Translate

Saturday, March 25, 2023

ما لقيصر لقيصر.. وما لله لله - الأنبا موسى - المصري اليوم - 19/3/2023

 سأل الفريسيون السيد المسيح: «أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لا؟ فأجابهم: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» (متى 21:22). أى أعطوا كل ذى حق حقه.

1- من تعاليم السيد المسيح هذا نرى أن الواجبات للدولة مقدسة وضمن الواجب الدينى.. وأيضًا أن نخضع لله ولقيصر، لأن الخضوع للاثنين واجب، والخضوع لقيصر فيما لا يخالف الخضوع لله هو من أصل الخضوع لله، لأن الله هو الذى سمح لقيصر بأن يتسلَّط عليهم.

2- والقديس بطرس الرسول يقول: «أَكْرِمُوا الْجَمِيعَ. أَحِبُّوا الإِخْوَةَ. خَافُوا اللهَ. أَكْرِمُوا الْمَلِكَ» (1بطرس 2: 17)

3- ويقول القديس بولس الرسول:

أ- «لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِىَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ» (رومية 1:13).

ب- «فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ». (رومية 7:13).

ج- «قَلْبُ الْمَلِكِ فِى يَدِ الرَّبِّ، كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ» (أمثال21: 1)

فما المقصود بذلك؟

هل هو فصل بين الحياة الأرضية المادية، والحياة الروحية الأبدية؟ هذا انفصام مرفوض، فالمقصود فقط هو الأمانة فى المسؤوليتين، فالإنسان المؤمن أرضه تنفتح على السماء، وزمنه يمتد إلى الأبدية.

أولاً: الله.. وقيصر:

1- لا انفصام إذن، بل تكامل، فالإنسان المؤمن المهتم بخلاص نفسه وحياته الأبدية، هو بعينه المواطن الأمين الملتزم بكل الواجبات الأرضية والزمنية، لا يهرب من عمل صالح، ولا من محبة حقيقية، ولا من خدمة الآخرين، ولا من مسؤوليات وظيفته، ولا من واجبه الوطنى المدنى والعسكرى، ولا من أداء الضرائب، ولا من دوره فى بناء المجتمع من خلال: الأحزاب والنقابات والجمعيات واتحادات الطلاب، وكافة مؤسسات المجتمع المدنى.

2- من هنا فالإنسان الأمين على قيصر، هو ذلك الإنسان الأمين فى جهاده الروحى، واهتمامه الأبدى. فالمستقبل الأبدى يبدأ من الزمنى، وهو امتداد له. ولكن ما أخطر أن ينشغل الإنسان بشؤون قيصر دون شؤون الله، فهذا أقصر طريق إلى الهلاك. وكذلك ما أخطر أن ينشغل الإنسان بأمور الروح ويهمل واجبه الأرضى والعائلى والمجتمعى، فهذا إنسان معثر، قال عنه الرسول بولس: «إن كان أحد لا يعتنى بخاصته، ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان، وهو شرّ من غير المؤمن» (1 تيموثاوس 8:5).

3- ما أقسى حكم الله علينا! إذا أهملنا التزامنا الدنيوى، بدعوى اهتمامنا الدينى. وما أخطر أن ننشغل بالدنيا عن الآخرة. إن «التوازن» هو الكلمة الفاصلة فى هذا الأمر. أو قل «التكامل»، فالزمنى هو بداية الأبدى، والأمانة لقيصر هى ضمن الأمانة لله.

4- علينا إذن أن نؤدى كل واجباتنا الأرضية، كمؤمنين نحب الجميع، لا ننحصر فى أسر الطائفة الضيق، بل يمتد أفقنا إلى الوطن الواسع، بل حتى إلى البشرية جمعاء!

