Translate

Sunday, March 31, 2019

الأنبا موسى* يكتب: الكنيسة ومشكلة البطالة (٢) ٣١/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

ذكرنا فى العدد الماضى ماهيّة البطالة، وما هى الأسباب المؤدية إليها، وإمكانية حلها عن طريق المشروعات الصغيرة. ثم تحدثنا عن مصادر التمويل.. نستكمل موضوعنا بنعمة الله.
- هناك من يظن أن هدف الموسسات الدينية دينى بحت، يهتم فقط بحياة الإنسان الروحية وعلاقته مع الله، وأنه لا يجب أن تنشغل الكنيسة بغير هذا الهدف، حتى لا تخرج عن مسؤوليتها الأولى.. ولكن المتعمق فى الحياة الدينية الحقيقية، وحياة رجال الله فى مختلف العصور يجد عكس ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة، وفى الكتاب المقدس أمثلة كثيرة، فعلى سبيل المثال:
١- معجزة إشباع الجموع: (مت ٣٢:١٥): كيف أن السيد المسيح اهتم بالجموع، وأشفق عليهم لئلا يخوروا فى الطريق. فقدم لهم الطعام فى البرية، ولم يشأ أن يصرفهم جياعًا - بعدما جلس معهم وقتا طويلا - وهو الذى تحنن على المرضى وشفاهم من أمراضهم الجسدية، ومن أمراض الخطية، وهناك أمثلة كثيرة التى تدل على اهتمام السيد المسيح بحياة الإنسان الجسدية والروحية ككيان شامل متكامل!
٢- خدمة الشمامسة: (أع ٣:٦): فقد قام الآباء الرسل باختيار شمامسة، ليهتموا بخدمة الأرامل، وخدمة الموائد: «فَحَسُنَ هَذَا الْقَوْلُ أَمَامَ كُلِّ الْجُمْهُورِ، فَاخْتَارُوا اسْتِفَانُوسَ، رَجُلاً مَمْلُوًّا مِنَ الإِيمَانِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ،... الَّذِينَ أَقَامُوهُمْ أَمَامَ الرُّسُلِ..» (أع ٥:٦-٦).
٣- رعاية الكنيسة تهدف إلى الحياة الأفضل، فقد قال السيد المسيح: «وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا ١٠:١٠). لذلك فرعاية الموسسات الدينية تهتم بتقديم الأفضل للإنسان من جميع الجوانب: سواء كانت روحية أو جسدية أو نفسية أو عقلية، لأن حياة الإنسان لا تتجزأ.
- ترى ما هى أنواع البطالة الآن؟
توجد عدة أنواع حاليًا من البطالة:
١- البطالة المقَّنعة: شخص يذهب إلى عمله كل يوم، وله كادر وظيفى، ولكنه فى الواقع لا يعمل إلا قليلاً!
٢- البطالة الاحتكارية: وهى تصيب المستويات العليا من الإدارة، فمثلًا هناك مدير جديد منقول يضع خطة لتنظيم العمل تستغرق ثلاثة شهور، وهذه الثلاثة شهور تصير حالة خمول ليس فيها إنتاج.
٣- البطالة التنظيمية: أفراد قادرون على العمل ويبحثون عنه، ولا يجدون أماكن بها فرصة عمل، ولا يوجد أفراد مناسبون لهذا العمل. فمثلا طبيب تخرج فى إحدى كليات الطب بالقاهرة، والحاجة إليه فى أسيوط، فيعتذر عن عدم العمل هناك، وفى نفس الوقت لا يوجد له مكان فى القاهرة.
- ما هى ظواهر البطالة؟
١- اللجوء إلى وسائل غير مشروعة لقضاء الوقت مثل: الإدمان، العنف، الانحراف.
٢- محاولة تقليد نماذج سيئة موجودة فى المجتمع، وربما تكون بمقاييس المجتمع ناجحة.
٣- زيادة المشاكل الأسرية نتيجة لقلة الدخل، وعدم القدرة على سد الاحتياجات.
٤- عدم الاهتمام بالغد، واللجوء إلى الانعزال والانطواء عن المجتمع.
٥- انعدام القيم والمبادئ الروحية والإنسانية.
٦- عدم وجود الدافع للحياة الأفضل.
٧- ضعف الانتماء للدين.     
٨- تهديد أمن وسلامة البلاد.
٩- التخلف عن التقدم العالمى.
١٠- شيوع قيم سلبية بين الشباب بتأثير بعض الإعلام الهابط، وترويج نماذج حققت نجاحات مادية سريعة، وفق معايير «الصدفة» و«الفساد» و«الفهلوة»؛ ما أدى إلى تراجع مفاهيم تقديس العمل، والاجتهاد والالتزام.
لذلك يجب أن تقوم المؤسسات الدينية بمشاريع، أو أن تشارك فى مشروعات اقتصادية، وتسهم فى حل مشكلة البطالة، وذلك من خلال أن تقوم بالتوافق بينهم وتشير عليهم وتنسق بينهم وكل ذلك فى حدود الدور الإرشادى.. ولذلك يجب عليها:
أ- عدم الإسراع إلى الدخول طرفًا فى أية مشاريع.
ب- عدم الانزلاق إلى تنازع الاختصاصات.
ج- عدم الانحراف إلى الإفادة الذاتية للقائمين على هذا العمل، سواء بصفة شخصية، أو لذوى القربى، أو أهل الثقة، لكى يقوم المشروع بتقديم المنفعة العامة للجميع.
والسؤال الآن: ما الدور الذى قامت به المؤسسات الدينية لمواجهة هذه المشكلة؟
مؤسساتنا الدينية مدركة وواعية تمامًا خطورة هذه المشكلة، فقامت بتأسيس لجان للتنمية الاقتصادية، تهتم بهذه المشكلة.. والهدف من هذه اللجان هو: مساعدة الخريجين ممن لا يعملون، أو الذين يعملون بدخول قليلة، لا تكفى احتياجات الحياة، فى الحصول على مستقبل أفضل، سواء بالحصول على وظيفة، أو إقامة مشروع صغير.
- من هم المحتاجون للمشروعات؟
١- جميع الحاصلين على مؤهلات، مهما كانت مؤهلاتهم العلمية.
٢- جميع الذين لا يعملون، أو يعملون بدخل قليل.
ولهذا يصير العمل فى هذه اللجنة من خلال لجان فرعية مثل:
١- لجنة التوعية والإعلام.
٢- لجنة التدريب والخبرة.
٣- لجنة التوظيف. 
٤- لجنة المشروعات الصغيرة.         
٥ - لجنة التسويق.             
- فكرة سريعة عن المشروعات الصغيرة:
المشروع الصغير يقوم بإنشائه وإدارته فرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد، وقد يشترك فيه أفراد الأسرة الواحدة، وقد لا يحتاج إلى التخصص الدقيق فى توزيع العمل على القائمين به، لأن القائمين به غالبًا ما يكونون المسئولين على معظم الخطوات فى التنفيذ والمتابعة والأشراف. ويعتبر حجم المشروع الصغير من ناحية رأس المال، أصغر نسبيًا من المشروع الكبير. وبزيادة الكفاءة والإنجاز فى بعض المشروعات التجارية الصغيرة، يمكن أن تتطور فى المستقبل تطورًا تدريجيًا، لتصل إلى مرحلة تحتاج إلى زيادة التخصصات، وبالتالى تخطو إلى الوصول إلى حجم المشروع المتوسط، ثم المشروع الكبير.
وهناك جهات بالدولة مستعدة لإقراض الشباب ومساعدته مثل الصندوق الاجتماعى للتنمية، وبنك التنمية، وجهاز تشغيل الشباب بالمحافظات.
- والمشروع الصغير (بحسب المعطيات العالمية) هو الذى يتسم بما يلى:
١- عدد عاملين صغير.
٢- رأسمال صغير.            ٣- حجم مبيعات مناسب.
٤- حاجة السوق إليه.
٥- ربحية معقولة.
٦- إمكانية نمو (رأسيًا وأفقيًا).
- المشروعات الصغيرة.. مغامرة محسوبة:
كل مشروع فيه هامش من المغامرة. لكن يجب أن تكون المغامرة محسوبة، بمعنى أن لا تكون «مغامرة» (أى غير مدروسة) أو «مخاطرة» (أعرف أن السلبيات أكثر من الإيجابيات، وأتمنى النجاح) أو «تقليد» (أقلد آخرين فى مجال قد لا يناسبنى، أو مشروع غير مطلوب حاليًا، أو فى هذا المكان).. الإبداع معناه «التفكير الجيد والجديد المدروس، بفرص النجاح واحتمالات الفشل، وكيفية التصرف إزاء كل من الأمرين».. فحتى الفشل قد يكون «درسًا أو أساسًا» للنجاح المستقبلى. المهم الثقة فى الله، وإعمال العقل، وأخذ المشورة من متخصصين.. والكتاب المقدس يقول: «إنَّ الَّذِى ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ» (فى ٦:١).
وإن الله يبدأ بتحريك أفكارنا، ونحن نتجاوب ونتفاعل معه.. والفكرة تنمو، وتطبق، وتنجح!
- الفكرة تشرق على العقل بدون توقع أو بسبب عادى، فتتحول الفكرة إلى اكتشاف قاعدة مهمة للحياة، يرتكز عليها بنيان كبير وأفضل مثالين لهذا:
١- «نيوتن».. والتفاح المتساقط من الشجر، وومضة «الجاذبية الأرضية»، التى كانت سببًا فى التقدم العلمى الهائل، واختراع الطائرات.
٢- «أرشميدس» والمياه المتساقطة من «البانيو».. وقانون الطفو.. وما تلاه من قوانين طبيعية مهمة، طورت حياة الإنسان.
المهم «الصفاء الذهنى» الذى يتلقى الومضة، و«الاستجابة المدروسة» التى تستثمرها.
- أمثلة لمشروعات صغيرة نجحت:
حسن أن نقدم لشبابنا أمثلة عملية لمشروعات صغيرة نجحت، لتكون مثالًا يحتذى به الشباب، وهذه بعض الأمثلة:
- أدوات منزلية.
- أدوات مكتبية.
- مشاريغ نسائية صغيرة.
- أطباق فاكهة فارغة.
- مشاريع منزلية إنتاجية (توفر المكان والمصروفات)... والمزيد طبعًا.
* أسقف الشباب العام
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية


ماذا لو بقى إسماعيل؟ بقلم عباس الطرابيلى ٣١/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

كثيراً ما أسأل نفسى: ماذا كان سيحدث لمصر إذا لم يعزل الخديو إسماعيل، ويتول الحكم بعده ابنه الخديو توفيق.. أقول بكل تأكيد: كان سيتغير وجه مصر تماماً.. لماذا؟
لو بقى إسماعيل حاكماً لمصر لما جاء ابنه توفيق، وربما لم ينجح الإنجليز فى احتلال مصر.. لأن الخديو إسماعيل توفى يوم ٢ مارس ١٨٩٥ بينما توفى ابنه توفيق يوم ١٨ يناير ١٨٩٣.. وبذلك كان سيحكم مصر ابن آخر من أبناء إسماعيل.. وبالمناسبة توفيق هذا هو أسوأ حكام مصر من أسرة محمد على.. أما إسماعيل الذى حكم مصر من ١٨ يناير ١٨٦٣ كان سيظل فى الحكم إلى يوم وفاته فى مارس ١٨٩٥ أى سيصبح أطول حكام مصر- من أسرة محمد على- لأنه بذلك كان سيحكم لمدة ٣٢ عاماً، أما محمد على فقد ظل فى الحكم من ١٨٠٥ إلى عام ١٨٤٨.. على كل حال فقد نال إسماعيل ما لم يحصل عليه أى حاكم لمصر فى العصر الحديث.. إذ من أولاده وأحفاده من أصبحوا حكاماً لمصر أولهم ابنه الأكبر توفيق.. وعباس حلمى بن توفيق- وحسين كامل بن إسماعيل، ثم فؤاد.. وفاروق.. حتى أحمد فؤاد الثانى.. أى ثلاثة أبناء.. وحفيد!!
ونفس الشىء عندما عزلت بريطانيا حفيده عباس حلمى الثانى فى ١٩١٤.. إذ لو لم يعزل عباس حلمى هذا لما جاء حسين كامل ولأصبح الأمير محمد عبدالمنعم حاكماً لمصر- وهو الابن الأكبر للخديو توفيق.. من عام ١٨٩٣ إلى أن يموت عام ١٩٤٤ ليخلفه ابنه الأكبر- طبقاً لنظام تولى العرش- الأمير عباس حلمى «الثالث»، أطال الله عمره، فمازال موجوداً يمارس نشاطه ولو بعيداً عن السياسة.
وإذا كان عزل إسماعيل دفع لنا بحكام آخرين من الأسرة الملكية ربما كان قد وصل إلى الحكم الأمير محمد على توفيق، الذى كان ولياً للعهد للملك فؤاد إلى أن أنجب فاروق.. ثم ولياً لعهد الملك فاروق إلى أن أنجب ابنه فؤاد الثانى الذى ما زال على قيد الحياة بين فرنسا وسويسرا.
■ ■ أكيد كان وجه مصر سيتغير.. وربما ما كنا رأينا فؤاد سلطان أميراً ثم ملكاً.. ومن بعده فرعه. وربما كانت مصر قد تغيرت مسيرتها، وربما لما قامت ثورة ٢٣ يوليو.. والسبب الأساسى هو عزل الخديو إسماعيل.. ولكن كانت مصر سوف تصبح أفضل، وإذا كنا نعيش الآن عظمة عصر إسماعيل بما تركه.. فإننا كنا سنصبح أفضل كثيراً.. لو استمر الخديو إسماعيل حاكماً لمصر؟!.

