«الإرهاب والكباب» هو أفضل وصف لمذبحة المماليك بالقلعة عام 1811، عشاء فاخر تحول إلى مقتلة.. دعا «محمد على» قادة المماليك إلى قلعته، يوم الجمعة الأول من مارس (قبل عيد ميلاده ببضعة أيام)، ثم أعمل فيهم الرصاص فى حدود الساعة الثانية ظهراً (وكأنها الضربة الجوية الأولى فى حرب أكتوبر 73).. قُتل فى القلعة نحو 470 من قادة المماليك، مع كل من صحبهم، حتى الخدم، وكذلك العامة ممن كانوا يلتحقون بالركاب افتخاراً.. بعدها ذهب الجنود لبيوت المماليك لسلبها ونهبها لأيام.
وقائع المذبحة نفسها مؤلمة، فمثلاً: «شاهين بك» قطعوا رأسه وذهبوا به مسرعين للوالى لأخذ البقشيش، أما «سليمان بك» فجرى لباب الحريم وصرخ: «أنا فى عرض الحريم»، وكان العرف يُحتم تركه، إلا أن الأعراف والتقاليد لم تزر القلعة فى هذا اليوم.. ووصل ثمانية من المماليك إلى «طوسون باشا» (ابن محمد على)، ونادوا عليه لينجدهم، فلم يستجب بالطبع (وهو بالمناسبة لم يكن يعلم بما خطط له أبوه).
فور النهاية قال الإيطالى «ماندريتشى»، طبيب «محمد على» لسيده: «اليوم يوم سعد لسموكم».. فشرب «محمد على» كوب ماء، ربما لبلع الموضوع، أو لإغراق ضميره.. وعلى طريقة الثانوية العامة الشهيرة «لم ينجح أحد»، كادت المذبحة تحذف حرف الحاء فحسب لترفع شعار «لم ينج أحد»، إلا أن «أمين بك»، أفسد هذا التناص اللغوى؛ فقد تأخر لدقائق بفعل محاولات زوجته «جميلة» إثناءه عن الذهاب لملاقاة «محمد على»، وحين سمع صوت الغدر والرصاص قفز بحصانه من مسافة عشرين متراً، فمات الحصان المسكين، وهرب صاحبه بعد إغماءة بسيطة.. ذهب الرجل إلى سوريا وسمى نفسه «سليمان»، وهربت زوجته إلى لبنان وسمت نفسها «سلمى»، وبعد قصة درامية طويلة اجتمع شملهما مع ابنهما «غريب» الذى وُلد بعد الهروب.. (ألهمت تلك القصة الأدباء مثل: اللبنانى «جورجى زيدان» مؤلف رواية «المملوك الشارد»، والفرنسى «ألكسندر ديماس» مبدع قصة «خمسة عشر يوماً فى سيناء»). رتب «محمد على» لمذبحته العزيزة بدقة؛ فقبلها أغرى المماليك ليتمركزوا بالقاهرة، وجعل حياتهم مترفة بعيداً عن ميادين القتال.. وفى أثناء المذبحة كان الترتيب أكثر دقة؛ وقت دخول القلعة وُضعت فى المقدمة فرقة الأدلة بقيادة «أوزون على» ثم «محمد على» نفسه، ثم رئيس فرقة الانكشارية العسكرية (وكان يدعى الأغا)، ثم وزير المالية (وكان يسمى المحتسب)، ثم مجموعة من الكبراء بترتيب الأهمية، ثم الألبانيون بقيادة «صالح فوج» وبعدهم المماليك، يتقدمهم «سليمان بك البواب»، وخلفهم المشاة والفرسان وأصحاب المناصب (لاحظ الكماشة).. وفجأة أُغلق الباب الرئيسى واتخذ الألبان مراكزهم وأطلقوا الرصاص من كل اتجاه، وأنجزوا أضخم عملية اغتيال سياسى فى العالم، كل هذا و«محمد على» جالس يدخن النرجيلة فى مكان يمكن منه رؤية الجميع، فيما يتوارى هو عن كل العيون.
مذبحة القلعة عمل لا أخلاقى، أرق ضمير «محمد على» لسنوات، وجعل زوجته «أمينة» تهجره إلى الأبد، لكنه على الجانب الآخر أزال عقبة كانت تقف أمام تقدم الدولة.. وأى حاكم الآن لن يتمكن من تحقيق أى تقدم حقيقى لمصر إلا بمذبحة تقضى على الجهل والمرض والفقر (بهذا الترتيب)، ولدينا بالفعل رؤية جيدة مكتوبة وهى «رؤية مصر 2030»، وهى تحتاج لآليات واضحة وإطار زمنى دقيق، وقبل كل ذلك إرادة سياسية حقيقية.. فهل يفعلها السيسى أم ننتظر آخر؟
No comments:
Post a Comment