الثروة والنفوذ لم يعودا بحجم الإنتاج الزراعى والصناعى، وإنما بالابتكار والفكر. ابتكار التليفون المحمول أو برنامج كمبيوتر أدى إلى ثروات لبضعة أفراد تزيد على دخول عدة دول مجتمعة. السينما الأمريكية تحقق إيراداً وتأثيراً ثقافياً يفوق أجهزة إعلام العالم مجتمعة. العلم والثقافة والمعرفة أصبحت هى التى تقود العالم. دخلت مصر عصر الفكر الحديث منذ ولاية محمد على، ونظراً لأن التعليم والثقافة المرتبط بالغرب قد بدأ فى مرحلة مبكرة فى مصر مقارنة بدول الشرق الأوسط، ولأن التعليم كان متاحاً للمتفوقين الفقراء تكونت فى مصر طبقة من العلماء والمثقفين والتكنوقراط العظام أثروا فى المنطقة العربية كلها. فالمدرسون المصريون انتشروا قبل ظهور البترول وبعده فى البلاد العربية، وكذلك الأطباء والمهندسون والمكاتب الاستشارية الهندسية والقانونية وبيوت الخبرة. وكانت مصر هى دولة الثقافة بكافة جوانبها، فالأدباء الكبار الذين أثروا فى المنطقة العربية كان معظمهم من مصر، والفن التشكيلى الحديث ظهر فى مصر وانتقل منها للعالم العربى، وفنون المسرح ظهرت فى القرن التاسع عشر فى القاهرة. صحيح أن الشوام شاركوا فى البدايات فى المسرح والصحافة ولكن المصريين أبدعوا وأكملوا المشوار، والسينما كانت مصرية وكان اليهود المصريون من أوائل من بدأوا المشوار.
هذه القوة الناعمة الكبيرة والعظيمة فى كافة الفنون والمعرفة قادت مصر لتصبح أهم وأغنى دولة بالمنطقة عقوداً طويلة. هذه القوة نتجت عن تعليم حديث وتقدم فى مصر بدأ منذ أوائل القرن العشرين بإنشاء الجامعة المصرية وتطوير كافة مدارس الطب والهندسة والحقوق وغيرها إلى كليات حديثة وإنشاء كلية الفنون الجميلة، ثم كليات الفنون التطبيقية، وأدى هامش الحرية الواسع إلى تقدم الصحافة والكتابة والأدب والمسرح والسينما، والحرية لم تكن فقط حرية سياسية، وإنما كان هناك انفتاح فى مناقشة القضايا الفلسفية والدينية والتاريخية، وكانت الدولة العربية الوحيدة التى حصل أبناؤها على جوائز نوبل فى الآداب والعلوم.
وبذا أصبحت مصر الدولة الفقيرة فى مواردها، أغنى دول المنطقة، وبالرغم من ارتفاع نسبة الأمية إلا أن أعداد المتعلمين والمثقفين كانت كبيرة، وتحسن وضع المرأة فى مصر تدريجياً وأصبحت تشارك فى كل شىء منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضى.
ماذا حدث للقوة الناعمة المصرية؟ لقد تآكلت وضعفت بسبب الكارثة التى حلت بنظام التعليم المصرى، وبسبب انهيار هامش الحريات خلال عدة عقود مضت. فى هذه الأثناء تحسن وضع التعليم فى المنطقة العربية وخرج عشرات الآلاف من الشباب إلى الغرب للدراسة وتمتعوا بهامش واسع من الحرية فى الخارج فحدثت طفرة.
الدولة المصرية خلال عدة عقود لم تهتم بالقوى الناعمة، بل كانت لا تريد لها الظهور والتقدم لتصورها أن هذه القوى تنتقد الحكام والنظم السياسية، وتدخلت الدولة مراراً وتكراراً بطرق مختلفة من الرقابة والحظر والتعتيم على منتجات ثقافية عظيمة وخلال سنوات مختلفة تم سجن مفكرين وكبار المثقفين والمبدعين فأثرت هذه الضربات المتتالية على القوى الناعمة وأضعفتها وتركت العالم يتقدم ونحن محلك سر.