ثانيًا: المؤمن... وقيصر:

قيصر هو العالم، وانشغالات الأرض، ومسؤوليات الحياة اليومية، والواجبات المطلوبة من المؤمن، نحو الدولة والوطن. والسيد المسيح حدد لنا مفهوم العالم فى يوحنا (17) كما يلى:

أ- «لستم من العالم»... أى أن الإنسان المؤمن يملك رؤية مختلفة للأمور، ويرى الحياة بنظرة جديدة. فهو يحيا بأسلوب مختلف عن «أهل العالم»... وقد أوضح لنا الرسول يوحنا ذلك بقوله «كل ما فى العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة» (1 يوحنا 16:2)... ولذلك فإن من يحب العالم- كشهوات ومقتنيات- إنما يفقد محبته لله.. بل يصير فى عداوة معه... «محبة العالم عداوة لله» (يعقوب4:4)... «لأن اهتمام الجسد موت» (رومية 6:8).. أى أن المشغول بالأرضيات والحسيات فقط، إنما يسير فى طريق الموت الأبدى.

ب- «لست أسأل أن تأخذهم من العالم».. أى أن السيد المسيح لا يريد من أتباعه أن يتركوا العالم، ويعتزلوه، ويمضوا جميعًا إلى البرارى والصحارى.. بل هو يقصد أن نستمر فى العالم لنؤدى دورنا فيه، ولنجاهد ضد الدنايا والسلبيات. وهذا الجهاد لا يمكن أن ينجح بدون مؤازرة وعمل النعمة، أى عمل روح الله القدوس، فى طبيعتنا البشرية الساقطة، لتصير مقدسة بنعمته ومعونته.

ج- «كما أرسلتنى إلى العالم... أرسلهم أنا إلى العالم»... وهنا يبرز سبب استمرارنا فى الأرض، وسط الناس، لكى نقدم شهادة أمينة للرب، ونخدم إخوتنا فى البشرية، ونعطى نماذج للمجتمع تظهر مدى وجود روح الله فى حياتنا، فيمجد الناس أبانا الذى فى السموات. إنها- إذن- إرسالية خدمة، شبهها الكتاب المقدس بتشبيهات عديدة مثل:

1- «النور»... «أنتم نور العالم» (متى 14:5) الذى يهزم فلول الظلمة.

2- «الملح»... «أنتم ملح الأرض» (متى 13:5) الذى يحفظ العالم من الفساد.

3- «السفير»... «إذ نسعى كسفراء عن الله» (2 كورنثوس 20:5) نقدم صورة الله للناس، فيتعرفون عليه من خلالنا، ويصطلحون معه.

4- «الخميرة»... «خميرة صغيرة تخمر العجين كله» (غلاطية 9:5) والخميرة تحتوى على بكتيريا حية تتكاثر فتخمر العجين، تمامًا كالمؤمن الذى يشرق بروح الله الساكن فيه، فيرى الناس نور الله من خلاله.

5- «الرسالة»... «أنتم رسالتنا مكتوبة فى قلوبنا معروفة ومقروءة من جميع الناس» (2 كورنثوس 2:3) فسلوكيات المؤمن الحقيقى، أنموذج يُقتدى، متحرك ومعاش.

6- «الرائحة الزكية»... المؤمن الملتزم بسلوكيات إيجابية رائحته الزكية تفوح، ويشتم كل من حوله.

الرب يحفظنا فى مخافته ونعمته له كل المجد إلى الأبد آمين.