خالد منتصر - تاريخ وفاة عبدالحليم الحقيقى - جريدة الوطن - 3/2019 /31

أعتقد أننا لا بد أن نعيد النظر فى توقيت الاحتفال بذكرى وفاة عبدالحليم حافظ، فعبدالحليم لم يمت فى مارس 1977 ولكنه مات قبل ذلك بفترة طويلة، وبالتحديد أثناء حفلة «قارئة الفنجان» الأولى، هذه الأغنية التى بذل فى الإعداد لها وفى بروفاتها مجهوداً خارقاً تعرض بسببه للنزيف القاتل عدة مرات، فقد احتشد لها بكل عناصر النجاح، أولاً اختياره لكلمات أشهر شاعر عربى حديث كتب عن الحب وهو نزار قبانى، ثانياً لحن محمد الموجى الذى تم التحفظ عليه لحين الانتهاء من لحنه العبقرى المتفرد والذى نكتشف فى تفاصيله ما يدهشنا حتى هذه اللحظة، ونأتى إلى أهم تلك العناصر وهو صوت حليم الذى وصل فى تلك الفترة إلى قمة تألقه ونضجه وشجنه وسحره.
باختصار، اجتمعت فى تلك الأغنية كل عناصر النجاح. ولكن -وآه من لكن هذه- كانت الحفلة خاسرة بكل المقاييس وخصمت من رصيد عبدالحليم الكثير والكثير، ففى هذا الحفل تأكد عبدالحليم من أن الزمن لم يعد زمنه، وأن جمهوره القديم قد تغيرت ملامحه بحيث أصبح من الصعب على حليم أن يتونس به، وأن مجتمعه الذى تشكل منذ منتصف الخمسينات وانتمى هو إليه بكل كيانه وتم تأميم حنجرته لصالح توجهاته الثورية، هذا المجتمع كان قد رحل فى سفينة الانفتاح مودعاً إياه وملوحاً له بشيكات الصفقات والعمولات والسمسرة، ليتركه على الشاطئ وحده يعانى من برد الغربة وصقيع الرحيل المفاجئ الغادر، اكتشف حليم أن أحلامه قد تم اغتيالها وأن غناءه الوطنى كان مجرد كذبة كبيرة سرعان ما تم التضحية بكل معانيها، واكتشف أيضاً أن جمهوره لم يعد يعترف بشىء اسمه المجهود والكفاءة والإتقان، فكل هذه الأشياء قد صارت فى عداد الأساطير والخرافات وجاء زمن الأغنية الساندويتش واللحن الحواوشى وهز الوسط وليس مس القلب والوجدان.
ما إن بدأ عبدالحليم بالغناء فى ذلك الحفل حتى انطلقت الصفافير وبدأ الرقص فى منتصف الصالة مما اضطره لترك الغناء للتفرغ لتنظيم الجمهور، وعندما فاض به الكيل صرخ فى هذا الجمهور المزيف الغريب قائلاً جملته الشهيرة، والتى حذفت من التسجيلات فيما بعد، «ما أنا كمان باعرف أصفر وأزعق!»، وصعد أثناءها إلى المسرح شخص من الصالة حاملاً معه بدلة عجيبة ذوقها متدنٍّ وشاذ، كانت البدلة ذات ألوان فاقعة ومرسوماً عليها أربع فناجين قهوة وكأن عبدالحليم يغنى إعلاناً عن البن البرازيلى لا قصيدة من أجمل ما كتب نزار!!!، والمأساة أن هذا الشخص كان مصراً على أن يرتديها عبدالحليم مما زاد من توتره.
لم يصدق عبدالحليم أن هذا هو جمهوره وتخيل أن المطربة وردة الجزائرية هى التى بعثت بهؤلاء البلطجية لكى يفسدوا حفلته، وظل حتى آخر لحظة من حياته مقتنعاً بأنها مؤامرة خلقها التنافس، وذلك الاقتناع نتج عن أنه لم يشك للحظة أو بالأصح رفض التصديق بأن رياح الزمن الردىء قد عصفت بكيان المجتمع وزلزلته من الداخل فتناثرت على شوارعه وناسه أوراق الخريف الذابلة.
وبعدها تضخمت المأساة عندما سخر منه سيد الملاح فى وصلة تقليد مهينة على الهواء مباشرة، ونال تصفيق الناس حين نقل إليهم أن عبدالحليم صار عدوهم ويريد تأديبهم وضربهم بالعصا، وبالطبع صدم طفل الثورة المدلل وهو يرى نفسه بهلواناً فى التليفزيون وكان للأسف لم يعرف أن زمن البهلوانات قد دقت ساعته وحان أوانه وأن زمن القامات الفنية العملاقة قد ولى تاركاً المكان لليل الأقزام!، وتزامن فى هذا الوقت ومع كل تلك الفوضى سيطرة التيارات الدينية المتطرفة على قطاعات واسعة من المجتمع فى الشوارع والجامعات والنقابات وبالتالى على توجهات الفن الذى يمثل ألد أعداء هذه التيارات، وعندما غنى عبدالحليم «يا ولدى قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب»، هاجت الدنيا وماجت وأطل ذوو الأفق الضيق والخيال المجدب العقيم من جحورهم ليحاولوا تحطيم تمثال عبدالحليم الذى نحتته أنامل البسطاء الذين أسكنوه حبات القلوب، ولم يكتفوا بذلك بل هداهم تفكيرهم الشاذ المنغلق المتربص وبتحريض من الغوغاء إلى أن يقنعوا الإذاعة والتليفزيون بحذف جملة من أغنية قديمة هى «قدر أحمق الخطى» من أغنية كامل الشناوى «لست قلبى».
توالت تلك الأحداث على العندليب الذى لم يستطع أن ينقلب إلى صقر، وأحس حليم بأن التجاعيد والبثور قد زحفت على وجه الوطن الذى صار غريباً عليه، وحاول أن يعافر ببضع أغنيات وطنية عند استعادة الأرض ولكن هذه الأغنيات للأسف كانت قد خاصمت الصدق فى معظمها، وأصبح حليم ضيفاً بعد أن كان صاحب بيت، وصار طريداً بعد أن كان رمزاً، ومطلوباً من المتطرفين بعد أن كان مطلوباً من المحبين، ومتهماً بالتحريض على الكفر والفسوق بعد أن كان متهماً بالتحريض على الحب والعشق والغرام.
ومات عبدالحليم منذ ذلك الحفل ولكن إعلان الوفاة تأجل إلى مارس 77 حين باغته نزيف دوالى المرىء فوجد جسده جاهزاً ومتهيئاً للموت من جراء نزيفه الداخلى السابق، نزيف الغربة والزمن المراوغ، جاءه الموت فوجده لابساً الكفن قبلها بعام وممدداً فى سريره القبر أو قبره السريرى، يشاهد موكب الحزن وعلى شفتيه ابتسامة حسرة فقد كان يتنبأ بزمن مقبل، زمن حمّو بيكا!!

Saturday, March 30, 2019

د. وسيم السيسى يكتب: مسمار فى ركبة مصرية! ٣٠/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم


فى ٢٣ أغسطس ٢٠١٨ اكتشف فريق طبى بريطانى مسمارا معدنيا فى ساق مومياء مصرية بواسطة أشعة إكس.
هذا المسمار حلزونى، له أجنحة حتى يثبت فى مكانه، تماماً مثل مسامير العظام اليوم التى توصلنا إليها فى القرن العشرين، وجد العلماء حول هذا المسمار صمغا عضويا «راتنجات عضوية» تشبه الصمغ المستخدم الآن.
هذه المومياء لذكر منذ أكثر من ٣٠٠٠ عام.
نرى فى أعظم كتب الجراحة Baily.Love صورا لطريقة رد الكتف المخلوعة عند قدماء المصريين بنفس الطريقة التى نقوم بها الآن، كذلك الفك المخلوع وأيضاً الرباط على هيئة ٨ فى كسر الترقوة!
أ. د. محمد كامل حسين، أستاذ جراحة العظام فى جامعة عين شمس، فى الكتاب السابق ذكره: فرَّق المصريون القدماء بين الكسر والجزع Sprain بشىء مهم اسمه القرقرة Creptation.
عرف أجدادنا الجبائر بأنواعها المختلفة:
١-خشب.
٢- جبس.
٣- طمى.
٤- زلال على أربطة الكتان للأطفال.
عرف هؤلاء العظماء الروماتيزم، وكانت الصورة التفسيرية رجلا عجوزا «مقرفص» ونحن الآن نطلق على هذا المرض O-A أى OLD-AGE أى سن متقدمة.
عرف أجدادنا عمليات البتر، لدينا فى متحف برلين بتر لمشط قدم سيدة بسبب القدم السكرى، ولكن الشىء المذهل أن القدم مثبت بمفصلات حتى تستطيع السير عليها باتزان، هذه القدم الصناعية من الخشب وفى غاية الإتقان.
وصف أجدادنا كسور الفقرات العنقية: شلل رباعى مع أعراض جسدية أخرى وصفوها بدقة.
وكانوا يشرَّحون الجثة بعد الوفاة POST MORTUM EXAMINATION، تجد الفقرة العليا مغروزة فى الفقرة السفلى كما تنغرز القدم فى الطمى!
عرف أجدادنا كسر قاع الجمجمة بنزول سائل من الأنف أو الأذن، كما أجروا عمليات التربنة بمهارة شديدة!
نحن شعب حكم الدنيا وساد ونما والدهر فى المهد صغير.

خالد منتصر - استعمار الاستحمار ما بين الإذعان والإدمان - جريدة الوطن - 3/2019 /30

أظهرت مشكلة التعاطف الجارف مع طبيب القلب النصاب، والدفاع المستميت عنه، ووصول مشاهدات فيديو استغاثته إلى 2 مليون مشاهدة، أننا قد انتقلنا من مرحلة قابلية أن ينصب علينا إلى مرحلة عشق من ينصب علينا!!، وإذا كانت المرحلة الأولى من الممكن علاجها فالمرحلة الثانية ميئوس من علاجها hopeless case!!.
مرحلة قابلية الاستحمار وشراء العتبة من الممكن أن نتجاوز عنها، ونعذر المنصوب عليه، ونُبرّر له بحجة السذاجة، لكن مرحلة عشق الاستحمار والغرام به ومطاردته والسعى إليه مرحلة لا عذر لها ولا مبرر، نحن قد انتقلنا من مرحلة البكاء من خدعة شراء العتبة إلى الهرولة لشرائها، ونحن فى منتهى السعادة والإحساس بالانتصار!!.
واضح وضوح الشمس أن هذا الطبيب كاذب، ويمارس الدجل، ولديه مشاكل نفسية، وقانونياً هو مدان، فتخصّص القلب يحتاج شهادة، وهو لا يمتلكها، ورغم هذا يجد من يدافع عنه، والزمالات التى يزين بها روشتاته كلها أوراق حاصل على مثلها الآلاف من طلاب الطب فى تبادل طلابى لم يتجرّأ أو يتجاسر طالب منهم على اعتبار الشهر الذى ذهب فيه إلى مستشفى أوروبى هو زمالة!!، أو اعتبار الكارنيه الذى منحه له المستشفى للمرور من البوابة شهادة دكتوراه، أو أنه اعتراف رسمى منهم بعبقريته!!، برغم كل هذا الكذب بداية من مساعد مجدى يعقوب للشهادات المضروبة، لجراح القلب المزعوم، لأصغر حاصل على سبع دكتوراهات، إلى افتتاح عيادة عليها لافتة تخصص قلب مزيفة، يكشف فيها بثلاثة آلاف جنيه، يوهم فيها المرضى الذين على شفا الموت أنهم لا يحتاجون إلى دعامات أو قسطرة!!
كل هذا والناس تهرول إليه وتدافع عنه، يروج هو لنظرية المؤامرة، ويروجون هم لوهم أنه ضحية حقد أعداء النجاح!!، عشق الاستحمار وإدمانه نتيجة تزييف العقل بعد مرحلة الإذعان له نتيجة سذاجة الوعى، هى مرحلة خطيرة، مظاهرها المرعبة هى الدفاع عن تاجر أعشاب يمارس الطب، بحجة أنه لا يضرنا، وهو يقبض المليارات من عبطنا، ودفاع عن سمسار طب نبوى خريج زراعة، بحجة أنه رجل بركة مؤمن، وترويج لمدرس ألعاب يعالج بالطب البديل، بحجة أنه بتاع ربنا، وصرف مليارات على مؤتمرات إعجاز البردقوش وحبة البركة فى واحدة من أرقى جامعاتنا، سلسلة من شريط سينمائى مفزع يهرول فيه ملايين المصريين بأقصى سرعتهم نحو فخ النصب ومقصلة الدجل، فى كامل وعيهم وبكامل إرادتهم وبعشق مجنون وغرام محموم لكل نصاب يستحمرهم، نريد تفسيراً لهذا المرض النفسى الجديد.

