حدث ذلك فى بيت المرايا الموجود فى مدينة الملاهى، الناس يذهبون هناك مع أصدقائهم وأقاربهم ويتطلعون إلى أنفسهم فى المرايا فيجدون أشكالهم غريبة معوجة، عندئذ يضحكون ويتبادلون التعليقات الساخرة، وفى النهاية ينصرفون وقد روَّحوا عن أنفسهم. ذات مساء دخل السيد فجأة إلى بيت المرايا. كان معه ثمانية أشخاص: أربعة من الخدم واثنان من الطبَّالين واثنان من الزمَّارين. كان الخدم يحيطون بالسيد طوال الوقت ويندفعون أمامه إذا مشى ليفسحوا له الطريق، ويبدون دائماً وكأنهم متعلقون بتعبيرات وجهه ليلبُّوا كل ما يريده حتى قبل أن يطلبه، وكانوا يؤيدون بحماس كل ما يقوله، ويتنافسون فى إظهار انبهارهم بكل ما يفعله.
بالاضافة للخدم كان هناك رجلان يمسك كل واحد فيهما بطبلة، ورجلان آخران ينفخ كل واحد فيهما فى مزمار. الطبل والزمر المستمر حول السيد لم يكن له أدنى علاقة بالموسيقى، وإنما هو نوع من الضجَّة المقصود بها إضفاء الرهبة على السيد أو منعه من سماع ما يقوله الناس. ما إن دخل السيد وحاشيته إلى بيت المرايا حتى انقطع الناس عن الضحك وراحوا يتطلعون إليه وقد بدا أنهم يحترمونه ويحبونه، حتى إن بعضهم صاحوا يحيّونه بحرارة، ولوَّح له آخرون بأيديهم فرد عليهم السيد بابتسامة، لكن الخدم أسرعوا وأحاطوا بالسيد حتى يمنعوا الناس من الاقتراب منه بينما انطلق الطبل والزمر عالياً. هرع صاحب بيت المرايا وانحنى باحترام أمام السيد وقال:
- شرفتنا يا سيدى. أنا صاحب بيت المرايا وتحت أمرك.
ابتسم السيد وصافحه بود، ثم مشى قليلاً وخلفه الحاشية حتى وصل إلى أول مرآة، وتطلع إلى نفسه فيها فوجد قامته قد طالت جداً بينما رأسه صَغُرَ حتى صار فى حجم الليمونة. بان الانزعاج على وجه السيد وبادر أحد الخدم قائلاً بحدة:
- هذه المرآة خربانة. أرجوك يا سيدى ابتعد عنها. لا أستطيع أن أرى صورة سيادتك بهذا الشكل.
هزَّ السيد رأسه وابتعد عن المرآة، ثم اقترب من المرآة الأخرى المجاورة ونظر فرأى نفسه قصيراً جداً لا تتعدى قامته متراً واحداً وعيناه جاحظتان بشكل غريب. صاح الخادم غاضباً:
- يا سيدى هذه المرآة ألعن من الأولى. ما هذه المرايا الخربانة؟!
ابتسم صاحب المرايا، وحاول أن يفسر الأمر لكن صوته ضاع وسط الطبل والزمر. مشى السيد ببطء إلى حيث المرآة الثالثة على الحائط المقابل ونظر إليها فوجد نفسه بديناً جداً كأنه برميل، بينما وجهه منبعج إلى اليمين ومبطط تماماً..عندئذ هاج الخدم وماجوا وأعربوا عن استنكارهم بشكل استعراضى فصاح أحدهم: لن أتحمل أبداً أن أرى السيد فى هذه المرايا المنحطة.. والله لأحطمنَّها جميعاً.
ورد آخر:
- لازم نعرف من المسؤول عن هذه المهزلة؟!
وصاح ثالث:
ـ إنها ليست مهزلة وإنما مؤامرة يقوم بها عملاء من الطابور الخامس يلعبون لصالح الأعداء.
اشتد الطبل والزمر وانتظر صاحب المرايا حتى عاد الهدوء ثم اقترب من السيد وقال:
- آسف يا سيدى. أرجوك لا تنزعج من صورتك فى هذه المرايا. إنها لا تعكس حقيقتك وإنما تقدم صورة مبالغاً فيها، فيرى الإنسان فيها نفسه قصيراً أو طويلاً أو منبعجاً لذلك يسمونها «المرايا الضاحكة». الناس يأتون هنا لكى يطالعوا صورهم العجيبة فيضحكون ويتسلون لكنهم يعلمون جيداً أن المرايا الضاحكة لا تعكس الحقيقة.
