات وأسقطنا وريثه بعده!
نعم، أسقطنا النظام العسكرى البوليسى، وأسقطنا النظام الإخوانى الفاشى، وبقى أن نبنى نظاما جديدا على أساس صحيح تستعيد به الثقافة المصرية استقلالها، ويستعيد به المثقفون حريتهم. وإذن فالسؤال المطروح علينا الآن هو: كيف يمكن أن نستفيد من تجربة الماضى فى تصحيح علاقة الثقافة بالدولة؟
وسنبدأ الإجابة عن السؤال بالتذكير بما قلناه عن العلاقة العضوية التى تربط الثقافة بكل نشاط إنسانى، فمن البديهى أن ترعى الدولة الثقافة وأن توفر للمواطن المصرى حاجته منها، وهذا ما نص عليه الدستور الجديد، لكن على النحو الذى يحفظ للثقافة استقلالها وللمثقف حريته وسلطته الأخلاقية.
وقد رأينا ما صنعته النظم الساقطة بالثقافة المصرية، فى العقود الماضية، وما أدت إليه سياساتها وأعمالها من مآسٍ وكوارث فى كل مناحى الحياة. وهذا هو الدرس الذى يجب أن نحفظه ونبدأ منه.
نعم، على الدولة أن ترعى الثقافة، لكن دون أن تحولها إلى ملكية خاصة، ودون أن تصادر حق المجتمع فى رعايتها، ودون أن تعتدى على حرية المثقفين، ودون أن تضع الثقافة فى خدمة السلطة الحاكمة.
علاقة الدولة بالثقافة يجب أن تنحصر فى توفير ما تحتاج إليه الثقافة من إمكانات مادية وخبرات فنية وإدارية، وألا تتحول بأى صورة من الصور إلى هيمنة وإملاء.
كيف نطبق هذا المبدأ على المؤسسات الثقافية التابعة للدولة؟
الجواب فى الأسبوع القادم.

No comments:

Post a Comment