Friday, March 29, 2019

فاطمة ناعوت تكتب:أم كلثوم.. فيروز.. شيرين ٢٨/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم


هذا المقالُ ليس كما قد يشى عُنوانُه. هذا المقالُ لا يعقدُ مقارناتٍ بين أشخاصٍ، أو حناجرَ، أو مواهبَ، أو مستوياتٍ ثقافية، أو سلوكٍ، أو تجاربَ، أو مدارسَ فنيّةٍ أو فكريةٍ. هذا مقالٌ يحكى فضفضاتٍ حدّثتُ بها نفسى، وأودُّ أن أحدّثكم بها حديثَ النفس للنفس. هذا مقالٌ يُحرِّضُ على التأمل، ولا يُراهنُ على أى شىء.
أم كلثوم. ولو سألنى سائلٌ: كيف وضعتُ «نقطةَ نهاية الجملة» بعد «مبتدأ» لا «خبر» له؟ سأجيبه بأن اسم: «أم كلثوم» مبتدأٌ وخبرٌ معًا. اسمها فى ذاته «جملةٌ مفيدة» يجوز ألا نضيفَ إلى مُبتداه خبرًا لكى يكتملَ المعنى. لأن مجرد ذِكر اسمها سوف يستدعى فى ذهن المتلقى تاريخًا استثنائيًّا ثريًّا، لا تستوعبه مجلداتٌ ضخمةٌ حافلة بالجُمل المفيدة. ومع هذا، إن بحثتَ عن حوارات تليفزيونية أو صحفية مع أم كلثوم، لن تجد، ربما إلا حوارًا واحدًا وافقت السيدةُ الجميلةُ أن تُجريه مع سيدة جميلة أخرى هى الإعلامية «سلوى حجازى». أين؟ فى باريس. متى؟ فى نهاية عام الهزيمة ١٩٦٧. لماذا؟ لأنها كانت تجوبُ العالمَ لرفع رأس وطنها الجميل مصر، ودعم المجهود الحربى ليواجه العدو الصهيونى، فتبرّعت بكامل إيراد الحفل الذى أقامته فى مسرح «أوليمبيا» الفرنسى (١٤ ألف جنيه استرلينى، وهو ثروة طائلة آنذاك) لصالح جيش بلدها. وماذا قالت فى ذلك الحوار الطويل؟ كلمات قليلة للغاية، لا نتذكر منها إلا كلمة: «المسلّة المصرية»، ردًّا على سؤال: «ما أجمل ما رأيتِ فى باريس؟».
ورغم ثقافتها الواسعة وتمكّنها من الحديث بلغة عربية رصينة لا لحنَ فيها ولا عِوَج، كانت «أم كلثوم» بخيلةً للغاية فى الجود بكلماتها فى اللقاءات. لماذا؟ لأنها أدركت أن حنجرتها الأسطورية تلك لم تُخلَق للدردشة والكلام السيّار الذى يقوله الناس، إنما للغناء، وفقط. كانت تضنُّ باهتزازات أحبال حنجرتها إلا على الشدو والطرب وضبط المقامات، والدندنة مع الموسيقى، لكى تُدوزِنَ أوتارَ حنجرتها على إيقاع النغم.
فيروز. وهل يقفُ اسمُ «فيروزَ» كجملة مفيدة كذلك، دون خبر للمبتدأ؟ نعم، بكل تأكيد. فرادتُها واستثنائيتُها وتاريخها ومُنجزها جميعها «خبرٌ» للمبتدأ: «فيروز». كلما سافرتُ إلى بيروت، أحرص على زيارة كنيسة «أنطالياس»، المكانُ الذى تُغنّى فيه الجميلةُ فى عيد الميلاد. لماذا؟ حتى أستنشقَ عبيرَ صوتها فى مكان الشدو. مفتونةٌ أنا بتلك العصفورة الغِرّيدة. وفى أحد الأعوام، سافرتُ للمشاركة فى أحد المؤتمرات الفكرية فى جامعة «سيدة اللويزة» فى جبل لبنان. وحين لمسَ منظمو المؤتمر شغفى بالجميلة فيروز، قرّروا أن يُنظّموا لى لقاءً خاصًّا معها. لكننى ضحيتُ بذلك المجد التاريخىّ، لأننى آثرتُ ألا أُنصتَ إلى فيروز إلا شاديةً مُغرّدة. فيروز كذلك لم تُخلق إلا للشدو والغناء.
عزيزتى شيرين عبدالوهاب، أعلمُ أنك على قدرٍ هائل من البساطة والتلقائية. ولاشك عندى، ولا عند أحد، فى حجم وطنيتك وحبّك لمصرَ، التى يحبها جميع المتحضرين فى العالم أجمع، إلا فقراءُ الروح من ذوى الأحقاد والضحالة. وأعلم أن كلماتك التى حاولتِ فيها المزاحَ مع جمهورك لم تتخطَّ حاجزَ المزاح والمرح، حتى وإن جرحتنا. وأعلمُ أن الإعلاميين الأُجراء المغلولين الهاربين من مصر فى تركيا وقطر، قد حمّلوا كلماتك سمومَهم حتى يفوزوا بنقطة حرام فى معركتهم الخاسرة ضد مصر. وأعلمُ أن التجاربَ الكثيرة المُرَّة علّمتك أن «الحرفَ يقتُل»، إن لم يُزَن بميزان الذهب. وأعلمُ أنكِ حاولتِ فى بيانك الباكى تبرئة مصرَ قبل تبرئة نفسك، وهذا يُحسَبُ لكِ، ويؤكدُ وطنيتك. وأعلمُ أنك تعهدتِ مرارًا من قبل، ومن بعد، أن تُقصرى صوتَك على الغناء وفقط. وأعلمُ أنك ربما لن تقدرى على الوفاء بالعهد، لأن التلقائية كثيرًا ما تغلبُ العهود. لهذا أكتبُ لك هذا المقال. اعلمى يا صديقتى أنه كما يقول المثلُ الدارج: «وقعة الشاطر بألف»، كذلك فإنه بالقياس: «كلمة المشهور بألف ألف!»، أو كما تقول الأدبياتُ العربية: «قليلُ كلامِنا كثيرٌ». الشهرةُ ليست نعيمًا مطلقًا كما يظنُّ الناس. لأنها تُحدُّ من مساحة الحرية، وتُخفّضُ من سقف الممكنات، وتُغِلُّ الأعناقَ بسلاسل من الالتزام الصعب. ما يقوله الناسُ فى جلساتهم وعلى صفحاتهم من مزاحات ونكات وقفشات، لا نستطيعُ نحن أن نقوله مادمنا قد دخلنا دائرةَ الأضواء والشهرة. يُحسَبُ علينا ما يمرُّ على غيرنا. ولكِ حبّى.
وكالعادة أختمُ مقالى بقولتى: «الدينُ لله، والوطنُ لَمن يُحبُّ الوطن».

خالد منتصر - «يشير الحكيم إلى القمر فينظر الأحمق إلى أصبعه» - جريدة الوطن - 3/2019 /29