كاد السيد أن يقول شيئاً لكنه سكت لأن الطبل والزمر عادا من جديد، ثم اقترب خادم من صاحب المرايا متحفزاً وصاح:
ـ كيف تجرؤ على وضع هذه المرايا القذرة التى تقدم شكلاً مشوهاً للسيد العظيم؟!
صاح خادم آخر:
- اسمع يا أخ. أنت أحد احتمالين: إما طابور خامس أو خلية نائمة.
وصاح خادم ثالث:
- من يجرؤ على الإساءة لسيدنا لابد أن يحاسب بشدة.
ابتسم صاحب بيت المرايا بحزن وقال:
- حاشا لله أن أحاول الإساءة إلى السيد، فأنا من المحبين له والمعجبين بشجاعته. لكن هكذا بيت المرايا فى كل الدنيا. المرايا تُغيِّر من شكل الإنسان بشكل مضحك. هذا يحدث فى العالم كله ولم يعتبر أحد أن صورته فى بيت المرايا تسىء إليه أبداً.
ظل السيد يتطلع إلى صاحب المرايا وقد خلا وجهه من التعبير وهتف خادم وهو يهرع خارجاً من الباب.
- هذا المكان المشبوه يجب أن يغلق فوراً. سأستدعى الشرطة
عاد الطبل والزمر من جديد وصاح خادم:
ــــ كل من يسىء لسيدنا سنقطع لسانه.
انحنى خادم آخر بإجلال أمام السيد وقال:
- سيدى، إن الأمر جلل وخطير. الإساءة للناس العاديين مهما تكن ملابساتها تظل أمراً عادياً. أما سيادتك فالإساءة إليك إساءة إلى الوطن بأكمله. سيادتك قائدنا ومعلمنا ورمزنا ومنقذنا ونحن جميعاً جنودك وأبناؤك، ثم إن هذه الإساءات الخسيسة ليست بالصدفة أبداً، لأنها تأتى فى وقت يتربص فيه الأعداء بالوطن.
صاح خادم آخر بصوت متهدج:
ـ الحمد لله ألف مرة أن أحداً من المصوِّرين لم يكن موجوداً. ماذا لو التقط أحدهم صورة لسيادتك كما تبدو فى هذه المرايا اللعينة ثم تناقلتها وكالات الأنباء؟ إنهم يريدون تشويه صورة سيادتك حتى يفقد الناس ثقتهم فى قيادتهم فيحسوا بالضياع. هدفهم إضعاف روحنا المعنوية وتمزيق جبهتنا الداخلية بالإضافة إلى إثارة البلبلة وتكدير السلام الاجتماعى.
بدا القلق على وجه صاحب المرايا وقال:
ــ يا جماعة، لماذا تصرون على تكبير الموضوع؟! المسألة بسيطة. هنا مكان للتسلية والضحك لا أكثر ولا أقل. كل يوم يزور بيت المرايا عشرات الناس ويرون صورهم المعوجة فيضحكون ولا يعتبرون فى ذلك أدنى إساءة. كلنا نعرف أن الصورة التى تقدمها هذه المرايا غير حقيقية. لا توجد مؤامرة ولا يحزنون. والله العظيم أنا حتى لم أكن أعلم بزيارة السيد، ثم حتى إذا ظهرت صورة سيادته منبعجة فى الإعلام فإن ذلك لن يسىء إليه إطلاقاً، بل على العكس ستثبت هذه الصورة أن سيادته رجل بسيط متواضع يذهب إلى بيت المرايا فى الملاهى مثل بقية الناس العاديين.
هنا صاح خادم:
- يعنى أنت موافق على تصوير السيد بهذه الطريقة المسيئة..؟! أنت فعلاً طابور خامس.
والله وانكشفت يا حلو...
قال صاحب المرايا شيئاً لكن صوته ضاع مرة أخرى وسط الطبل والزمر، ثم عاد الخادم ومعه رجال الشرطة. ثلاثة جنود وضابط بدا متحفزاً فاقترب من صاحب المرايا وقال:
- أرنى ترخيص هذا المكان فوراً.
هرع صاحب المرايا إلى مكتبه فى أقصى القاعة، وعاد بالترخيص الذى تفحَّصه ضابط الشرطة بعناية ووجده سليماً ففكر قليلاً ثم سأل صاحب المرايا:
- كم طفاية حريق عندك فى هذا المكان..؟
رد صاحب المرايا بثقة:
- الحمد لله. عندى ست طفايات، وكلهم فى حالة جيدة.