* الأسقف العام للشباب

بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية


Sunday, March 19, 2023

فى الذكرى الـ 11 لنياحة قداسة البابا شنودة الثالث الوطنى المخلص - الأنبا موسى - المصري اليوم - 19/3/2023

 كانت لقداسة البابا شنودة مكانة كبيرة جدًا فى قلوب الجميع من كل رموز مصر الإسلامية والمسيحية. الجميع يحبون قداسته ويقدرونه. وهنا نتذكر وطنيته التى لا شك أنه كان يحب ويعشق تراب مصر، وهو صاحب المقولة: «مصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل هى وطن يعيش فينا»، ولقد خلق قداسة البابا شنودة للأقباط اسمًا ليس فى مصر فقط، ولا فى العالم العربى كله، ولكن فى كل أنحاء العالم. ولقد أصبح اسم الكنيسة القبطية فى كل مكان، واستطاع قداسته أن يجعل للكنيسة دورًا رائدًا ومؤثرًا فى حياة الوطن والمجتمع. وكان لقداسته حضور دائم فى المؤتمرات والمحافل والمناسبات الوطنية والإقليمية الدولية. وعندما ذهبنا إلى لبنان قابلوه بحفاوة تصل إلى درجة الرفع فوق رؤوسهم، وقابله وليد جنبلاط زعيم الدروز، حيث قال له: «يا قداسة البابا.. إنت مش بابا الأقباط فقط. إنت بابا العرب كلهم».

فلا ننسى موقفه من موضوع الأقليات، إذ قال بقوة: «لسنا أقليات، ولن نقبل أى أجانب يتدخلون فى شؤون بلدنا، وأى مشاكل نحلها داخليًا بيننا».

وأيضا ورد الفعل الهائل لموقفه من «قضية القدس».. فعندما كان فى جامعة الدول العربية وألقى كلمته، قُطعت بالتصفيق مرات عديدة، وقال وقتها الأستاذ «سعيد كمال» أمين عام الجامعة لشؤون فلسطين: «قداسة البابا كان عريس الحفلة»، وشخص آخر سعودى طلب منى شريط هذه الكلمة، لتوزيعه فى كل أنحاء العالم.

كما نتذكر المواقف الوطنية والاجتماعية والإنسانية حيث كان للبابا نشاط بارز فى مختلف الموضوعات المطروحة على الساحات: «الوطنية والاجتماعية والإنسانية»..

.. وقد شهد عهد قداسته حضورًا مكثفًا للكنيسة فى أمور كثيرة مثل:

أ- الحوار المسيحى الإسلامى: فى جلسات ممتدة لسنوات.. وعلاقات وثيقة مع فضيلة شيخ الأزهر وكبار القيادات الإسلامية، مع حضور قداسته المؤتمرات الإسلامية العالمية وإلقائه محاضرات فيها، كانت موضع تقدير عالمى.. فقد قالت «كاترين آشتون» وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبى على قداسته: «قائد محترم صاحب رؤية»، دعا إلى التسامح والحوار بين الأديان.

وكذلك قال «الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان»، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة عن قداسته: «كان مثالًا لرجل الدين الذى يؤمن بالتسامح، والتعايش بين الطوائف والأديان».

ب- القضية الفلسطينية: فى علاقة مشهودة بالزعيم الراحل «ياسر عرفات» والزعيم الفلسطينى الحالى «أبومازن»، وفى موقف مشهود ضد زيارة الأقباط للقدس المحتلة، ودعم مستمر لحقوق الفلسطينيين كان واضحًا فى مختلف وسائل الأعلام، وفى كل زيارات قداسته لأنحاء العالم.

ج- القضايا الاجتماعية والإنسانية: مثل لقاءاته وكتاباته حول:

المرأة ودورها فى الكنيسة والمجتمع - الإجهاض - القتل بدافع الرحمة بالمريض - زراعة الأعضاء - الهندسة الوراثية وبحوث الخلايا الجذعية - الاستنساخ.. وغير ذلك من الموضوعات التى ناقشها قداسته فى ندوات عامة وكنسية، فى مجلس الشعب والجامعات المصرية والأجنبية، والنوادى الشهيرة، «كالليونز واللوتارى».

د- يتحدث التاريخ على الدوام عن «بابا العرب» صاحب المواقف الوطنية الممتازة، سواء فى سيناء والعريش، أو فى حرب أكتوبر، حيث كان يقوم بتقديم الأدوية والمساعدات الإنسانية لجنودنا فى مناسبات عديدة.. كذلك زيارة مرضى ومنكوبى الكوارث والسيول والزلازل.

