كنت ضمن وفد من مجلس النواب المصرى فى زيارة للكونجرس الأمريكى، وهى الأولى من نوعها منذ عام ٢٠٠٨، وعلمنا ونحن فى واشنطن أن مجلس النواب سوف يبدأ فى مناقشة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية وهى الاتفاقية المعروفة إعلامياً باتفاقية «تيران وصنافير»، وعلى الفور قرأنا اتهامات من جانب شخصيات مصرية عامة للوفد المسافر بأنه تعمد الهرب أو تم تهريبه إلى الولايات المتحدة حتى لا يشارك فى مناقشة الاتفاقية، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إن السلطة التنفيذية تعمدت رشوة النواب بزيارة إلى واشنطن حتى لا يشاركوا فى مناقشة الاتفاقية، ثم بدأ التشكيك وبدأت الاتهامات المتبادلة بين من قال (نعم) ومن قال (لا).. اتهامات وتخوين، تهجم وإهانات، وكان هناك انقسام مشابه فى رأى العام والنخبة المصرية مع كيل الاتهامات المتبادلة والتخوين.
هنا وجدت نفسى فى أزمة شديدة، ماذا يمكن للمرء أن يكتب فى مثل هذه الأجواء الهائجة والمكارثية (التى سادت فى الولايات المتحدة فى خمسينات القرن الماضى ضد الشيوعية، فقد كان يكفى لمكارثى وأنصاره أن يوجهوا الاتهام لشخصية عامة بالانتماء للشيوعية كى يتم اغتياله معنوياً)، فإذا كتب المرء فى قضايا جوهرية تتعلق بجولة الوفد البرلمانى فلن يكون ذلك مقبولاً منه وسوف يُسأل عن رأيه فى تيران وصنافير، وإذا كتب رأيه حول الاتفاقية فسوف تنهال عليه الشتائم من الطرف الذى يتبنى وجهة النظر الأخرى، كان الحل العملى هو التوقف أياماً عن الكتابة حتى تهدأ الأنواء والعواصف، ويزول غبار المعركة التى دخل فيها الرأى العام المصرى، وتتنفس السلطة الصعداء بعد أن تمرر الاتفاقية فتصبح أكثر تسامحاً فى التعامل مع الرؤى المخالفة.
هدأت العاصفة، ودفع البرلمان ثمن سوء إدارة السلطة التنفيذية لملف من ملفات السياسة الخارجية، لو كانت هناك حِرفية أو خبرة سياسية لتمت إدارة الملف بحنكة ومهارة سياسية من خلال الاستعانة بقواعد التفاوض وحل المنازعات أو الخلافات، التى تتضمن طرقاً عديدة من بينها الوساطة والتوفيق والتحكيم، وهى علوم قائمة بذاتها، الدراية بها تكسب المرء مهارات متنوعة فى إدارة وحل مثل هذه الملفات، وفى تقديرى أن مصر لديها رجال على درجة عالية من المهارة والكفاءة فى علوم التفاوض، بل إن المفاوض المصرى هو الأمهر فى منطقة الشرق الأوسط والعالم العربى، وتكشف تجربة التفاوض مع إسرائيل من مفاوضات فض الاشتباك إلى كامب ديفيد ومعاهدة السلام وصولاً إلى استرداد طابا بالتحكيم الدولى، عن مهارات متقدمة، أصابت المفاوض الإسرائيلى بالاكتئاب الشديد مثلما حدث مع رئيس الوزراء الذى وقع الاتفاقية مناحم بيجن.
ما حدث عملياً هو أن الحكومة الحالية فاقدة للرؤية ومجردة من المهارة السياسية اللازمة لإدارة ملفات داخلية وخارجية، طريقتها الهوجاء فى الإدارة تدفع فئات المجتمع المصرى إلى الصدام مع بعضها البعض، وتخلق طريقتها فى التعامل مع ملفات حيوية أجواء مكارثية فى البلاد فى وقت تحتاج فيه مصر إلى تكاتف أبنائها من كل الأطياف والألوان، وتحديداً مكونات «تحالف ٣٠ يونيو».
No comments:
Post a Comment