ابتسم الضابط وقال:
- القانون يفرض عليك أن يكون لديك أربع طفايات وليس ستاً.
- لقد أحضرت طفايتين إضافيتين احتياطياً. أين الخطأ فى ذلك؟!.. عموماً لو تحب ممكن أتخلص من الطفايتين الزائدتين فوراً.
هزَّ الشرطى رأسه وقال:
- لا يا حبيبى، القانون قال أربع طفايات فقط، وأنت اعترفت بأن لديك ست طفايات. خلاص. لازم نقفل المكان.
حاول صاحب المرايا أن يعترض ولكن عبثاً، فقد أشار الضابط إلى الجنود فبدأوا فى إخراج الزبائن وأخيراً لوَّح بيده للسيد الذى توجَّه نحو باب الخروج وحوله الخدم والطبالون والزمارون. مشى صاحب المرايا بسرعة حتى اعترض طريق السيد ولم يأبه للخدم الذين حاولوا دفعه بعيداً فصاح بصوت مرتفع:
- أيها السيد. لا يصح أن يُعتدى على حقى فى حضرتك. هذا المكان قانونى ومرخص، وهو مخصص للتسلية والدعابة، والشرطة تغلقه الآن بإيعاز من خدمك.
تطلع إليه السيد صامتاً، فاستطرد صاحب المرايا قائلاً بانفعال:
- لماذا لا ترد علىَّ أيها السيد؟ أليس من حقى أن أسمع رأيك؟
ارتفع الطبل والزمر ودفع الخدم صاحب المرايا بقوة وتحرك موكب السيد إلى الأمام. فرغ الجنود من إخراج الزبائن ثم اصطحبوا صاحب المرايا إلى الخارج، وبدا ضابط الشرطة وكأنه يستمتع بإغلاق بيت المرايا بالشمع الأحمر. صاح صاحب المرايا فى الضابط بلهجة متحدية:
- حتى إذا أغلقت بيت المرايا فسأفتحه فى مكان آخر، وإذا لم أستطع فسيظل العالم مليئاً ببيوت المرايا. مستحيل أن تمنع الناس من الخيال والضحك.
هزَّ الضابط رأسه ساخراً، وألقى نظرة أخيرة على الشمع الأحمر وجسَّه بيده ليتأكد من أنه جفَّ. مرة أخرى لاحق صاحب المرايا موكب السيد وصاح:
ـ أيها السيد، أنا أحبك وأحترمك، وأدعو الله أن يوفقك. إن صورتك عند الناس محترمة ولن يؤثر فيها الشكل الذى تعكسه المرايا الضاحكة لأن الناس جميعاً يعرفون أنها لا تعكس الحقيقة. بيت المرايا ليس خطراً عليك أيها السيد، لكن الخطر الحقيقى عليك سيأتى من الذين يحيطون بك ويحاولون إقناعك بأنك فريد عصرك وأوانك، وأن المؤامرات تحاك ضدك، وأن كل من يختلف معك عميل ومأجور. أحذرك من الخدم والطبالين والزمارين. إنهم لا يحبونك وإنما يحبون مصالحهم. إنهم ينافقونك تماماً مثلما نافقوا من سبقك وسوف ينافقون كل من يأتى بعدك. تخلص من هؤلاء المنافقين حتى تظل علاقتك طيبة بالناس الذين يحبونك.
يبدو أن السيد سمعه هذه المرة لأنه تطلع إليه بتعاطف، ولكن كالعادة اشتد الطبل والزمر وهرع الخدم كأنما يحثون السيد على الابتعاد فابتعد. ظل صاحب المرايا واقفاً فى الشارع بينما تقدم منه الضابط وقال بنبرة حاسمة:
- اسمع يا أخ. بيت المرايا خالف شروط الترخيص، فكان لابد من إغلاقه حرصاً على أرواح الناس. أرجو أن تكون متأكداً أن السيد لا علاقة له من قريب أو بعيد بإغلاق بيت المرايا. أحذرك من الشوشرة أو البلبلة لأننا سنقابل ذلك بحزم لا تتخيله .أنت تعرف كما يعرف الجميع أن السيد أكبر نصير للحرية وهو لا يسمح أبداً بمنع أى إنسان من التعبير.
الديمقراطية هى الحل
No comments:
Post a Comment