وبعض ما قاله بعض المشاهير فى وطنية قداسته:

1- «جوزيه مانويل باروزو» رئيس المفوضية الأوروبية السابق: «البابا شنودة الثالث قائد وطنى ودينى محترم، دافع على الدوام عن الحرية الدينية وحرية المعتقد.. وأفضل وسيلة لتخليد ذكرى البابا شنودة هى الحفاظ على المبادئ التى ناضل من أجلها طوال حياته المديدة، والحفاظ على اللُّحمة الوطنية بين المصريين».

2- الدكتور نبيل العربى الأمين العام لجامعة الدول العربية: «البابا شنودة الثالث قامة مصرية، وطنية، عظيمة، حملت هموم المصريين والعرب جميعًا، وعاش بإيمانه العميق مدافعًا عن الوحدة الوطنية، وعن القضايا العربية، وعن روح التسامح والمحبة والحوار بين أتباع الديانات السماوية».

3- ستيفن هارير رئيس وزراء كندا: «كان رمزًا مثاليًا للتسامح الدينى والتفاهم بين الجماعات، كما تميز بالحنو والإنسانية تجاه مجتمعه والآخرين من الأديان الأخرى.. كما أنه شخصية تعلق بها الصغار والكبار، وتم تكريمه عالميًا».

4- الأديب الراحل نجيب محفوظ: «البابا شنودة دائما رجل صلب، متفائل، شديد الذكاء.. مصرى عميق الأصل، عربى الوجدان والتوجهات.. إنسانى النزعة عالمى الأفق».

5- الراحل الأستاذ رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق: «كان يدًا تمتد لتحمى مصر من صواعق الفتنة».

6- الدكتور الراحل أحمد زويل: «البابا شنودة كان مصريًا عظيمًا ورمزًا فى تاريخنا الحديث».

هذا هو البابا الوطنى.. الذى حُفر اسمه بأحرف من نور، فى تاريخ الوطنية المصرية والعربية.

هل غاب عنا؟ يستحيل!!!

فهو حاضر معنا، بل حاضر فى كياننا الداخلى:

فى عقولنا.. فكرة وذكرى.. نتذكر كلماته وتعاليمه ومثاله الطيب.

وفى قلوبنا.. محبة ومشاعر.. فقد سكن قلوبنا بمحبته لنا، فأحببناه بكل قلوبنا.

وفى أقوالنا.. سيرة عطرة.. فسيذكر له التاريخ مواقفه اللاهوتية والرهبانية والكنسية والوطنية.. عندما جال أنحاء العالم سفيرًا لمصر والكنيسة.

وفى كنيستنا.. شفيع مؤتمن.. يصلى من أجلنا أمام عرش النعمة.

وفى وطننا.. اسم من ذهب.. بمواقفه الخالدة نحو الوطن والقدس والقضية الفلسطينية.

ما أسعدنا أننا عشنا عصر قداسة البابا شنودة الثالث!.

الأسقف العام للشباب بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية

Tuesday, March 14, 2023

كلمة الأم الملكة - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 13/3/2023

 البساطة كانت عنوان فرح العروس الجميلة «إيمان» بنت ملك الأردن، وكانت البساطة أيضاً هى عنوان تعبير الأم الملكة رانيا التى عبَّرت عن مشاعرها كأم تجاه بنتها وليست مشاعر الملكة زوجة الملك، مشاعر بسيطة عبرت عنها ببلاغة عفوية، أحببت أن أنقلها لكم، تقول الملكة:كأنه الأمس، يوم ازدانت الدار بقدوم أميرتنا.

