بعد أيام قليلة من تصديق الرئيس على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية، قررت الحكومة المصرية رفع أسعار مواد الوقود، أو بمعنى أكثر دقة، قررت خفض الدعم على هذه المواد، فلم يكد المواطن المصرى يفوق من صدمة التصديق على الاتفاقية، ويخرج من حالة الانقسام والتراشق التى مرّت بها البلاد حول هذه الاتفاقية، والتى تعود فى الأساس إلى طريقة إدارة الملف والعقلية التى تقف وراء صنع القرار واتخاذه، وهى عقلية بعيدة كل البُعد عن فنون الإدارة السياسية ومهارات العمل السياسى. وما كاد الهدوء يعود إلى الشارع المصرى حتى تراجع، لحساب انقسام قائم بالفعل حول طبيعة ما يجرى فى البلاد، كيف يمكن اتخاذ قرارات كبرى يترتب عليها تغيير حدود البلد البحرية وتغيير طبيعة مضايق تيران من مضيق وممر ملاحى مصرى، تتمتع فيه كل دول العالم بحق المرور البرىء، وتغلقه مصر فى وجه سفن الدول المعادية التى تكون فى حالة حرب معها، إلى ممر ملاحى دولى (بين مصر والسعودية) لا يحق لأىٍّ منهما إغلاقه فى وجه سفن وأساطيل الدول التى تشتبك مع أىٍّ منهما، أو كليهما فى حرب، هناك من تعامل ببساطة ولا مبالاة مع الموقف، مؤكداً أن ثقتنا بالرئيس والأجهزة الأمنية والسيادية بلا حدود، ونحن نضيف أن القضية لا علاقة لها بالثقة من عدمها، القضية لها علاقة بطريقة الإدارة السياسية لبلد بوزن وحجم مصر، بلد حدوده مستقرة منذ آلاف السنين، بلد مؤسسات كانت فى طريقها إلى الاستقرار، وأخرى لممارسة دور فعّال كالبرلمان، ما حدث هو أن الأجهزة المختلفة شنّت غارة على مؤسسات الدولة المختلفة وقهرت غالبية أعضاء البرلمان، فكان لها ما أرادت، وهو تمرير الاتفاقية، غير مبالية بحالة الانقسام الشديد التى كان يمر بها الرأى العام المصرى وحالة الغضب المكتوم. وما هى إلا أيام حتى عادت حكومة لتضرب من جديد عبر قرارات رفع الدعم عن مواد الطاقة، فتولدت موجة غلاء جديدة سوف تشمل كل المواد والسلع، بل والخدمات، فالجميع يستغل الموقف ويرفع الأسعار تحت دعوى ارتفاع أسعار وقود ومواد الطاقة، وعلى المواطن أن يتكيف مع هذه الضربات المتتالية التى توجهها إليه الحكومة.
نعم رفع الدعم عن الوقود كان أمراً متوقعاً ومعروفاً مسبقاً، وأنه ضمن الشروط التى ارتضتها الحكومة للحصول على قرض صندوق النقد الدولى، ولم يكن أمام الحكومة من مفر، لكننا نتحدث هنا عن العقلية السياسية التى تتابع وتُحلل وتُقدم النصيحة، نتحدث عن صانع القرار الذى لا يتخذ قراراً إلا بعد أن توضع أمامه كل المعلومات والتقديرات والتحليلات، التى تسمى فى علم صنع القرار بالمدخلات، ثم يحللها، ويستعين برؤى وتقديرات هيئات استشارية ومؤسسات وأجهزة (التى تسمى عملية التحويل وفق منهج صنع القرار)، ومن ثم يتخذ القرار ويترقب انعكاساته وردود الفعل عليه وتأثيراته المختلفة ويحصل على كل المعلومات المترتبة على القرار فى ما يسمى بعملية (التغذية الاسترجاعية)، وبناءً عليها يتخذ قراره إما بمواصلة العمل فى تطبيق القرار والتمسك بتنفيذه، وإما تعديل القرار إذا ما اقتضت الحاجة والمصلحة الوطنية وأمن البلاد واستقرارها ذلك.
القضية هنا لا تتعلق بالجدل حول قرارات كان لا بد من اتخاذها كرفع الدعم عن مواد الطاقة، القضية تتعلق أولاً بتقدير دور ووزن مؤسسات الدولة وموقع الرأى العام ومكانته، إضافة إلى الإدارة السياسية للمشهد برمته، فالدول تُدار عبر شبكة من المؤسسات والأجهزة، وليس عبر قرارات شخصية أو عدد محدود من الأفراد، وأى نظام لا يراعى ذلك، مؤسسات ورأى عام، تتآكل شعبيته، تتقلص دائرة مؤيديه، تتمزّق عادة مسانديه، تذهب بعيداً عنه فى وقت يكسب خصومه مزيداً من النقاط، ليس لمهارات أو كفاءة، لكن لأخطاء الغير.
No comments:
Post a Comment