تذكرت هذا المثل الصينى وأنا أرى حالنا ونحن نتعامل مع تراثنا وتاريخنا ونصوصنا المقدسة، ظهرت أمامى تلك الجملة العبقرية وأنا أرى أمة كاملة تنظر إلى نصوص بنت زمانها وتشريعات بنت بيئتها وحدود مستجيبة لمناخ اجتماعى محدد، تنظر لها على أنها أحكام سرمدية أخلاقية خارجة عن الزمان والمكان، معلقة فى السماء، لا علاقة لها بالأرض، وعلى تلك الأرض أن تخضع قوانين جاذبيتها وظروف مناخها لمقاس وكتالوج تلك الأحكام الفولاذية، فالله يمنحنا مانشيتات وخطوطاً عريضة وعناوين عامة وإشارات ولافتات لطرق، ليست تفاصيل التفاصيل لأنها ستتغير وتلك مسئوليتك، ولا محطات الطريق لأنه ليس مطلوباً من لافتة الشارع أن تخبرك عن مساحة حجرتك فى الشقة التى فى العمارة المبنية على ناصيته!
القمر هو الغاية العليا والقصد البعيد من التشريع، أما الأصبع فهو الالتزام بحرفية النص وتخيُّل أنه هو الهدف والغاية والمقصد، لم يسأل نفسه وهو يحدق فى الأصبع، لماذا على سبيل المثال تكررت المصطلحات التجارية فى القرآن مثل: «خسر وربح وتجارة وإقراض وقياس الأوزان... إلخ»، لماذا الصيغة التجارية حتى فى مسائل العقيدة والعلاقة مع الرب كما ذكر الكاتب المغربى سعيد ناشيد فى كتابه «الحداثة والقرآن»، واستعمال مصطلحات «المكيال والميزان والمطففين» فى هذا السياق، لماذا جاء نظام العقوبات متسقاً مع المزاج التجارى للمنطقة؟، ولماذا جرائم السرقة وقطع الطريق كانت فيها الحدود على عكس الغش والاحتكار والربا؟
لم يسأل نفسه وهو ينظر إلى الأصبع عن آيات القتال مُغفِلاً أن القتال كان نشاطاً اقتصادياً ونمطاً ثقافياً وقتها، لم يسأل نفسه عن نصوص وفقه الرق الذى كان قوة إنتاج حينذاك تبخرت بعد اختراع الآلة البخارية.
لم يسأل نفسه وهو ينتظر نعيم الجنة عن سقف هذا النعيم وكيف أن جغرافيا ذلك الوقت هى التى رسمت، ومخيلة البدوى هى التى طمحت وتمنت، فكان النخيل والأعناب والعسل هى قمة التصور حينذاك، وكان يجب أن تكون اللغة على نفس مقاس الجغرافيا والمخيلة والذوق والبيئة.
لم يسأل نفسه وهو ينظر إلى أصبع القصاص والرجم والجلد عن أن عقوبات ذلك الزمن كانت تخضع للانفعال الانتقامى الحاكم لتلك البيئة.
أسئلة كثيرة أعمتنا عن رؤية القمر البدر الكامل للعموميات، هذه المشكلة والمعضلة نجدها تطل دائماً برأسها وتظللنا بغيمتها وتشلنا بقيودها فى مسيرة الأديان الإبراهيمية، ألقى الضوء على تلك المعضلة د.عبدالجواد ياسين فى كتابه المهم «الدين والتدين» حين قال، ص169: «التشريعات القانونية حتى وإن تبناها نص دينى هى خيارات اجتماعية مستمدة من البيئة التاريخية المزامنة للنص، وبالتالى فهى ليست جزءاً من المطلق الإيمانى الذى ينحصر فيه معنى الدين فى ذاته».
والتشريع الإسلامى بالذات وفى طور التشكيل لم يكن فى جدل مع الواقع فقط ولكنه فى جدل مع التوراة أيضاً، وهنا لا بد أن نقف وقفة سريعة لفهم التشريع التوراتى أو بالأصح فلسفة التشريع التوراتى أو ما يحكمه من رؤية، يلخصها عبدالجواد ياسين فى الكتاب نفسه، من ص12 إلى ص14، بأن اليهودية سياقها وفهمها كان نفعياً أو شبه تعاقد شعاره «امنحنا الحماية بعد الخروج فى مقابل التمسك بمنهجك»، ومن هنا كرس تاريخ اليهودية مفهوم الدين كنظام جماعى يتعلق بشعب أكثر مما هو إحساس روحى يتعلق بفرد، وأعتقد أن هذه الرؤية مفصلية فى المفهوم الذى طغى علينا فى سحق الفردانية وسيطرة الجماعية الاستنساخية التى أفرادها حزمة من الفوتوكوبى البشرى، ولأن اليهود لم يمروا بالمرحلة المكية وكانت الألواح العشرة التى هى بمثابة المدونة القانونية هى البديل، فقد تأثرنا وتغاضينا نحن عن كثير من المبادئ العامة للمرحلة المكية المليئة بالخطوط الاسترشادية العامة ولم نضع تفاصيل مرحلة المدينة فى إطار تلك المبادئ الاسترشادية، وهذا يولد أسئلة أخرى أعم وأشمل، هل الدين هو الأساس الذى نبنى فوقه أم هو البناء نفسه؟، هل هو الباعث على إطلاق كل طاقاتنا لصنع الأفضل فيما نختار من بدائل، أم هو أحد البدائل؟
الحراك الفكرى لبعض القدماء، والذى تم تأميمه لصالح السلفيين فعشنا الإذعان بدلاً من الإيمان، جعل هذا البعض يفهم تلك الحكمة الصينية وينظر إلى القمر المشار إليه بدلاً من الأصبع المشار به، منهم الفقيه مالك بن أنس الذى رفض فرض «الموطأ» بواسطة الحاكم أبى جعفر المنصور.
وإشارات سريعة لفهم الحدود التى هى دائماً مشاجرة وخناقة ومعركة كل تيارات الإسلام السياسى، يستخدمونها كفزاعة على أن مجتمعاتنا بعيدة عن صحيح الدين وتهدر حق الله، وإذا كان الحد هو حق الله بالفعل كما يروج هؤلاء فلماذا شجع الرسول ماعز والغامدية على الإنكار أو أثناهما عن الإقرار، مما جعلنا نصل كما قال المفكر جمال البنا فى كتابه «هل يمكن تطبيق الشريعة؟» إلى حد «تلقين الإنكار للمتهم».
يظهر عنصر الغاية والمقاصد جلياً فى موانع حد السرقة المثيرة للجدل والتى تضيقه وتضيقه حتى نجد مساحة يقف فيها نشال الجنيهات من الجيوب فى الأوتوبيسات وحيداً يرتعش بينما يمرح ويفر هاكر البنوك بملياراته بعيداً عن تنفيذ الحد!، فالمسروق لا يجب أن يكون صنماً من ذهب أو بيانو وعوداً ومزماراً، أو لوحة فنية ولو كانت الموناليزا، يعنى لو كان سارق لوحة زهرة الخشخاش موجوداً فى زمن الخلافة ما قطعت يده!، المسروق يجب أن يكون فى حرز، يعنى سرقة مطعم أثناء العمل تمر بدون حد، كذلك سرقة أحذية المصلين، وعند ضبط السارق بالبيت، ولو أعطى الحرامى المسروقات من الشباك لزميله، وإذا ثقب الحائط وأدخل عصا، وسرقة الزوجة لزوجها، وإذا كان مالك المال مجهولاً، وإذا كان المسروق أقل من النصاب...الخ، وعندما أثار الشيخ الأزهرى الجليل عبدالمتعال الصعيدى قضية أن القطع فى حد السرقة ليس للوجوب ولكنه للإباحة وأن فيه تخييراً، وثارت عليه الدنيا فى الأزهر الذى أصدر تقريراً يدينه، رد الصعيدى قائلاً «فليشهد التاريخ بعد هذا أن السرقة فيها القطع أو الغرم أو الحبس على التخيير، وليشهد التاريخ أن لولى الأمر أن يتصرف فى العقوبات الثلاث بحسب ظروف كل عصر».
من يصر على حرفية الحد ويقرأ فى تاريخ سرقة الإبل التى كانت عصب النقل التجارى والاقتصادى حينذاك، لم يقرأ مع تلك الحكايات ماذا كان يفعل الأمريكان الكاوبوى قديماً فى سارق الجياد، كان يُشنق ويُعلق على الشجرة!، هنا ناقة وهناك حصان والمشترك وسيلة النقل التى تحافظ على الاقتصاد بل والحياة.
وللأستاذ جمال البنا تفسير قريب إلى المنطق والعقل لمعنى إقامة حدود الله، ذكره فى كتاب «تطبيق الشريعة بين الحقيقة وشعارات الفتنة»، يقول فى ص 30 عن معنى إقامة حدود الله بأنها «تخاطب جميع المؤمنين كلاً على حدة، لتبين له حدود ما ينبغى أن يلزم نفسه به فى سعيه لسلوك طريق قرب من الله فى تكاليف يغلب على صدق أدائها الخصوصية الشخصية والخفاء»، ويضرب مثلاً بالصيام الآية المذكورة فى سورة البقرة «تلك حدود الله فلا تقربوها»، فالآية تتضمن تكاليف لا يجدى لصدق أدائها رقابة حكام لخصوصيتها الشخصية، فمن الذى يستطيع أن يراقب صائماً؟!، أدركوا قديماً تلك المعانى فضيقوا الحالات التى تقام فيها الحدود أحياناً لدرجة الاستحالة، فعقوبة الزنا الشهود الأربعة العدول الذين يشاهدون الفعل كاملاً بالتفصيل صدفة!، لأنهم إذا جاءوا عمداً فإنهم جواسيس، وإذا جاءوا صدفة وتعمدوا الانتظار فهم من الديوثين، وفى الحالتين الجاسوس والديوث غير عدول!!، وكذلك فى عقوبة شارب الخمر هل هى جلد بالسياط أم بالجريد أم ضرب بالنعال؟، وهل هى 20 أو 40 أو 80 جلدة...إلخ، وفى حد الردة أين حكم القتل فى آية {... مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...}.
وكما ذكرنا من قبل، العقوبات ليست أخذاً لحق الله، وترويج هذا المفهوم يفتح باباً خطيراً يصور توقيع العقوبة من قطع يد ورجم.. إلخ، هدفاً فى حد ذاتها، فليست هناك علاقة بين توقيع العقوبة وعفو الله عن المجرم، كما يقول جمال البنا، فالرب يعفو بالتوبة.
هذه الصورة التى تختزل الدين فى رغبة انتقامية لتوقيع عقوبة بغرض العقوبة واعتبار التوبة مراوغة والإصلاح مستحيلاً والتجريس متعة والفضح غاية، هذه الصورة أعتقد أنها أكبر إساءة للدين ذاته وللأسف من معتنقيه أنفسهم الذين يصدرون إلينا أنهم حراس الدين المحافظين على عرينه وحصنه، وهم بهذا الاختزال أول من يستبيحون العرين ويُسقطون الحصن.

Thursday, March 28, 2019

خالد منتصر - دعاء ركوب الأسانسير - جريدة الوطن - 3/2019 /28

حكى لى الكاتب والسيناريست الكبير وحيد حامد قصته مع شركة المصاعد التى تجدّد وتقوم بصيانة أسانسير العمارة التى يسكن فيها، كانت قمة التجديد والصيانة ليست زيادة سرعته، أو قوة تحميله، أو سعة مساحته، بل كانت تركيب دعاء الركوب بمجرد الضغط على زر رقم الدور!!
اعترض الأستاذ وحيد، قائلاً للمسئول عن العمارة وللشركة إن السكان فيهم المسيحى والمسلم، والمفروض ألا تجبر أحداً يركب الأسانسير ومختلف معك فى العقيدة أو الفكر، حتى لو كان عامل الدليفرى على سماع دعاء إجبارى وصيغة معينة، بحجة أنها بركة وأمان، ودائماً الرد كان «هو حد يكره البركة والدعاء؟!».
أمان الأسانسير يا سادة فى صناعته الجيدة وصيانته المستمرة، كما أن أمان الطائرة ليس فى دعاء الركوب، ولكن فى إتقان تطبيق تعاليم الطيران الصحيحة، فالكابتن البطوطى قال دعاء الركوب بأعلى صوته، ورغم ذلك سقطت الطائرة المتّجهة إلى نيويورك فى كارثة مروعة، لم تسمع أدعيته أجهزة الملاحة، والطائرة الإثيوبية انفجرت لعيوب فى الصناعة وليس لعدم وجود الدعاء، أو لأن الركاب كفرة والعياذ بالله، والطائرة التى كانت متّجهة إلى روسيا، وكان انفجارها سبباً فى منع السياحة الروسية عن مصر تحطمت، نتيجة خيانة إخوانجى جهادى تكفيرى خائن اندس ووضع القنبلة، وهذا الشخص العميل الذى وضع تلك القنبلة طمعاً فى حور عين الجنة، هو نفسه الذى يُردّد دعاء الركوب كل ساعة، حتى أثناء علاقته الحميمة!
رفع فزاعة التكفير فى وجه كل من يعترض على تديين الفضاء العام، وسلفنة الشارع والمناخ الاجتماعى بالعافية، لن ترهبنا أو تمنعنا عن انتقاد تلك المظاهر الشكلية الدينية التى لا علاقة لها بجوهر الدين وهو الضمير.
إن ما يحدث هو حشرية وعدم احترام خصوصية وفرض شكل دينى وإجبار الآخرين على الالتزام به، إنه نوع من التحرّش الدينى، فجوهر الحداثة هو الفردانية والحفاظ على خصوصية الشخص وعدم دس أنف الغير فى قناعاته، لم يمنعك أحد من ترديد الدعاء فى أى مكان، لكن بينك وبين نفسك، لو نسيت صياغته وكلماته اقرأه من الموبايل الذى من الممكن تحميل كل تراثك المقدس عليه فى ربع جيجا!، نحن لسنا ضد قناعتك وراحتك النفسية عندما تردده، هذا حقك، لكن هذا حقك وحدك ويخصك وحدك، ومن حق الآخر، ومنهم المصرى والأجنبى، ألا يتبع تعاليمك وقناعاتك وطريقة وأسلوب بحثك عن الأمان النفسى، من واجبنا جميعاً أن نستمع لإجراءات الأمان والإنقاذ على الطائرة، وأن نطمئن جميعاً على باب ورافعة وأرضية الأسانسير، لكننا أحرار، كل شخص بكينونته كفرد أن يناجى ربه كما يشاء فى الوقت الذى يشاء، لكن المناجاة ليس من شروطها المقدّسة الميكروفون المشترك، أو المظاهرة الجماعية، أو البث المباشر على الهواء وفى الهواء!
الحداثة والتقدم والتحضّر بدأت بمعيار اجتماعى مهم، وهو أن مساحتى الخاصة ملكى، لا تقتحمنى بحجة الوصاية، أو تحت لافتة أنك أفضل منى ديناً وإيماناً وتقوى، وأنك تبلغنى رسالة الخالق الذى لم يمنحك توكيلاً للتحدث باسمه، كفانا عبثاً وخرقاً للقانون باسم البركة الدينية، فالله سيحكم علينا بأعمالنا وبما فى القلوب، وليس بدعاء الركوب.

Wednesday, March 27, 2019

عبدالخالق عياد يكتب: عبدالهادى قنديل.. تاريخ حافل بالإنجازات ٢٦/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم


تاريخ حافل ومتميز لأحد أهم رجال مصر فى مجال البترول، أسس كثيراً من شركات قطاع البترول، واستطاع فى فترة وجيزة إعادة مصر لموقعها بين دول البترول، وله الفضل فى توفير البترول فى أصعب سنوات مرت بها مصر، بداية من نكسة ١٩٦٧ بعد أن احتلت إسرائيل كل سيناء، وسيطرت على حقول البترول فيها، حتى نصر أكتوبر ١٩٧٣، له الفضل فى إعادة الحياة لأكبر منجم للفحم فى سيناء، هو الكيميائى عبدالهادى قنديل، وزير البترول الأسبق، أحد أبرز رواد الصناعة البترولية، الذى ودعته مصر إلى مثواه الأخير.
وقفنا صفوفا خلف جثمانه كأحد تلامذته الذين تعلموا منه العمل الجاد، قادنا جميعا بحكمة وحنكة وشجاعة وذكاء وقدرة على الحزم حتى أصبح لنا القشة التى نتمسك بها فى تيار العمل الشاق وقسوته وإحباطه. كان معينا ومشجعا لنا، السند عندما كانت المساندة هى السبيل إلى نجاح الفريق.
فقد شغل عبدالهادى قنديل منصب رئيس هيئة البترول ثم وزيرها فى الفترة بين ١٩٨٠ و١٩٩١، وعندما تعرفت إليه لأول مرة كنت عائدا من غربة عن قطاع البترول المصرى استمرت من عام ١٩٧٧ حتى عام ١٩٨٣، بعدها أصبح لى أخا أكبر وقائدا ومعلما ورئيسا ومرشدا ومعينا حتى آخر أسبوع قضاه فى المستشفى فى رعاية الله، وبين يديه لا حول لنا ولا قوة فى أن يبقى بيننا حبيبا ضاحكا معلما ناصحا، نحرص على لقائه وهو لا يبخل علينا به رغم مشقة الخروج من منزله.
أتردد كثيرا ماذا أقول وماذا أكتب فى سيرة هذا العملاق!!
قلت لنفسى سوف أكتب وأكتب ما حييت حتى تمتلئ الصفحات أو ألاقيه فى عالم الصفاء بإرادة المولى وقدره، أما البداية فقد تكون أن أذكر للمواطن المصرى ما يهمه عن وزير بترول مصر.
سوف يبقى التاريخ المكتوب ذاكرا لعبدالهادى قنديل بُعد نظره وجرأته وقراره وحكمته، ففى عام ١٩٨٨ لم تكن للغاز اتفاقية ولا حافز ولا قواعد تجذب مستثمرا للبحث عنه منفردا حتى لو لم يكن هناك اكتشاف بترول.
صنع عبدالهادى قنديل هذا الاتفاق وسمى بند الغاز. وطبق أول ما طبق على حقول بدر الدين (تنتج حتى الآن) تلاها خالدة ثم الأبيض، وهو الذى اكتشف على أساسه كل حقول الغاز حتى حقل ظهر، وبسبب هذا الاتفاق الذى كان نقلة هائلة فى تاريخ البترول المصرى، اكتشفت حقول البحر الأبيض بداية من التسعينيات. ولم تنتج وتُنمى وقتها لعدم وجود تقنية عالمية للإنتاج من حقول فى مياه أعمق من ٤٠٠ متر (ظهرت فقط فى نهاية التسعينيات).
بدأ رحلة الألف ميل التى يكثر الحديث عنها الآن وهى تعميم استخدام الغاز فى المنازل بشركتين. بتروجاز وغاز مصر.
استطاع أن يوفر المواد البترولية لكل من يطلبها فى مصر بأسعار تتفق مع مستوى معيشة الفقير والمهمش ومن الممكن للقارئ أن يراجع أسعار تلك الفترة.
استطاع تصدير فائض بترولى يوفر دولارات لاستيراد القمح.
أذكر فى أول زيارة لى معه لافتتاح إنتاج حقول جبل الزيت وخليج الزيت العملاقة، لم يقف ليشرح لرئيس الجمهورية، فهو ليس فى حاجة لتزكية نفسه عند أحد. هو الوزير والقائد الذى تتحدث عنه نتائجه.
قدم شبابا لرئيس الدولة بالاسم سنة ١٩٨٥ وقفوا رجالا يشرحون ويتحدثون عن المستقبل الواعد والفرصة التى تنتظرهم ليكونوا قادة المستقبل وكنت واحدا من هؤلاء، وكان زميلى الأستاذ صلاح حافظ هو من وصفه الوزير قنديل بفارس المستقبل فى البحث، وكان الشاب كمال مصطفى هو من قدمه الوزير على خلفية قائد بتروجت التى أصبحت من كبرى شركات الإنشاءات البترولية، وكان الشاب طارق حجى، نائب رئيس شركة شل، من قدمه الوزير على أنه أول مصرى شاب يصبح على خطوة واحدة من رئاسة أعرق شركة أجنبية فى مصر.
وفى هذا اليوم دُشنت أول سفينة خدمة على المستوى العالمى لخدمة البترول لشركة مصرية هى ماريدايف التى أصبحت نجما من نجوم سوق المال.
هذا هو القائد. وهذا هو المفكر والمخطط. هذا هو صانع الرجال. وقد أثبت كل الرجال الذين قدمهم لمصر بتروليا أنهم عند حسن ظنه. ترك عالمنا ولكنه بقى فى داخلنا المعلم والرائد والقائد والحكيم.
رحمة الله عليك رئيسنا عبدالهادى قنديل. نحن أبناءك المخلصين. ولا يموت أب ترك أبناء صالحين يدعون له. دعاؤنا لك لن ينقطع حتى نلقاك.
* رئيس الهيئة العامة للبترول الأسبق

د. محمد أبوالغار يكتب: ثورة ١٩١٩ لم تفشل وحققت أكثر أهدافها ٢٦/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

منذ عام ١٩٥٢ ظهر اتجاه يقلل من قيمة ونجاحات ثورة ١٩١٩ وزعمائها، وتغيرت كتب التاريخ وسارت كلها فى نفس الاتجاه. وحيث إن هناك أكثر من جيل قد تعلم وتربى خلال تلك العقود، فبدا وكأن هناك رأيا عاما يؤمن بذلك ويعتقد أن الثورة قام بها مجموعة من الباشوات ولم تحقق شيئًا عظيمًا.
هناك حقيقة تاريخية عليها إجماع بأن ثورة ١٩١٩ ثورة شعب كامل وليست ثورة باشوات، وكان وقودها الأساسى الذى هز كيان الإنجليز هم الفلاحين الذين قطعوا السكك الحديدية وخطوط التلغراف والتليفون والبريد فى كل أنحاء مصر، وفى القاهرة والإسكندرية وكان الطلبة والأفندية والمهمشون والموظفون هم وقودها وصورهم تملأ صحف ذلك الوقت. الثورة استمرت شهورًا بين ارتفاع وانخفاض، والمقاومة المنظمة على الأرض التى قادها عبد الرحمن فهمى مع مجموعات شباب المدارس العليا جعلت حياة الإنجليز جحيمًا.
نعم تضامن معها وقادها فى المفاوضات مجموعة من الباشوات ولكن معظمهم اعتبروا أن الانتصار على الإنجليز مستحيل، ولذا فضلوا طريق المكاسب القليلة بالقطعة، ولكنهم مع انتفاضة الشعب خلف سعد زغلول وقفوا خلفه فى الفترات الحاسمة واختلفوا معه فى فترات لاحقة.
الثورة نجحت لأن الإقباط والمسلمين التحموا فى نسيج وطنى واحد فى لحظة فاصلة أذهلت إنجلترا. فماذا حققت الثورة؟..
١. إلغاء الحماية البريطانية، الإنجليز رفضوا حتى سفر المصريين للتفاوض فى هذا الشأن، ولكن الثورة حققت الهدف، وأصبحت لمصر وزارة خارجية وسفراء وقناصل ولم تعد بريطانيا تمثلنا، ورفرف علم مصر فى بلاد العالم. وهل كان ذلك ممكنًا بدون صلابة موقف سعد زغلول؟، استغرق الكفاح ثلاث سنوات حتى رضخت بريطانيا العظمى.
٢. الدستور والبرلمان: تحقق ذلك بالكامل بدستور عظيم يُحسد أبناء مصر فى النصف الثانى من القرن العشرين وفى القرن الواحد والعشرين عليه.
٣. الاستقلال: إعلان استقلال مصر، ولكنه لم يكن استقلالًا كاملًا بسبب وجود الجيش البريطانى على أرض الوطن.
ثورة ١٩١٩ حققت أمورا كثيرة شديدة الأهمية، لم يفكر فيها الثائرون والقيادات ولكنها كانت نتيجة مباشرة للثورة.
١. حققت الثورة فكرة الدولة المدنية التى ينظمها الدستور وليس الدين. لأن حركة مصطفى كامل السابقة كانت حركة لها صبغة دينية، وهو ما لا يحقق نظام الدولة الحديثة التى تنادى بأن الدين لله والوطن للجميع.
٢. حققت الخروج بصفة نهائية من الدولة العثمانية وبزوغ القومية المصرية، وهو أمر لو تعلمون عظيم.
٣. ترسيخ مبادئ السياسة الحديثة بتكوين أحزاب سياسية وأسس للديمقراطية عبر انتخابات شعبية، وفى نفس الوقت أنشئت النقابات والاتحادات وانتعش العمل الاجتماعى.
٤. تم الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بوضوح شديد لأول مرة فى تاريخ مصر الحديث.
٥. تحقيق مبدأ المواطنة وهو أمر أساسى فى الدول الديمقراطية وأصبح المصريون متساوين أمام القانون وطبق ذلك على أرض الواقع. صحيح أن الدستور نص على أن دين الدولة هو الإسلام ولغتها العربية إلا أن ذلك جاء فى المادة ١٤١ من المواد المكملة ولم تذكر كلمة الشريعة على الإطلاق فى الدستور.
٦. خوض المرأة للتظاهر وكان ذلك بداية لمساهمة مجتمعية نشطة فى جميع المجالات الخيرية، ونشطت حركة تعليم المرأة وبدأت فى الاشتراك فى سوق العمل بكثافة وانتقلت تدريجيًا إلى العمل السياسى.
٧. نهضة ثقافية كبيرة فى جميع المجالات، فى الموسيقى سيد درويش كان النجم الكبير وخرج من عباءته محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد وظهرت أم كلثوم. وفى الفن التشكيلى كان محمود مختار أحد كبار المؤيدين لسعد زغلول وأقام تمثالين له فى القاهرة والإسكندرية وخرج من عباءته عشرات الفنانين التشكيليين العظام. وانتعش المسرح المصرى ودخلت السينما المصرية بقوة لتصبح مصر ثالث دولة إنتاجًا فى العالم بعد أمريكا والهند. وتقدمت الصحافة المصرية لتصبح رائدة فى المنطقة. وظهر الأدب المصرى الحديث بقيادة توفيق الحكيم وتلاه كبار الأدباء وعلى رأسهم نجيب محفوظ.
٨. الاقتصاد المصرى قفز بتكوين بنك مصر وشركاته التى غطت صناعة النسيج والسينما ومصر للطيران وغيرها، وانتقل بعض كبار ملاك الأراضى من المزارعين إلى العمل فى الصناعة.
وفى النهاية أقول إن ثورة ١٩١٩ هى ثورة شعب عظيم بالكامل، كافح وناضل ولم يتوقف حتى حصل على أكبر قدر ممكن من المكتسبات أمام أكبر قوة إمبريالية فى العالم.
تحية لشهداء وزعماء وكل من شارك فى الثورة العظيمة التى أنكرها وقلل من قيمتها البعض، ولكن فى النهاية التاريخ يقول الحقيقة ولو بعد حين.
قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك.

Sunday, March 24, 2019

بقلم د. عماد جاد - القانون والثقافة - ٢٤/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم


فجأة وبعد ثلاث سنوات كاملة من تداول قضية سيدة الكرم فى أروقة المحاكم، قرر قضاة المحكمة التنحى عن نظر القضية استشعارا للحرج، ولا نعلم أى نوع من الحرج جرح مشاعر السادة القضاة وجعلهم يتخذون قرارا بالتنحى ونقل القضية إلى محكمة أخرى، وهى خطوة تمثل تهربا من محاكمة جناة قاموا بتعرية هذه السيدة العجوز كما ولدتها أمها، المتهمون معروفون والجريمة ثابتة والتنحى حرجا هنا لا مبرر حقيقيا له، إنها بقايا جرائم التمييز الجارية فى بر مصر، والتى ضربت قطاعات كبيرة من المصريين عامة ونخبة ومسؤولين.
فبلادنا تموج بعشرات الظواهر والمظاهر السلبية التى تعكس حقيقة أننا شعب يجيد الحديث عن الدين وفى شؤونه أكثر من كوننا شعباً متديناً، تتعدد وتتنوع المظاهر السلبية من التهرب من العمل إلى قبول الرشاوى إلى التحرش الجنسى والعلاقات غير المشروعة وصولاً إلى ظواهر الانفلات الإعلامى وانفلات الفتاوى والتصريحات التى تصدر عن شخصيات مثيرة للجدل، فنحن ربما نكون فى مصر أكثر شعوب الدنيا حديثا فى شؤون الدين وحرصا على إظهار التقوى والورع وطاعة رب العباد، نمارس الطقوس ولا مكان للإيمان الحقيقى فى قلوبنا، نرى المغاير أقل قدرا وقيمة، فيكفى أن تقرأ مقولة الإمام محمد عبده التى يجرى نقلها باستمرار بفرح وسعادة وهو يقول: «وجدت فى الغرب إسلاما بلا مسلمين، وفى بلادنا مسلمين بلا إسلام»، فهذه مقولة فى جوهرها تمييزية، فالرجل لم يكن قادرا ولا مستعدا لقبول أن للغرب قيمه التى يستنبطها من ثقافته، ومنها الدين، هو فى جوهره رافض لأن يرى قيما راقية وممارسات إنسانية تُنسب للمسيحية. نفس الأمر مع الفارق الجوهرى فى الحالتين ما يصدر عن بعض الفنانين أو المثقفين من تصريحات تحرض على الفتنة والكراهية والإرهاب بين المصريين.
فى تقديرى أن انتشار مثل هذه المظاهر السلبية والتمييزية يعود إلى غياب القانون وتغييبه، وإلى غياب المحاسبة على أساس مبدئى والوقوع فى أسر الانتقائية، فالقانون إما غائبا مثل مناهضة التمييز والقضاء على كافة أشكاله، أو مغيبا، وهو الواقع الشائع فى البلاد، القانون موجود ولكن يطبق بشكل انتقائى، لدينا الفقرة (و) من المادة ٩٨ من قانون العقوبات التى تنص على عقوبات محددة لارتكاب فعل ازدراء الأديان، هذه الفقرة تطبق فقط على المسيحيين ولا تطبق على مشايخ الفتن، بل طُبقت على أطفال كانوا يقلدون داعش، واعتبرته النيابة ازدراء للإسلام وكانت العقوبة خمس سنوات سجنا، ولم يجد الأطفال مفرا من العقوبة إلا بالاختفاء ثم اكتشفنا هروبهم إلى سويسرا التى منحتهم حق اللجوء.
مشكلتنا الحقيقية فى مصر أن البعض يطبق القوانين بشكل انتقائى لاعتبارات تتعلق بالدين والطبقة الاجتماعية، إضافة إلى استشراء الفساد المؤدى إلى تغييب القانون، فضلا عن التعصب والتطرف الفكرى الذى يضرب نفوس وعقول قطاعات واسعة من المصريين، والأخطر تسلل هذا التعصب والتطرف إلى قلب مؤسسات الدولة المختلفة على النحو الذى دفع الراحل العظيم جلال عامر إلى إطلاق مقولته: «المواطن فى بلدى برىء إلى أن تثبت ديانته». الحل فى تقديرى يكمن ببساطة فى تطبيق القانون على الجميع دون تمييز، لذلك نرى العدالة مغمضة العينين إشارة إلى أنها تطبق القانون بموضوعية مجردة، لو تم ذلك بالفعل وخضع الجميع لنفس القانون فسيتحول الأمر لاحقا إلى ثقافة لدى الأجيال التالية، فالغرب قيمه الأساسية تأتى من هيبة القانون وتطبيقه على الجميع، ومن ثم تحول إلى ثقافة تحكم سلوك الأفراد. وانظروا وتأملوا ردود فعل حكومة وشعب نيوزيلندا على جريمة المسجدين، كيف تحركوا، ما اتخذوا من قرارات، حالة التعاطف العام من الشعب مع الضحايا وذويهم، وأطنان الورود التى وُضعت أمام المسجدين.. وقارن ذلك بما يدور فى بلادنا من ردود أفعال رسمية وشعبية وسجال عقب أى جريمة طائفية لتدرك تماما أننا فى حاجة إلى قوانين جديدة، وتطبيق مبدئى صارم ومجرد من أى حسابات حتى نلتحق بركب الإنسانية.