حملكِ أبوكِ فى عينيه قبل ذراعيه... تشبهينه حين تبتسمين، حين تضحك عيناكِ، وحين يفيض قلبكِ بالحنان.. حصة أبوكِ أنت يا إيمان. فيكِ أجمل صفات الأخت الكبرى، تحيطين إخوتكِ حولكِ بالحب، صديقة الحسين وحبيبة هاشم وتوأم روح سلمى.

وما زلت أذكر كيف كنتِ تسارعين وتمدين يدكِ الصغيرة وتطلبين «واحدة لحسين» كلما أعطيتكِ قطعة من الحلوى.أحمد الله كل يوم بأن وهبنى بنتاً لها حظ فى الأخلاق، وحظ فى الطيب والطلة، وحظ فى محبة الناس. كم أنا فخورة بكِ، بتواضعكِ وحنانكِ، وصفاء روحك.وها أنا اليوم يا إيمان «أم العروس»، قلبى يزفكِ بالزغاريد، ممتلئ بالرضى عليكِ، وفى عينى دمعة وطَيْفان... جَدُّكِ وجَدُّكِ، ربّ اغفر لهما وارحمهما وأكرم نزلهما.

أكاد أراهما والفرح يرقص بينهما، يتمازحان ويضحكان تماماً كما كانا ليلة فَرَحِنا والدكِ وأنا اليوم، قبّل أبوالحسين الغالى جبينكِ.. أمسك يدكِ كما أمسكها يوم خطيتِ خطواتكِ الأولى، وملأ عينيه بصورتكِ يا عروس.

تذكرى دائماً حب الأردن الذى تحملينه بقلبكِ، وتذكرى دائماً أنكِ أردنية هاشمية... حفيدة الحسين وبنت عبدالله.

إيمان... بين فرحتى فيكِ، وخوفى من الشوق إليكِ، أدعو الله أن يزف الفرح لقلبكِ وأن يحرسكِ بعينه التى لا تنام.مبارك حبيبتى.


Sunday, March 12, 2023

«الرَّبُّ رَاعِىَّ فَلاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ» - الأنبا موسى - المصري اليوم - 12/3/2023

 أولًا: الرب راعىّ (مزمور 1:23):

هذا المزمور كتبه داود النبى وقال فيه: «الرَّبُّ رَاعِىَّ» وهذه العبارة تحدد شخصيتين، الرب والراعى. وهنا يظهر شىء من المفارقة، فهناك فرق كبير بين ربنا وإلهنا وبين الراعى.

«الرَّبُّ»: هذه الكلمة- سواء فى العبرية أو اليونانية أو اللاتينية أو الإنجليزية تثير فينا مشاعر مثلثة: عظمة الله، ثم قدرة الله، ثم ضعفنا نحن بالقياس إلى عظمته وقدرته. فنحن مخلوقات بسيطة بين يدى الله، ليس لها حياة بدونه تعالى.

«رَاعِىَّ»: لعلكم تلاحظون معى المفارقة الهائلة بين إلهنا العظيم جدًّا وبين الراعى البسيط المتواضع جدًّا، فالراعى لا يكون قويًّا ولا غنيًّا، بل هو فى خدمة صاحب العمل، كما فى خدمة الخراف التى يرعاها.

حقًّا أن الخراف تتبعه، ولكنها تفعل ذلك لأنه كرس حياته لأجلها. فهو الذى يقودها ويطعمها، ويبحث لها عن المأوى، ويحميها من الأخطار. حياته كلها هى من أجل الخراف، وهو نفسه أصبح مرتبطًا بها.

المزمور لا يقول: «الراعى هو الرب»، لا يضع أولًا صورة الراعى ثم يرفعها إلى مستوى الربوبية، فالراعى لم يصر ربًّا، ولو كان الأمر كذلك لصار هذا تصاعدًا قويًّا. بل نجد أن كلمة «الرب» تعنى أن الرب هو نقطة بدايتنا.

