ذكرنا أن الوريث كان سخياً مع وزير الداخلية حبيب العادلى فوفر له كل ما يحتاج من أموال لشراء قنابل الغاز وأحدث منتجات مصانع أدوات القمع والقهر، كما أنه حول وزارة الداخلية إلى ترسانة سلاح وحرص على أن يكون عدد قوات الأمن التى تتصدى لأى مظاهرة ضد النظام أو مشروع التوريث، أضعاف عدد المتظاهرين حتى تصل لهم رسالة الإحباط.
مع تصاعد الضغط الأمنى وتزايد التجاوزات الأمنية وتعدى الشرطة للخطوط الحمراء فى العلاقة بالمواطنين، ارتفعت درجة الغليان فى المجتمع المصرى لاسيما مع تزايد معدلات الفقر والظلم الاجتماعى والاقتصادى.
وهنا قرر شباب مصرى كسر حاجز الخوف، والتعبير عن رفضهم لسياسات جهاز الشرطة، عمليات التعذيب والسحل، والظلم التى تجسدت فى قتل الشاب خالد سعيد، لم تكن القضية قتل خالد سعيد بطريقة بشعة، ولكن المشكلة الأكبر كانت فى غطرسة وغرور النظام، فى فبركة تقرير للشرطة وتواطؤ مصلحة الطب الشرعى على النحو الذى جعلهم يخرجون مسرحية أن الشاب «خالد» مات مختنقاً بعد أن ابتلع لفافة بانجو، جرى ذلك بينما كانت آثار التعذيب والضرب المبرح بادية على جسد خالد سعيد. امتلأت الصدور غضباً على نظام يقتل شباباً مصرياً فى عمر الزهور، وتصاعد الغضب بفعل تواطؤ مؤسسات وأجهزة الدولة المصرية التى حوَّلت شاباً مات تحت التعذيب وهو فى عمر الزهور إلى مدمن اختنق من ابتلاع لفافة بانجو، حانت اللحظة وخرج الشباب للاحتجاج على ظلم الأمن، فكان الرد العنيف وتبلد رأس النظام، فاتسعت كرة اللهب حتى تهاوت الشرطة فى الثامن والعشرين من يناير، وعبثاً حاول الرئيس العجوز إنقاذ الموقف، ولكن بعد فوات الأوان ولم يكن أمامه إلا الرحيل، ثم السجن ومعه الوريث فى نهاية مأساوية لعسكرى مصرى نال نياشين عدة، استهان بقوة الشعب وصبره فكانت الثورة التى زجت به إلى السجن. كان موقف القوات المسلحة المصرية هو الفيصل فى نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير، فقد كان الجيش المصرى مستعداً لتبنى مطالب الشعب ولم يكن وارداً لديه استخدام القوة ضد الشعب دفاعاً عن نظام قهر المصريين وخطط للتوريث.
لم يستوعب «مرسى» وجماعته الدرس، ومارس سياسة استهداف مؤسسات الدولة، وواصل العمل من أجل مصلحة الجماعة، الأهل والعشيرة، ومن ثم كانت الثورة من جديد، فقد كرر «مرسى» فى عام واحد أخطاء «مبارك» التى تراكمت على مدار سنوات طويلة ويكفى أن نشير هنا إلى تعامل نظام «مرسى» مع قضية الشاب محمد الجندى على نحو لم يختلف عن تعامل نظام «مبارك» مع قضية خالد سعيد، أيضاً لم يختلف بطء مرسى وتبلده عن مبارك، كان الإخوان يرددون أن «مرسى» رئيس منتخب ولا يجوز الخروج عليه!! ويقول لنا جون لوك الفليسوف الإنجليزى أحد آباء نظرية العقد الاجتماعى «إن الحكم أمانة شعب عند الحاكم ويمكنه استردادها فى أى وقت عند إساءة التصرف»، ويضيف «الحاكم يتعهد بالحفاظ على حقوق الشعب فى الحرية والحياة والتملك، فإذا لم يلتزم الحاكم بأحكام الوديعة وإذا ما سلب المحكومين حقوقهم، من حق المحكوم أن يثور ضد السلطة دفاعاً عن النظام العام وليس بغرض تحقيق الرغبات الفردية، ومن ثم فالثورة هدفها تحقيق النظام والأمن وليس العصيان، هدفها تحفيز السلطة الجديدة على مراجعة أخطاء السلف والتفكير فيها لإصلاحها حتى لا تقع الثورة مجدداً، فالثورات تقع نتيجة ظلم النظام ورغبة الشعوب فى تصحيح الموقف».
أما الأب الروحى لنظرية العقد الاجتماعى الفرنسى جان جاك روسو فيقول «الشعوب تملك السلطة والسيادة ولها الكلمة الفصل، والمناصب العامة تعين من قبل سلطة الشعب التى تمنح وتحاسب فى نفس الوقت». باختصار تثور الشعوب على الحاكم الذى يصم أذنيه ويغلق عينيه عن سماع المظالم وهى تحت بصره»، تثور الشعوب على الحاكم استرداداً لوديعتها، فمن لا يكون أميناً فى حفظ الوديعة وصيانتها تنزع منه وتمنح لغيره. وقد نزعت الوديعة من «مبارك» ومن بعده الإخوان لأن أياً منهما لم يكن أميناً على الوديعة فاستردها الشعب فى يناير ٢٠١١ ثم يونيو ٢٠١٣. وثورة الشعوب لا تتحرك بالريموت كنترول، بل تتفاعل المشاعر أولاً، يتراكم الغضب، يتصاعد الأنين، وإذا ما صم الحاكم آذانه عن السمع وحوّل بصره عن الرؤية هنا تتزايد التوقعات بخروج الشعوب استرداداً للوديعة التى هى الحكم، فينزعها من شخص وجماعة ويسلمها لمن يراه أميناً على مصالحه، وهكذا تدور الدوائر فى النظم غير الديمقراطية، أما فى البلدان الديمقراطية فلا حاجة للثورة لأن قواعد عمل النظام ومؤسساته لديها من الآليات ما يحقق هدف المحاسبة والتغيير ونزع الوديعة وترتيب منحها لآخر أو آخرين.
No comments:
Post a Comment