الشباب ومشكلة البطالة (١) بقلم الأنبا موسى ٢٤/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

فى دراسة للجنة التنمية الاقتصادية بأسقفية الشباب، ورد أنه لا يستطيع أحد أن ينكر أن أهم مشكلة تواجه الشباب الآن هى مشكلة البطالة.. وهناك دراسات وأرقام فى هذا الشأن.
ولكن.. من هو الشخص الذى يعانى من البطالة؟
هو الشخص الذى فى سن العمل، وراغب فيه، وقادر عليه، ويبحث عنه، ولا يجده، وذلك على أساس الأجور السائدة..
- وإذا علمنا أن كل عام يخرج إلى سوق العمل حوالى مليون شخص باحث عن الوظيفة، ولا تستطيع سوق العمل أن تستوعب أكثر من ٤٠٠ ألف فرد، فالباقى أين يذهب..؟؟
- لذلك فإن البطالة ألقت بظلالها على البيوت، وأصبحت سوق العمل تكتظ بالأب والأم اللذين خرجا على المعاش مبكرًا نتيجة للظروف الاقتصادية السائدة، وكذلك الابن، والابنة، ومن هنا تتضح خطورة مشكلة البطالة، التى لها تأثير على المستوى: الروحى، والاجتماعى، والسياسى، والأمنى.
ذلك لأن البطالة ترتبط بانقطاع الدخل، ومن ثم صعوبة الحياة نتيجة العجز عن تلبية الحاجات الإنسانية الضرورية، مما يترتب عليه أحيانًا الجنوح إلى الأخطاء والخطايا والعنف، كما ينتج عنه انتشار المخدرات، وها نحن نجد ملايين من جرعات الاستروكس وغيره، تدمر كثيرين!!
هذه بعض الأسباب كما يذكرها المتخصصون:
١- على المستوى العالمى، حيث يتزايد عدد السكان فى العالم، وبخاصة فى الدول الفقيرة. وحتى فى الدول الغنية بدأت معدلات البطالة تزداد بسبب الميكنة، إذ تستطيع الماكينة أن تستغنى عن عشرات ومئات العمال، بعد عمليات التحديث والحوسبة (Computerization)
٢- عدم التوافق بين احتياجات سوق العمل وأعداد الخريجين.
٣- تعيين الخريجين مع قلة المعروض من فرص العمل بالقطاع الخاص.
٤- الازدياد الكبير من خريجى التعليم العالى دون النظر إلى احتياجات المجتمع الفعلية، وما نحتاجه فى عصر العولمة والميكنة والإلكترونيات.
والسؤال الذى يتبادر إلى ذهننا الآن: ما هو الحل؟
الحلّ هو العمل ثم العمل ثم العمل! والكتاب المقدس يقول: «أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا» (٢ تس ٣: ١٠) بمعنى ضرورة العمل المنتج، لإمكان التغذية والنمو!
ففكرة المشروعات الصغيرة هى الحلّ الأمثل لمشكلة البطالة، لأنه لدينا عشرات الآلاف من المشروعات الصغيرة، التى لا تحتاج إلى رأسمال كبير.
إن إلهنا العظيم عندما أراد أن يخلق الكون الأكبر والملائكة والبشر، وضع خطة ونفذها، وتابعها ويتابعها بنعمته وحكمته الإلهية!
- السيد المسيح نفسه: كان يعمل بيديه فى مشروع صغير كنجار، مع القديس يوسف البار، وهكذا قدَّس المشروعات الصغيرة.
- جميع آبائنا الرهبان القديسين: كان لا بد أن يكون لهم مشروع صغير يدرّ عليهم دخلاً يكفى، ومن أمثلة ذلك القديسون: الأنبا أنطونيوس، والأنبا مكاريوس الكبير، والأنبا أرسانيوس، والأنبا باخوميوس، وكلهم- بدون استثناء- كان لهم عمل يومى، أو مشروع صغير، يعيشون من خلاله.
- يقول الأنبا مكاريوس الكبير: «لنعمل ما دام لنا زمان لنجد عزاء فى وقت الشدة، فمن لا يعمل ويتعب فى حقله فى أوان الشتاء، فلن يجد فى الصيف غلة بها يملأ مخازنه ليقتات بها. فليحرص كل واحد أن يعمل على قدر طاقته، وليجاهد بكل قوته، فإن ساعة واحدة من نياحه تنسيه جميع أتعابه، فويل لمن تغافل وكسل لأنه سيندم حيث لا ينفع الندم.
- القديس الأنبا أنطونيوس مدح القديس مكاريوس قائلاً: «هاتان اليدان يخرج منهما قوة عظيمة» إذ كان يعمل فى صنع السلال.
- جميع الأديرة بها مشروعات صغيرة وكثيرة، لتستطيع أن تفى باحتياجاتها، فالكل يعمل وينتج، ولا يوجد من لا يعمل.. والدسقولية تقول: «من لا يعمل لا يأكل».. وذلك لحث الناس على العمل.
- «ثابر على صنعة يديك وداوم عليها بحرص.. قرب للرب ما تصل إليه قدرتك، وأكرم الرب بمالك
الذى أعطاك إياه بحسب طاقتك».
- «لا تغفلوا عن عمل أيديكم لتجدوا كل زمانكم ما تكتفون به أنتم والفقراء، لكى لا تثقلوا على كنيسة الله» والقديس بولس الرسول يقول: «فَإِنَّنَا أَيْضًا حِينَ كُنَّا عِنْدَكُمْ أَوْصَيْنَاكُمْ بِهَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا» (٢تس ١٠:٣).
- دعونا نبدأ فى تحويل كل هذه الأمور إلى حقيقة واقعية فى حياة كل فرد منا، بأن يكون لكل منا مشروعه الخاص، الذى هو محاولة لحل مشكلة البطالة، لديه ولدى آخرين.
١- ما هو المشروع الصغير؟
هو مشروع محدود فى تكاليفه، وحجمه، ومجاله، يبدأ به شخص فى مقتبل العمر، وينموان معًا، إلى مشروع أكبر فأكبر، وربما إلى تنوع وانتشار وإثمار أفضل.. فيصل إلى مشروع كبير مثمر ومنتج، وربما إلى مؤسسة صغيرة تنمو شيئًا فشيئًا.
٢- مبادئ فى المشروع الصغير:
يتسم المشروع الصغير بالتناغم مع مبادئ ثابته وخالدة فى الكون مثل:
أ- مبدأ البذرة: فكل شىء يبدأ ببذرة صغيرة، مثل حبة الخردل (كما قال السيد المسيح) أصغر البذور، وتنتج عنها أضخم الأشجار، التى يستظل بها البشر، وتؤوى الطيور فى أغصانها.
ب- مبدأ النمو: فطالما كانت البذرة حية، وزرعت فى تربة صالحة، وتعهدناها بالغذاء والأسمدة، تنمو هذه البذرة وتصير نبتة صغيرة، ثم شجرة مثمرة، ومعطاءة، حتى لو قذفناها بحجر، تسقط لنا ثمارها بما يغذينا ويسعدنا.
ج- مبدأ الانتشار: فالنموذج سرعان ما يتداوله الناس ويكررونه، فتنتشر الفكرة، ويكثر الثمر.. المهم أن يكون الانتشار مدروسًا، يدرك حاجة المجتمع إليه، ويتعرف إلى لحظة التشبع، فلا يكون المنتج غير مطلوب، إذ هنا تبدأ الخسارة والتراجع.. ولذلك فمن المهم الالتزام بمبدأ آخر هو..
د- مبدأ التطوير: فلا شىء يبقى على حاله فطبيعة الحياة «التغير».. المهم أن يكون هذا التغير إلى الأفضل والأرقى، والأحسن، والأكثر مناسبة لحاجات اللحظة، والإنسان، والمكان.
من المهم- إذن- للشباب أن يدرسوا حاجة «السوق»، ويقدموا لها ما تحتاجه، فالحياة تفاعل، والتفاعل يجب أن يكون خلاقًا (Creative)، والتجديد يجب أن يكون مدروسًا وناجحًا!
٣- ما هى مصادر التمويل؟
بدأ شاب مع صديقه مشروعًا صغيرًا، حين أخذ من والده ٥٠٠ جنيه والآخر ٥٠٠ أخرى (من فترة طبعًا!!) واشتريا قطعة غيار صغيرة، وباعاها لتاجر، فحصلا على ربح بسيط.. فاشتريا عددًا أكبر من نفس القطعة وباعاها.. وزاد الرب، وبارك وقالا لى بعد فترة وجيزة: «نشكر الله أننا الآن لدى كل منا شقة، وكلانا تزوج، ونحن نساعد أسرتينا».
١- ابدأ صغيرًا.. لتنمو.. فإذا بدأت كبيرًا قد تتراجع.                      ٢- هناك بنوك تقدم قروضًا ميسرة للشباب.
٣- وكذلك أجهزة تشغيل الشباب فى المحافظات.              ٤- وبعض رجال الأعمال يساعدون.
المهم أن تكتسب مصداقية أمام نفسك وأسرتك، والجهة المقرضة.. وسوف تنمو بنعمة الله وتنجح!!
* أسقف الشباب العام
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية

خالد منتصر - 13 «لا» للأقوياء ذهنياً - جريدة الوطن - 3/2019 /24

ما لا تفعله أهم أحياناً مما تفعله، لكى تصبح قوياً ذهنياً ونفسياً، لا أقوى من نعم أحياناً لتمرين عضلاتك الذهنية والنفسية فى «جيم» قيم وسلوكيات محرّضة على السعادة، «13 أمراً لا يفعلها الأشخاص الأقوياء ذهنياً» كتاب جديد للمؤلفة والمعالجة النفسية Amy Morin.
بدأ كمنشور وانتهى ككتاب، عرضه موقع «أراجيك»، هو كتاب مهم يجب قراءته، لكن ما الذى يجب ألا يفعله الأقوياء ذهنياً، لكى يحقّقوا السعادة، ولكى نقلدهم؟:
1 - لا يضيعون الوقت فى الشعور بالأسف والأسى على أنفسهم
الانغماس فى الشفقة على النفس يعوقك فى عيش الحياة بشكل كامل، ويهدر الوقت، ويخلق العواطف والمشاعر السلبية، ويؤذى علاقاتك الشخصية.
2 - لا يستنزفون طاقتهم وقوتهم
الأشخاص الأقوياء عقلياً لا يسمحون للآخرين بالتحكم فيهم، ولا يمنحونهم سلطة أخرى فى حياتهم.
3 - لا يخشون التغيير
التغيير يبدو مخيفاً؛ لأنه لا يوجد ضمان على أن عمل شىء مختلف سيُحسن حياتك. لكن الابتعاد عن التغيير سيمنعك من النمو والتطور بشكل أقوى لتصبح أفضل. العالم يتغير، والنجاح يعتمد فى كثير من الأحيان على قدرتك على التكيف، وكلما طال انتظارك، ازدادت الأمور صعوبة، وسيتجاوزك الآخرون.
4 - لا يركّزون على الأشياء التى لا يستطيعون السيطرة عليها
إن الوقت والطاقة موردان محدودان، لذا من المهم تكريس جهودك للأشياء التى يمكنك التحكّم بها، لن تسمع شخصاً قوياً عقلياً يشكو من فقدان الأمتعة أو الاختناقات المرورية. بدلاً من ذلك، نجدهم يُركزون على ما يمكنهم السيطرة عليه فى حياتهم.
5 - لا يشعرون بالقلق حيال إرضاء الجميع
كثيراً ما نحكم على أنفسنا من خلال النظر فى ما يعتقده الآخرون عنا، وهو عكس القوة الذهنية تماماً.
6 - لا يخشون اتخاذ المخاطر المحسوبة
وازن العواطف مع المنطق؛ حتى تتمكن من حساب المخاطر بحكمة. واعلم أن تحدّى الأخذ بالمخاطر المحسوبة جيداً، يؤدى للوصول إلى أكبر إمكاناتك.
7 - لا يمعنون النظر فى الماضى
الماضى يبقى فى الماضى، ولا توجد طريقة لتغيير ما حدث فيه.
8 - لا يرتكبون الأخطاء نفسها مراراً وتكراراً
9 - لا يستاءون من نجاح الآخرين.
الشخص الوحيد الذى يجب عليك مقارنته بك هو الشخص الذى كنت أنت عليه بالأمس.
10 - لا يستسلمون بعد الفشل الأول
عليك تحويل الفشل إلى فرصة، عبر التعلم منه.
11 - لا يخافون من أوقات الوحدة
إن خلق وقت لكى تكون بمفردك مع أفكارك، يمكن أن يكون تجربة قوية ومفيدة فى مساعدتك على تحقيق أهدافك.
12 - لا يشعرون بأن العالم مدين لهم بأى شىء
الحياة ليست عادلة. إذا كان هناك بعض الناس يمتلكون المزيد من السعادة أو النجاح أكثر من الآخرين، فهذه هى الحياة، ومن شأن مقارنة نفسك بالآخرين أن تعيقك عن التقدم، وتصيبك بخيبة الأمل.
13 - لا يتوقعون نتائج فورية
انظر إلى أهدافك على أنها مثل سباق الماراثون، وليس على أنها سباق عدو سريع قصير.

Saturday, March 23, 2019

د. وسيم السيسى يكتب: لو كنت قاضياً فى محكمة بورسعيد ٢٣/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم


بدعوة كريمة من الأستاذ الدكتور كمال شاروبيم، محافظ الدقهلية، لإلقاء محاضرة ثقافية، وبالتنسيق مع دينامو الثقافة الأستاذ حازم نصر، نائب رئيس تحرير الأخبار، مدير الصالون، وبدعوة كريمة فى نفس اليوم من الأستاذ الدكتور جمال شيحة، مدير ورئيس معهد الكبد، والدكتورة رئيفة علام، عميد معهد التمريض بمؤسسة الكبد المصرى، بدأت الزيارة لمعهد الكبد، هذا الصرح الطبى الرائع، أحسست، وأنا أتفقد أقسامه أنى فى جامعة أجنبية، قسم للحبوث الأكلينيكية، أقسام للباثولوجى والجراحات، قاعات للمحاضرات، مبنى عملاق لتخريج الممرضين والممرضات، وكل هذا حتى الأرض من التبرعات! يجب أن يكون فى كل محافظة مثل هذا الإنجاز الرائع، أكتب محاضرتى فى جمع غفير من الأطباء والأساتذة، وكانت الرحلة إلى المنصورة بعد شربين.
هذا الرجل الجميل، محافظ الدقهلية، هذا الهدوء والفكر الرائق لحل المشكلات، ومعه المفكر الثقافى الأستاذ حازم نصر، كانت المحاضرة وسط أطياف المنصورة السياسية فى حضور السيد المحافظ كمال شاروبيم فى حديقة حوض الورد، وهو اسم المنصورة القديم وكان يوما من أجمل أيام حياتى.
١- رُفعت قضية فى بورسعيد لمنع إقامة تمثال ديلسبس على قاعدته فى بورسعيد، وكان رفع وإزالة هذا التمثال بعيداً عن أعين الناس.
٢- عقود الإذعان التى كانت بين الخديو سعيد والمهندس ديلسبس.
٣- جزمة شامبيلون على رأس أحد ملوك مصر فى مدخل الكوليدج دى فرانس فى السوربون فى باريس، هذا التمثال الذى نحته بارتولدى لخلافات مالية بينه وبين الخديو إسماعيل، أما شامبليون نفسه فلا ذنب له، خصوصا أنه توفى ١٨٣٢ وهذا التمثال كان فى ١٨٧٥!
٣- كلمات سفير فرنسا فى القاهرة متحدياً مشاعر المصريين قائلاً: هذا التمثال منذ ١٢٠ عاماً مضت! وسيظل ١٢٠ عاما قدمة، بل أضاف: هذا التمثال يمثل العلاقة بين فرنسا ومصر.. فهل تكون العلاقة جزمة فرنسا على أحد ملوك مصر؟!
استمع قاضى بورسعيد إلى المرافعة، وأجّل القضية للحكم فى ١٩ إبريل ٢٠١٩.
اتصل بى الفنان المصرى هشام جاد من باريس، وقال لى: والعهدة على الراوى.. إنه أرسل نبذة من تاريخ ديلسبس، وكيف أن عليه حكماً بالحبس خمس سنوات وكان هارباً منه!! وقد أرسل هذه المعلومات لأصحاب هذه القضية فى بورسعيد.
لماذا لا يصدر قاضى بورسعيد فى ١٩ إبريل حكماً كلماته تقول:
حرصاً على العلاقات التى بين مصر وفرنسا الآن، وحرصاً على مشاعر الشعبين المصرى والفرنسى، يوضع تمثال بارتولدى «شامبليون وحذاؤه» فى أحد المخازن فى السوربون، ويخرج تمثال ديلسبس من المخازن بعد أن تم ترميمه، ويوضع فى مكانه الأصلى عند افتتاح قناة السويس، كما ترجو المحكمة إخفاء تمثال صورة طبق الأصل من تمثال شامبليون- بارتولدى، فى مدخل كلية كوليدج دى جرونوبل، الذى وضع فى مدخلها سنة ٢٠١٤ أى منذ خمس سنوات! عيب!
هذا هو رأيى وحكمى لو كنت قاضياً فى محكمة بورسعيد.

خالد منتصر - فى حب «البدرى فرغليون»! - جريدة الوطن - 3/2019 /23

عندما كنت أزور دمياط وأنا طفل صغير كنت أرى وأستمع إلى نماذج صارت من الخيال العلمى والفولكلور الماضى الآن. كنت أجد عامل مصنع دمياط للغزل والنسيج الذى يتحدث معى عن نجيب محفوظ، والأويمجى الذى يكتب شعراً ويرسل طلباً لصديقه الذى سافر إلى لبنان أن يحضر معه دواوين شعراء الحداثة، والنجار الذى يضع فى الورشة كتب ماركس وسلامة موسى، كان موجوداً وبقوة ذلك المثقف العضوى الملتحم بمجتمعه، القارئ الذى لا يخشى القراءة لكبار الفلاسفة ويده ملطخة بطين الأرض. ظل هؤلاء ينقرضون مع رياح الانفتاح وحمى الاستهلاك، لا تجد منهم إلا نموذجاً نادراً على أحد مقاهى بورسعيد، تلمحه يركب دراجته المتواضعة فى شوارعها التى يحفظها مثل كف يده، يقودها حتى وهو نائب فى البرلمان، لا حرس يحميه ولا بودى جارد يمشى وراءه، بالرغم من أن رأسه كان مطلوباً فى كل العصور. هذا المواطن المثقف الذى يعتبر الناس أوكسيجينه اسمه البدرى فرغلى، أحلم بمصر يسكنها مليون من قبيلة «البدرفرغليين»، مثقف ملتحم بالناس، كما لم يترك دراجته، لم يترك حلمه، لم يترك التحامه بالناس، بالشوارع، بالبمبوطى وسريح التجارى وعازف السمسمية وصبى البورصة أو القهوة.
أين ذهب أفراد كتيبة الفرغلى هؤلاء؟ رحل أبوالعز الحريرى، عامل المصنع القارئ بنهم، المحب لمصر بعشق وألم، المتفائل دوماً، الواثق من انتصار الغد والمستقبل، أين عطية الصيرفى، عامل السكة الحديد الذى كان مؤرخاً وفيلسوف بساطة آسرة؟ أين نموذج الكمسارى الذى ذاكر حتى حصل على دكتوراه فى التاريخ؟ نماذج غابت وغربت شمسها التى كانت تدفئنا وتمنحنا الأمل فى أن الجلباب والأفرول والعفريتة ليست أدوات تجهيل ورفاق أمية وشرط عجز وخنوع، بل من الممكن أن تكون نافذة أمل وطاقة نور، وها هو آخر المحاربين البدرى فرغلى يقاتل منذ سنوات فى سبيل أصحاب المعاشات، ويحصل فى النهاية، بعد ماراثون ومراوغات وإنهاكات قانونية والتفافات روتينية، على انتصار مبين بعد أن وصل صراخه إلى أعلى سقف سياسى فى الدولة، لم يحصل البدرى فرغلى على انتصار شخصى، بل حصل على انتصار لكل غلبان ينتظر فتات جنيهات تعينه على مواجهة الحياة الضنينة.
البدرى فرغلى نموذج مثقف يسارى محب للوطن وللناس بجد، يحلم بمصر جديدة، كما أنه لم يخجل من لهجته مثل آخرين من المتنكرين لماضيهم، هو لا يخجل أيضاً من إعلان حبه وإشهار عشقه لفقراء مصر، ملح الأرض الطيبة.

