لست من أنصار التهجم على «مبارك» ونظامه بمناسبة أو من دون مناسبة، ولكن عندما نتأمل حال مصر اليوم وحال شعبها على جميع المستويات نعلم كم هى ثقيلة جرائمه فى حق البلاد، فقد استقر فى السلطة ثلاثة عقود كاملة، قفزت خلالها دول من مرحلة اللادولة والفقر والعوز إلى دائرة العالم الثانى، بل منها مَن اقترب من دخول العالم الأول، ومنها مَن تحول من نظام قبلى إلى دولة حقيقية، ومن نظام سلطوى إلى ديمقراطى حقيقى. تتمثل جرائم نظام «مبارك» الحقيقية فى التجريف السياسى والعقلى، وإغلاق النخبة السياسية، وتزاوج السلطة والمال، ونشر التخلف والجهل والتعصب، وتوظيف الدين فى خدمة السياسة، عبر الخلط المتواصل بينهما.
فقد كشفت ثورة الخامس والعشرين من يناير عن حجم التجريف السياسى فى البلاد، وجريمة «مبارك» ونظامه فى الحكم، من خلال نخبة مغلقة، محدودة، وكيف قام نظام «مبارك» من خلال لجنة شئون الأحزاب التى كان يقودها الأمين العام للحزب الوطنى فى تفصيل أحزاب سياسية من خلال جهاز أمن الدولة للقيام بدور المعارضة الشكلية. لم يفتح نظام «مبارك» للنخبة السياسية التجنيد من خارج الدائرة الضيقة التى كان يعتمد عليها، ولم تكن للأحزاب السياسية الكارتونية أى دور سوى تمثيل دور المعارضة، أما الأحزاب المعارضة الحقيقية والقوى السياسية التى حرمها نظام «مبارك» من تأسيس أحزاب سياسية، فقد ظلت تمارس دور المعارضة الاحتجاجية، وأحياناً كانت تبرم الصفقات مع النظام، من خلال أجهزة الأمن، للحصول على عدد من مقاعد البرلمان، مثلما كانت تفعل جماعة الإخوان المسلمين.
خلال فترة حكمه التى دامت ثلاثة عقود كاملة، لم يفتح «مبارك» النخبة السياسية، حافظ عليها نخبة مغلقة، واعتمد على شخصيات لفترات زمنية طويلة حتى شاخت فى السلطة، وشاخ معها النظام، هذه الشخصيات عمدت إلى قتل الصف الثانى حتى لا يجد النظام بديلاً لها، وحتى تبدو الفجوة كبيرة للغاية، فى حال تغيير الشخصيات القيادية، بات قتل الصفوف الثانية سياسة مبرمجة فى النظام، فى الوزارات والمصالح الحكومية، فى المؤسسات العامة. النتيجة المنطقية لذلك كانت فقدان الأجيال التالية من السياسيين والمهنيين للخبرات اللازمة، وإذا تحدثنا عن السياسة فسوف نرصد بسهولة فقدان رجال المعارضة من مختلف الأعمار للخبرات السياسية اللازمة التى تجعل منهم رجال دولة، ويمثلون بدائل حقيقية لرجال النظام، تحول غالبية رجال المعارضة إلى رجال أعمال بشكل أو بآخر، منهم مَن تحول إلى سمسار عمل مع أجهزة النظام، ومنهم مَن نسج روابط وصلات مع نظم خارجية، ومنهم مَن أفاد صناعته الخاصة من خلال لعب دور المعارض، من هنا اتسمت المعارضة المصرية بأنها ظاهرة صوتية، لا خبرة سياسية لديها، وعجزت عن ممارسة دور رجل الدولة بعد «٢٥ يناير»، فقد اتسم سلوكها بالاضطراب والتخبط، ولم تحترم الحدود الأيديولوجية مع القوى الأخرى، فرأينا القومى واليسارى يتحالف مع اليمين الدينى، ورأينا من الليبراليين مَن دخل على خط التعامل مع الجماعة الإرهابية للحصول على مكاسب سياسية متصورة. إذا نظرنا إلى حال الأحزاب والقوى المدنية اليوم وحالة التخبّط التى تسود صفوفها وعدم قدرة البعض على تقديم مصلحة الوطن على مصالحه الخاصة، فسوف نعرف كم هى ثقيلة جريمة «مبارك» ونظامه فى تجريف الحياة السياسية فى البلاد. وإذا أمعنا النظر فى حالة «الهوس الدينى» السائد فى البلاد، ونوعية الجرائم التى ترتكب فى المجتمع المصرى، وعلى الأراضى المصرية اليوم، لأدركنا حدود الجرائم التى ارتكبها نظام «مبارك» على مدار ثلاثة عقود كاملة فى حق مصر والمصريين، ولأدركنا أيضاً وطأة آثار وتداعيات الخروج من هذه الحالة المركبة.
No comments:
Post a Comment