ليس هناك إذن تصاعد من حالة الراعى إلى حالة الرب، بل هناك تنازل من حالة الرب إلى حالة الراعى، وهذا أعمق إنكار للذات، وهذه الحركة تحمل معانى الاتضاع الإلهى، والعلاقة المتبادلة.

«اَلرَّبُّ رَاعِىَّ».. ليس الأمر أمنية فى المستقبل، أى أن «الرب سيصير راعيًا»، ولا هو صلاة أو رغبة، بل هو تقرير بسيط هادئ، عن حقيقة قائمة فعلًا: «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ». هذه هى حقيقة الأمور، وهذا هو الواقع فعلًا. قد أذهب بعيدًا عن الراعى، ولكنه سيبقى راعيًا، إنه الراعى الآن وإلى الأبد!

وليس الرب راعيًا من أى نوع، أو بمعنى عام ومجرد، فهو ليس راعينا وحسب، بل هو «راعىّ»، مما يوضح العلاقة المباشرة والشخصية بين الراعى والخراف، ليتنا نهتم ونتمعن فى معانى «ياء الملكية» فحين أقول: «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ» فمعنى ذلك أننى أنتمى إليه. يقول لى الراعى: «أنت لى، أنا أملك كل الحق فيك، ليس لك سلطان على جسدك أو روحك، أنت ملكى» وأستطيع أن أجاوب الراعى قائلًا: نعم أنا لك، أنا ملكك، إن الحق الذى منحتنى إياه حين سمحت لى أن أدعوك راعىّ، يعنى أن راعينا المحب لا يتغير أبدًا أمام ثقة كهذه، ملؤها الشجاعة والاحتياج.

فتعبير «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ» يشير إلى نوعية رعاية الراعى لى، فهو لا يعاملنى بنفس الطريقة التى يعامل بها بقية الخراف، هو يرى كل إنسان بطريقة خاصة، وهكذا تختلف معاملاته وعنايته من شاة إلى أخرى، لأنه يرعانى فى كل ما يختص بحياتى، بطريقة تناسبنى شخصيًّا وكأنه راعىّ لى أنا وحدى!.

ثانيًا: «فَلاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ..» (مزمور 1:23)

لا أحد يستطيع أن يفصل هذه الكلمات الثلاث عن تلك التى سبقتها، لا يستطيع أن يفصل «فَلاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ» عن «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ» لأنها النتيجة التلقائية لكون «اَلرَّبُّ رَاعِىَّ» ذلك لأن عناية الراعى بقطيعه واهتمامه به يجعله يشبع حياته، وكل احتياجاته!.

إن تعبير «الرَّبُّ رَاعِىَّ» لم يكن صلاة أو رغبة بل حقيقة قائمة فعلًا، ونفس الأمر ينطبق هنا، فنحن لا نقول «لنا رجاء فى الراعى ألا يعوزنا شىء» ولا نقول: «أيها الراعى، لا تدعنى فى عوز» بل نقرر فى هدوء أنه لن يتركنا فى ضيقتنا.

وهنا نقرر حقيقة...«لاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ..» بينما ننظر حولنا ونسمع الأخبار والميديا، ونقرأ عبر النت والفيس ووسائل التواصل الإجتماعى فماذا نرى؟ صراعات دامية، وحروبًا طاحنة، وزلازل مدمرة، وغلاء وجوعًا، ومرضًا! لكنه لا يترك أولاده أبدًا.

إن البعض يصلون بإيمان، ولكنهم يطلبون أمورًا لا تتفق مع مشيئة الله لحياتهم؛ لذلك لا يستجيب الرب لهذه الطلبات الضارة.

قد أكون جائعًا أو محتاجًا، مصابًا أو مريضًا، وأتصور أننى فى هذه الحالة أملك الحق فى أن أقول: «أنا الآن محتاج.. وأنسى أنه يدبر لى كل شىء فى وقته!».