حين فقدت مصر الاهتمام بالتعليم والتدريب وأصبح لا يشكل أهمية عند القيادة المصرية وانخفضت ميزانية التعليم إلى حد مذهل، وفى نفس الوقت ارتفعت ميزانيات وزارات أخرى. بل اهتمت بتشجيع التعليم الخاص فى المدارس والجامعات حتى تتخلى عن مبدأ الصرف على التعليم، وبدلاً من طه حسين الذى أقنعه مصطفى النحاس بتولى وزارة المعارف واشترط مجانية التعليم الأساسى والثانوى، أصبح وزراء التعليم محدودى الكفاءة والثقافة والمعرفة، قد يكونون حاملى شهادات دكتوراه ويعملون أساتذة فى الخارج والداخل ولكن فكرهم محدود ومهمتهم الأساسية هى إرضاء الحاكم وليس تطبيق فكر يرفع التعليم فى مصر ومعظمهم غير قادرين على الاستماع لأفكار الخبراء. فضعف حال التعليم وأصبح التعليم الجيد للأغنياء فقط الذين يستطيعون أن يدفعوا تكاليف مرعبة للتعليم، وأصبح خريجو هذه المدارس نصف خواجات، والكثير منهم يسافرون إلى الخارج ليعملوا ويقيموا هناك بعيداً عن مصر التى يعتبرونها لا تحقق أحلامهم. أما الطبقة الوسطى التى بنيت مصر على أكتافها فخرجت من حيز التعليم الجيد وصعود السلم الاجتماعى عن طريق التفوق فى التعليم العام الذى أصبح مستحيلاً، ففقدنا مواهب عظيمة تم دفنها.
مشاكل مصر كبيرة ومتشعبة، بعضها خارجى وبعضها داخلى، وحلولها ليست سهلة ولكن التفكير طويل المدى لا بد أن يبدأ من التعليم العام الحديث المتقدم المتاح للجميع حتى نستطيع أن ننافس عالميًا مع تعداد مصر الكبير والذى يتزايد يومًا بعد يوم. الثقافة والفن المصرى لا بد أن يعودا إلى مكانتهما والمصريون عندهم القدرة على أن يسودوا بالتعليم والثقافة والفن هذه المنطقة كما كانوا سابقًا.
إنه لشىء محزن ومُبكٍ ألا يوجد فيلم روائى واحد يصلح للمشاركة فى مهرجان القاهرة السينمائى ولا مهرجان الجونة ولا مهرجان الإسكندرية. السينما المصرية التى كانت ثالث دولة فى العالم إنتاجاً للأفلام فى الأربعينيات من القرن الماضى لا تستطيع الحصول على جائزة فى أى من المهرجانات العربية.
دعنا نفكر شعبًا وحكومة فى حلول حقيقية، وكيف نشجع السينما والمسرح ونضع حلولًا لمشاكلهم الاقتصادية ونخفف عبء الرقابة ونترك الفنانين والكتاب والمخرجين يقدمون أعمالهم بحرية. التدخل فى الفنون يحبطها ويجهض أحلام مصر فى الريادة.
دعنا نلتفت بجدية إلى إصلاح التعليم العام الحكومى لنلحق بالدول المجاورة وليس أوروبا كما كان هدفنا فى أوائل القرن العشرين. مصر كان لها إمكانيات ضخمة وموروث ثقافى كبير يجب أن ننميه ونرفعه ونشجعه حتى نعود إلى مكانتنا الطبيعية التى تنازلنا عنها بأنفسنا، بقصر نظر شديد وبدون وعى على مخاطر ذلك.
قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك
No comments:
Post a Comment