قلنا إن «مبارك» وأجهزته الأمنية مارسوا لعبة «القط والفأر» مع «الجماعة»، أى تتصل بها وتتواصل معها، تمنحها قدراً من المكاسب، وعندما تطمع فى المزيد، توجه لها رسائل تحذيرية ثم ضربات غير حاسمة، فنظام «مبارك» كان فى حاجة لـ«الجماعة» حتى يقول للغرب إن ضغوطهم عليه لمزيد من الانفتاح الديمقراطى فى مصر سوف تأتى بـ«الجماعة» إلى السلطة، وهى جماعة متطرفة تكره الغرب وإسرائيل. واستمر الأمر إلى أن تواصلت «الجماعة» مع الغرب، وطمأنتهم على مصالحهم، وعلى أمن إسرائيل واستقرارها، فكان قرار بيع «مبارك» أمريكياً وأوروبياً، وكان ما سُمى بـ«الربيع العربى» الذى بدأ بتونس ووصل إلى مصر. من نتائج هذا الربيع تحلل أجهزة الدولة ومؤسساتها، ففجأة واجه الشعب المصرى حالة غير مسبوقة فى تاريخه الحديث، هى حالة فراغ السلطة، تحلل مؤسسات الدولة، انفتاح السجون، وانتشار أعمال البلطجة، السلب والنهب، غياب الأمن، وفقدان الشعور به تماماً من قِبل المصريين. بات مطلوباً من المصريين أن يحموا أنفسهم، فالدولة القوية التى كانت توفر لهم الحماية وهنت وضعفت، ولم تعد قادرة على توفير الحماية لشعبها. انتشرت عصابات الخطف والسطو وسرقة السيارات، عبثت الثعالب الصغيرة فى الكروم فلم «تنم النواطير فقط، بل اختفت تماماً»، فلم يعد هناك مَن يخشى منه حتى من الناحية الشكلية بصرف النظر عن القدرة على الفعل.
عانى المصريون سنوات طويلة من تبعات قوة الدولة وسطوتها، ثم فجأة انهارت هذه القوة وتلاشت تماماً، فبدأت معاناة جديدة للمصريين تماماً، هى معاناة ضعف الدولة ووهنها، ومعها ضاع القانون تماماً، وباتت القوة هى المعيار الوحيد لحماية الذات والدفاع عن النفس. وعلى مدار الفترة من نهاية يناير ٢٠١١ عانى المصريون من ضعف الدولة ووهنها، وسطوة العصابات والجماعات، وتغييب القانون تماماً. خرج المصريون فى الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ لاسترداد هويتهم واستعادة الدولة، فقد اشتاقوا إلى الدولة القوية التى توفر لهم الحماية والأمن قبل أى شىء آخر، وهو ما تحقق فى بيان الثالث من يوليو، ومن ثَم بدْء عودة الدولة المصرية، سواء فى العام الانتقالى تحت حكم المستشار الجليل عدلى منصور، أو رئاسة عبدالفتاح السيسى.
عادت الدولة المصرية القوية تدريجياً، وحاولت فى الوقت نفسه استعادة دولة القانون عبر محاربة الفساد، وإرساء أسس الشفافية والمحاسبة، وتسير الدولة بالفعل على طريق تحقيق ذلك، مع الاهتمام بتوفير الحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة فى المجتمع، لا سيما فى مراحل التحول الاقتصادى والاجتماعى، الذى تمر به البلاد، والذى يتطلب حزمة من القرارات المؤلمة لسنوات قبل أن تبدأ عملية جنى الثمار والمكاسب.
وفى تقديرى أن إنجازات كثيرة تحققت على مستوى البنية التحتية، والقرارات الصادمة، التى لا مفر منها لبدء تنمية حقيقية، ونقطة الضعف الجوهرية فيما يجرى اليوم هى غياب السياسة أو الإدارة السياسية للأزمات والمشكلات على النحو الذى يضعف من وتيرة الإصلاح والتغيير وجنى ثمارهما، فالدولة القوية حقاً هى دولة القانون والعدل، استخدام القوة يكون فى إطار القانون ووفق الدستور، نعم نريد مصر دولة قوية، ولكننا نريدها دولة قانون، لا نريد العودة إلى الدولة القوية الباطشة، كما كانت فى خمسينات وستينات القرن الماضى، ولا نريدها دولة شبه قوية يسودها الفساد، كما كان حال دولة «مبارك»، وبالقطع واليقين لا نريدها دولة ضعيفة فتخترقها الثعالب الصغيرة قبل الكبيرة، وتلتهم خيراتها، كما كان يحدث تاريخياً، نريدها دولة قوية مهيبة الجانب فى الإقليم والخارج، دولة عدل وقانون فى الداخل، وهو ما نأمل إرساء أسسها فى الفترة المقبلة.
No comments:
Post a Comment