الراعى لا يتجاهل ضيقتى، حتى ولو بقى صامتًا، لكن إجابته قد لا تتوافق مع الخط العام لحياتى كلها، إنه لا يعطينى الإجابة اليوم، لكنه ربما يجيبنى غدًا أو بعد غد أو بعد فترة طويلة. ولكى أتحقق الإجابة يجب أن آخذ فى الاعتبار حياتى كلها وليس لحظة بعينها. لو أدركت ذلك لتحققت أن كل ما مضى من حياتى نعمة، وأن كل حاضرى نعمة، حتى ولو كانت حياتى فيها قدر من الآلام!. ربما تبدو هذه النعم مختلفة عما كنت أتصور، أو أطلب، ولكن الراعى لم ينسنى إطلاقًا، ولم يتركنى فى عوز.. فهو «يعطى بسخاء».

الأسقف العام للشباب

بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية

Saturday, March 11, 2023

«البابا كيرلس السادس» - الأنبا إرميا - المصري اليوم - 5/3/20238

 يحتفل غدًا أقباط «مِصر» بعيد نياحة قديس معاصر عرَفه وأحبه المِصريون جميعًا، إذ كان أبًا للكل: إنه القديس «البابا كيرلس السادس» (السادس عشر بعد المائة فى بابوات الإسكندرية)، الذى اعترفت بقداسته الكنيسة القبطية سنة 2013 م.

وُلد البابا كيرلس السادس باسم «عازر» فى 8/8/1902 م. وعلى الرغم من نجاحه الذى شهِد الكل له به، وبالأخص مرؤوسيه فى العمل، فقد كان منشغل القلب والعقل بالسماء، مشتهيًا أن يقدمهما إلى الله فى حياة متصلة من الصلاة والعبادة، ومحبة ارتقت فوق كل ما للعالم. ولهذا التحق «عازر» بدير القديسة السيدة العذراء بوادى النطرون (البَرَموس) فى 27/7/1927 م، وسرعان ما سِيم راهبًا فى 25/2/1928 م باسم الراهب «مينا البَرَموسى»، ثم قَسًّا فى 18/7/1931 م.

وفى حياة «أبونا مينا» الرهبانية، شهد له «القمص عبدالمسيح المسعودى»، أحد شيوخ الدير، فقال: «حارت ومستنى السيل»، أى أنه «أعد ذاته لقَبول سيل نعمة الله»، حتى إنه فى يوم رسامته راهبًا قطع الشيخ الصامت «القمص يعقوب البَرَموسىّ» صمته وعدم محبته للخوض فى أحاديث، قائلاً: «يا ابنى، ليباركك الرب، ويؤهلك للنعمة، ويُنجح طريقك لتسير فى فلاح وتوفيق».

رغِب أبونا «مينا البَرَموسى» فى حياة الوحدة فى الصحراء فتوحد أولاً بمغارة بوادى النطرون، وعلى الرغم من قسوة هذه الحياة فإن سلام «أبونا مينا» وبشاشته لم يفارقاه، فهناك فى أحد أيام 1933 م التقى هو د. «حسن فؤاد»، مدير الآثار العربية، وبصحبته مدير كلية اللاهوت بنيويورك الذى أتى باحثًا عن أصل الرهبنة وتاريخها، فشهِد د. «حسن» بعد اللقاء: «يا أبى، لقد رفعتَ رأس الرهبان، وشرفتَ الرجل المِصرى، فإليك منى تحية حارة، وأرجو أن أبرهن عن عمق تقديرى واحترامى لك يومًا ما!».

وفى سنة 1936 م، انتقل «أبونا مينا المتوحد» إلى طاحونة الهواء بجبل المقطم، لينتشر أريج سيرته العطرة المقدسة بين الناس، خاصة بعد أن قام ببناء كنيسة بمصر القديمة على اسم المحبوب إلى قلبه الشهيد «مار مينا العجائبى». أقام «أبونا مينا المتوحد» بمِصر القديمة، ثم صار رئيسًا لدير القديس «أنبا صموئيل المعترف»، فاهتم بمقر الدير بقرية «الزورة» بالمنيا، كما اعتنى بالدير نفسه بالقلمون فازدهر وعاد إليه رهبانه.