Friday, March 22, 2019

خالد منتصر - التراث بين الاستمرار والاجترار - جريدة الوطن - 3/2019 /22

التراث عندنا هو الماضى محنطاً ومجمداً، التراث عندهم هو الماضى متجدداً ومنتقداً، التراث عندنا صنم وطوطم ندور حوله ونلف فى محرابه من على مسافة وبعد، نخشى تنظيفه من ذرات تراب الزمن المتراكمة خشية أن تكون من ضمن المقدسات، التراث عندهم لوحة تنشين لسهام الغربلة والتنقيح والتفنيد والرفض الثورى والقبول الحذر والقراءة المتشككة، لديهم دائماً مكنسة مشحونة دوماً لإزالة كل الأتربة التى تجعل الرؤية ضبابية، هذا هو الفرق التاريخى بين تراثنا وتراثهم، بين نظرتنا إلى ماضينا ونظرتهم إلى ماضيهم، انفردنا بمصطلحات تترجم حيرتنا واضطرابنا إزاء التعامل مع صنم الماضى، ذلك الماضى الذى حولناه إلى غيمة كثيفة سميكة سوداء، لا هى تمطر فتنبت قمح الأمل، ولا هى تتخلى عن مواراة الشمس فتضىء المستقبل.
الماضى، المفروض أنه استمرار لا اجترار، يستمر مدمجاً فى حاضرنا بعد التشكيل والتحوير والتحرير، وليس مستقلاً ككتلة اجترار فى سنام سئيم أحدب، مثل زائدة دودية لا وظيفة لها إلا الانفجار، حولنا التراث من مساعد إلى خصم ومنافس، برفضنا للإدماج الإيجابى العاقل وإصرارنا على التقديس الجنونى الهستيرى.
بلغة الطب الحديث، صار التراث والماضى فيروساً يسكن نواتنا ويأمر مادتنا الوراثية الثقافية بإنتاج نفس هويته، وإرسال المدد الغذائى والإمدادات الأخرى التى تنميه هو وتميت النواة وتقتل الكائن الذى يستضيفه، يتحول من مجرد ساكن ضيف إلى صاحب المسكن، انقسامات مادتنا الوراثية هى لخدمة ذلك الفيروس الماضوى، الفيروس تحت الميكروسكوب كائن خامل لا حياة فيه، كبللورة سكر خرساء مشلولة، ما إن تدخل نواتنا الحاضرة حتى تتحول إلى وحش يلتهمنا، الهندسة الوراثية وجدت حلولاً واخترعت علاجاً للعطب الذى يحدثه فيروس كتب الطب ولم يعالج بعد فيروس كتب الماضى، عالج بإدماج جين يساعد الجسد على الشفاء، الجين لا يعطل بل يساعد على الشفاء، يشترك فى أوركسترا الجسد كعازف، ولا يشترك كنغمة نشاز بدون نوتة موسيقية مثل فيروس التراث الحجرى.
يصف د.فؤاد زكريا تلك العلاقة المريضة بيننا وبين تراثنا فى بحث عنوانه «أزمة التطور الحضارى فى العالم العربى»، قدمه فى الكويت 1974، قائلاً: «الماضى ماثل دائماً أمام الحاضر بوصفه قوة مستقلة عنه، منافسة له، تدافع عن حقوقها إزاءه، وتحاول أن تحل محله إن استطاعت، نظرتنا إلى الماضى لا تاريخية»، هذه الصفة اللاتاريخية التى يؤكد عليها أستاذ الفلسفة الراحل يضعها فى مواجهة النظرة الغربية التاريخية التى تتأمل التاريخ من منظور نسبى، وبصفته مرحلة وانتهت، واندمجت فى مراحل لاحقة تجاوزتها بالتدريج، الماضى عندنا دائم الحضور فى الحاضر، متصادم معه، من هذا المنطلق تصبح كلمة «إحياء التراث» كلمة سيئة السمعة، لأن قصدنا من تلك الكلمة أو ذلك الطلب هو التكتيف والعرقلة فى سباق الحضارة وليس الانطلاق والتجاوز، نؤكد عليها لنظل نردد كالأسطوانة المشروخة «لقد سبقنا»، وليس «لقد حققنا»، عندما ننهض من سباق المسافات الطويلة للحضارة نعود إلى نقطة البداية لتسلم العصا من الماضى التليد، ولا نتسلم العصا من النقطة التى وصل إليها متسابقو حضارة الحداثة، لم نفهم أن قوة التراث فى تجاوزه وليس فى التشرنق داخله، يعبر عن هذا المعنى د.فؤاد زكريا فى نفس البحث القيم، عندما قال «يوجد القديم فى الجديد لا بمعنى أن الجديد يعود إلى القديم أو يستلهم منه أفكاره، لكن بمعنى أن القديم يتيح للجديد فرصة تجاوزه وتصحيحه، ومن خلال أخطاء القديم تأتى القوة الدافعة التى تولد الجديد، ولو شئنا أن نلخص فى كلمة واحدة التضاد بين النظرة إلى التراث التى تؤدى إلى تقدم فكرى، وتلك التى لا يترتب عليها سوى التخلف، لقلنا إن التراث فى الأولى يحيا من خلال موته، أما فى الثانية فإنه يموت من خلال حياته».
ومن لغة الفلسفة إلى لغة الطب مرة أخرى لتبسيط وتأكيد المعنى، هم تعاملوا مع التراث على طريقة الإنقاذ بزرع الأعضاء وإنعاش العضو بالتجديد أو الإحلال أو الإضافة أو الحذف، لكننا تعاملنا مع التراث على طريقة ضخ الأوكسجين للميت إكلينيكياً، التراث عندنا جذع مخه ميت ونحن نعيش على أمل أن تعيد المحاليل والأسطوانات الحياة إلى جسد الماضى البارد، للأسف ونحن فى عصر يضيق فيه المكان وتتجاور المسافات ليصبح العالم قرية صغيرة، ويتسع الزمان وتتعمق فجوته ليصبح الجيل مغترباً عن جيل يكبره بسنوات قليلة، فى هذا العصر ما زلنا ندمن ونخزن قات الماضى فى زاوية الفم المرتعش، نجتر منها حلول الحاضر والمستقبل.
«هل نمتلك شجاعة الانسلاخ أم نظل فى مرض الاستنساخ؟»، سؤال طرحه الباحث العراقى همام طه فى جريدة «العرب»، عدد 28 أغسطس 2017، ارتفع فيه سقف المواجهة مع التراث إلى المناداة بالقطيعة المعرفية معه، وقد وضح الباحث لماذا القطيعة وما هو معناها؟، فهو بالطبع لا يقصد أن نرمى كتب التراث فى سلة القمامة، ولكن بمعنى «التحرر من النفوذ الفكرى والقيمى الذى يتمتع به التطرف والأصولية فى مجتمعاتنا، وإنهاء «الإمبريالية الثقافية» للتراث وهيمنته على العقول والضمائر، فهو متغلغل فى خرائطنا المعرفية ونسيجنا الثقافى، إذ يستعمر الماضى الحاضر ثقافياً، ويتسبب فى تشويهه وتجريفه اجتماعياً وسياسياً، أى إن التاريخ يمارس غزواً واحتلالاً مستمرين للحاضر والمستقبل، ويفسر سعيه لتلك القطيعة بأننا «عندما نضفى هالة القداسة على التراث الدينى فإننا نسمح له بقمع الحاضر ثقافياً، وما قوانين ازدراء الأديان وما يحصل لكل من يفكر خارج الصندوق التراثى من إهانة واستباحة إلا نتيجة لهذا الاستعمار الثقافى الماضوى للمجتمعات العربية».
يرى البعض هذا موقفاً راديكالياً متشدداً، لكن كم الدماء النازفة والتخلف المتراكم مع وطأة الشلل المزمن وحجم الأطلال والأشلاء تفرض على المفكر هذا الموقف الراديكالى، ويفسر همام طه تلك الراديكالية بقوله: «وليس فى الدعوة للقطيعة المعرفية مع المقاربة الأصولية للتراث إقصاءٌ لما فيه من قيم نبيلة وصور للتسامح، ولكنها محاولة لمَوْضَعة هذه القيم فى سياق رأس المال الأخلاقى الإنسانى الموجود على امتداد التاريخ والجغرافيا، وهو ليس حكراً على التراث الدينى الإسلامى وحده، ما يستوجب إعادة إدماج الوعى الإسلامى ضمن الوعى الإنسانى وتفنيد فكرة احتكار المسلمين للخيرية زماناً ومكاناً وإنساناً، فلماذا نفترض أن الخير فى الماضى فقط وليس فى الحاضر أو المستقبل، ولماذا تكون الفضيلة فى بقعة دون أخرى من هذا الكون، ولماذا يعتقد المسلم أنه أرقى من غيره بحكم الدين والهوية؟».
إذن، لا بد لنا أن نكف عن المشاركة فى عرض أزياء العالم بنفس نسيجنا المهترئ ولكن لا بد من تغيير النول وماكينة النسيج نفسها، لا بد من طرق دروب التاريخ الثورية المضيئة المتمردة فى هذا التراث، جسارة الحفر فى طبقات جيولوجية أعمق وأكثر ثراءً، لا بد من عودة التراث إلى دائرة الظن التى تحكم المعرفة والعلم، وإخراجه من ساحة يقين العقيدة التى تحكم الدين والدوجما، إنها «الفرمتة» لكى يبدأ تحميل الويندوز الحضارى الحداثى الجديد بدون فيروسات الهاكرز الماضويين التكفيريين، وقد عبر عنها الباحث همام طه حين كتب: «يبدو جلياً أن الذى تسبب فى تقديس التراث عربياً هو القول بحاكمية النقل على العقل. وفريضة العصر اليوم قلب هذه المعادلة بجعل العقل حاكماً على النقل ونزع القداسة عن التراث وتركه ليواجه الاختبارات الثقافية والفحوص المعرفية والتحديات الحضارية من دون حصانة دينية، فالمطلوب تصفير ثقافى وقطيعة مع الماضوية، إذ لا يمكن إبرام تسوية مع الأصولية، إن المكانة والسلطة الممنوحتين للتراث الدينى هما ما يغذى أيديولوجيا الإسلام السياسى، فتقديس التراث هو منبع التطرف، وعلينا تجفيف منابع التقديس تمهيداً لمكافحة الكراهية. الإسلام السياسى هو وليد الإسلام الأصولى أى إسلام التراث الدينى، وسيبقى الأول ما بقى الثانى».

Thursday, March 21, 2019

الخروج من دولة السادات بقلم د. عماد جاد ١٧/ ٣/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم


عادة ما نتحسر كمصريين مدنيين نسعى لبناء دولة مدنية حديثة، عندما نشاهد صورا وتسجيلات لحفلات وأيضا أفلام الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات، فقد كان المجتمع المصرى حلقة من حلقات المجتمعات المتوسطية، جزء من حضارة البحر الأبيض المتوسط شماله تحديدا، وكان المجتمع المصرى خليطا متنوعا متعددا، ويحتضن مئات الآلاف من الأجانب من مختلف الجنسيات، جاءوا للعمل فى مصر ثم استقروا فيها، وكان لمصر ميراث من نظام ملكى شبه دستورى خلال الحقبة الليبرالية التى عاشتها مصر فى الفترة من ١٩٢٣ وحتى يوليو ١٩٥٢، وتعد فترة حكم جمال عبدالناصر من ١٩٥٤ وحتى ١٩٧٠ فترة انتقالية تعرضت فيها مصر لتغيرات جذرية لكن ميراث المجتمع المصرى كان قويا على النحو الذى استوعب هذه التغيرات إلى حد ما، وإن بدأت مصر تفقد فى عهده بعضا من سماتها على رأسها التنوع والتعدد بخروج اليهود ثم مغادرة الأجانب، فقد جرى وضع كل يهود مصر فى بوتقة واحدة والتعامل معهم جميعا باعتبارهم خونة للوطن وموالين للحركة الصهيونية، وهو أمر لم يكن صحيحا فقد كان هناك يهود مصريون لا علاقة لهم بالحركة الصهيونية وكانوا جزءا من النسيج الوطنى وأُجبروا بعد حرب ١٩٤٨ ثم عدوان ١٩٥٦ على مغادرة البلاد، ففقدت مصر أحد مكوناتها وغاب بعد من أبعاد ثرائها.
جاء السادات فاقدا كاريزما عبدالناصر وراغبا فى بناء تحالف جديد، فكان التحالف مع الإسلاميين وكان بدء تديين المجال العام فى مصر واستخدام مكثف للغة والمظاهر الدينية وإطلاق المشايخ لسب المسيحية على المنابر وفى وسائل الإعلام، ثم كانت الهجرة إلى بلاد النفط بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، والدفع بملايين المصريين إلى الهجرة للعمل فى الخليج فكانت بداية اكتساح الثقافة الوهابية المتشددة المنغلقة الأحادية للثقافة المصرية المنفتحة المتعددة المتنوعة، وعاد المصريون إلى بلدهم بعد سنوات من العمل فى الخليج بثقافة مغايرة تماما لما تربوا عليها، وبرز نشاط التيار السلفى الذى لا يعدو فى غالبيته أن يكون بمثابة فروع لتيارات خليجية لا سيما سعودية، ومن ثم بدأت سياسات التمييز الممنهج والحديث عن أولوية الرابطة الدينية على حساب الوطنية.
قُتل السادات على يد التيار الذى تحالف معه، رحل ولم ترحل سياساته. فقد استمرت دولة السادات الطائفية تمسك بتلابيب المجتمع المصرى والدولة المصرية طوال العقود الثلاثة التى حكم فيها مبارك، سقط مبارك واستمرت دولة السادات تعمل بكل كفاءة وكدنا نصل إلى محطتها الأخيرة المتوقعة بقيام الدولة الدينية بعد ٢٥ يناير وتحديدا فى سنة حكم المرشد والجماعة، إلا أن الشعب المصرى انتفض دفاعا عن هويته وأطاح بحكم المرشد والجماعة، لكن دون الإطاحة بدولة السادات، وفكر هذه الدولة المعشش فى قلب مؤسساتها. واستمرت سياسات التمييز الدينى والطائفى، وممارسات طائفية بغيضة، وتواطؤ لمساعدة المجرمين الذين يرتكبون جرائم دينية على الهروب من العدالة وعدم تطبيق القانون الذى هو نتاج استمرار دولة السادات الطائفية فى العمل والتى تشبعت مؤسسات الدولة المصرية بروح التعصب والتمييز التى انتشرت فى كافة مناحى الحياة فى مصر وسيطرت على أدوات التنشئة المتنوعة.
وقد بدأت عملية الخروج من هذه المعادلة من خلال محاولات الرئيس عبدالفتاح السيسى لبناء دولة مدنية حديثة فتبنى خطابا مصريا وطنيا، ودخل فى مواجهات من أجل تحديث وتطوير الخطاب الدينى ويبذل جهودا مكثفة من أجل تفكيك ميراث دولة السادات، وهو ميراث ثقيل بالفعل ولا يتصور تفكيكه فى سنوات قليلة بل على مدى زمنى، ويتطلب الأمر هدم هذا الميراث أولا ثم بناء منظومة حديثة على مكونات الهوية المصرية بكل طبقاتها التاريخية، لذلك لا بد من دعم ومساندة هذه العملية والتى تتطلب أيضا انفتاحا من جانب النظام على المستويات السياسية والإعلامية وتطوير منظومة الحقوق والحريات ومواصلة سياسات دعم الفئات الضعيفة فى المجتمع بتبنى رؤية شاملة للعدالة الاجتماعية والعمل على استعادة مصر التى كنا نعرفها. مصر المدنية المتنوعة مصر بوتقة صهر جميع مواطنيها بغض النظر عن العرق، الدين، الطائفة واللون.
لا أمل فى غد أفضل لبلادنا ما لم تتسارع عملية تفكيك ثم إزالة ميراث دولة السادات وبناء مصر المدنية الديمقراطية الحديثة وهى عملية نعلم تماما صعوبتها وأنها تتطلب فترة زمنية متوسطة مع مواصلة السياسات التقدمية دون توقف أو انقطاع.