«نحن على حافة العالم الآن، ومصير كرامة الإنسان بين أيدينا، الدماء سفكت من أجل هذه اللحظة، وأنتم تصرخون وتتلاسنون وتتشاجرون حول أمور تافهة مثل الباعة الجائلين فى سوق شعبية، أدركوا ما هو أمامكم، أدركوا هذا الآن، وفورا، وإلا فإنكم تهددون مستقبل هذه الأمة».
(هذه صرخة الرئيس الأمريكى أبراهام لينكون فى أعضاء مجلس النواب فى أثناء جلسة التصويت على طلبه بتعديل الدستور من أجل المساواة وإنهاء الرق).
لا توجد مناسبة تقليدية للكتابة عن لينكون، لكنه أكثر شخصية تعجبنى من بين رؤساء أمريكا، ليس فقط بسبب شجاعته فى مواجهة الحرب الأهلية، ونضاله من أجل وحدة أمريكا وعدم تقسيمها بين شمال وجنوب، ولا بسبب جرأته فى إعلان تحرير العبيد، ولكن بسبب شغفه بالحكايات «اللى من غير مناسبة»، فرئيس المشكلات والأزمات لديه قدرة عجيبة على الخروج من الموضوعات الخطيرة التى يطرحها عليه كبار المسؤولين فى إدارته، أو من جانب المعارضة، حيث يقطع الحوار ليحكى قصة طريفة تبدو لأول وهلة أنها بعيدة تماما عن الموضوع الساخن المطروح للنقاش، لكن يتضح مدى تأثيرها وارتباطها بالقضية!
وقصة الحمار، من أشهر الحكايات التى قامت «وما زالت تقوم» عليها السياسة الأمريكية حتى الآن، ففى أثناء انهماك النواب فى النقاش الساخن عن الحرب، وموقف الزنوج المجندين، أسرفت الكتلة المعارضة فى التخوف من مخاطر المساواة، وقدمت افتراضات كثيرة لإثبات جدية تخوفها، وفجأة وجه لينكون سؤالا للجميع: لو افترضنا أن ذيل الحمار قدم، فعندئذ يصبح للحمار كم قدم؟
أجاب النواب بحسبة سريعة وواثقة: 5 أقدام..
قال لينكون بهدوئه المعتاد، هذا أكبر خطأ، لأن افتراضاتنا لا تغير من الأمر الواقع شيئا.
وبهذه البرجماتية العاقلة نجح لينكون فى تمرير تعديل المادة 13، التى أرست مبدأ المواطنة والمساواة فى المجتمع الذى وصفه الأمريكان أنفسهم، بأنه «أمة من المهجرين»، و«أمة من الغنم»، و«مستودع الجنسيات المتنافرة».
فى نفس الجلسة كان أحد الديمقراطيين المعترضين يصرخ محرضا المجلس على رفض مشروع لينكون، لأنه سيقلب الأوضاع وينتقص من حقوق السادة البيض لصالح العبيد، ووجه سؤالا محرجا للرئيس: هل تطالب بالمساواة بيننا وبين هذا الحارس الزنجى كريه الرائحة؟
كان السؤال أشبه بفخ، يثير الغضب فى مجلس من البيض المؤيدين لاستمرار التفرقة مع السود حفاظا على امتيازاتهم، لكن لينكون أجاب بهدوء حاسم: لا أؤمن بالمساواة فى كل الأشياء، فهناك فروق بين الطويل والقصير، والنحيف والبدين، لكننى أطالبكم فقط بالموافقة على المساواة أمام القانون.
حاول كثيرون إثناء لينكون عن تعديل الدستور، لإقرار مبدأ المساواة فى المواطنة، بتكرار الحديث عن عدم امتلاكه نسبة الثلثين فى الكونجرس، وأمام هذه اللغة اليائسة المتكررة، حكى لينكون هذه الحكاية: «كنت أعرف صديقا لديه ببغاء، يُوقظه كل صباح على جملة كئيبة يكررها دوما: اليوم هو نهاية العالم، كما تنبأ الكتاب المقدس.
وكان صديقى يصبر على ببغائه الكئيب اليائس حتى يفهم أن العالم لم ينته، وأن نبوءاته ليست إلا وهما يسكن عقله هو، لكن الببغاء استمر دون فهم لما يقول، وذات يوم استيقظ صديقى متفائلا، وفوجئ بالببغاء يكرر نفس الجملة: اليوم هو نهاية العالم، فسحب مسدسه، وأطلق عليه النار، وعندما سألته لماذا فعلت هذا؟
قال: لسببين، أولهما من أجل السلام والهدوء، والثانى أننى أردت أن أحقق نبوءة الكتاب المقدس، فجعلت اليوم هو نهاية العالم بالنسبة للببغاء».
يقال إن لينكون كانت لديه عادة يومية وهى شراء جهاز تليفزيون صغير، يلقيه فى التواليت ويشد السيفون، وعندما سألوه: لماذا تفعل ذلك؟
قال: احتجاج رمزى على ظهور إعلاميين مثل أحمد موسى وعمرو أديب وتوفيق عكاشة.
تنبه أحد المستمعين، وأقسم أن الحكاية كاذبة لسببين، أولهما أن التليفزيون لم يكن قد ظهر أيام لينكون، وثانيهما أنه لا يمكن أن يتخيل أبراهام ولا أى عاقل أن يصبح مثل هؤلاء إعلاميين.
وقبل أن يموت لينكون كمدا أمام الشاشة قال: هذا «الخبل» أكبر دليل على غباء النواب الذين ساعدوا «الذيل الافتراضية» لتصبح «قدما»!
فاصل ونواصل.
No comments:
Post a Comment