اختارته العناية الإلهية لتحمل مسؤولية رعاية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى وقت دقيق صعب مر بالبلاد والكنيسة، فسيم بطريركًا باسم «كيرلس السادس» فى 10/5/1959 م. وفى بطريركيته، كان أبًا وراعيًا حانيًا، يهتم ويسعى لخلاص أبنائه. وكما ذكر أحد تلامذته الراهب القمص أبونا «روفائيل آڤا مينا»: «أشهد أمام الله: أنى طوال خدمتى للبابا، لم أجده يتربص بأحد أو يحمل ضغينة لأحد أو يحارب من خاصموه، بل رأيته على العكس يحب الجميع، حتى الذين ناصبوه العداء احتضنهم وأسند إليهم أعمالاً هامة!!».

أما عن المودة العميقة والاحترام المتبادل اللذين جمعا القطبين العظيمين الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» والبابا «كيرلس السادس»، فقد كانا دائمًا موضع إعجاب الجميع، حتى إن «إذاعة صوت أمريكا» وصفت «البابا كيرلس» عند نياحته: «لقد تُوُفّى الصديق الوفى لعبد الناصر». وقد كانت تلك المحبة العميقة ممتلئة تقديرًا وتفاهمًا وعملاً دائمًا من أجل مصلحة البلاد. ولا يمكن للتاريخ أن ينسى مواقف البابا «كيرلس السادس» أثناء أزمات مرت بالبلاد كعدوان 1967 م وحرب الاستنزاف، ولا مواقفه الوطنية فيما يتعلق بـ«مِصر» والشرق الأوسط، وعلى نحو خاص موقف المِصريِّين من قضية «القدس»، وإصداره بيانًا تاريخيًّا مشتركًا مع فضيلة «الإمام حسن مأمون»، شيخ الأزهر آنذاك، يؤكَّد فيه تضامن المِصريِّين جميعًا تجاه كل ما يختص بـ«مِصر» من قضايا.

انطلق البابا «كيرلس السادس» من العالم صباح الثلاثاء 9/3/1971 م، فى وداع شهِد له المتنيح «أنبا اغريغوريوس» (الأسقف العام للدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمى آنذاك)، فقال: «أكرمك الله فى وفاتك بهذا الوداع نادر المثال، الذى تجلى فيه كل الوفاء وكل الحب، وكل الإجلال لسيرتك العطرة وحياتك الطاهرة»، وانتشر أريج سيرته واستحق أن تعلَن قداسته و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.

الأسقف العام

رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى

نجمك المفضل - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 10/3/2023

 كنت أشاهد أمس برنامجاً قديماً ضيفه عميد الأدب العربى طه حسين، كان اسم البرنامج «نجمك المفضل»!! كان النجم المفضل فى تلك الأيام الخوالى واللى يشيل برنامج من الألف للياء بلغة أهل الشغلانة هو مثقف بحجم وقامة طه حسين، يعنى إيه؟يعنى موضوع السهرة موضوع ثقافى ومكلكع كمان، لم يقل المشاهد يوووه سيكلموننا عن الثقافة والأدب العربى واليونانى والفلسفة والترجمة وتلك القائمة من القضايا الغريبة العجيبة بتاعة عالم المثقفين دول، لا لم يقل المشاهد هذا، ولا امتعض ولا حاجة، وكان «ماسبيرو» يعرف أن تلك الحلقة ستحصل على نجاح هائل وتكتسح، مَن كان معد هذا البرنامج؟إنه أنيس منصور!!! أنيس منصور هذا المثقف الموسوعى، صاحب تلك الكاريزما وخفة الدم والأسلوب الجذاب واللغة الرشيقة، هو المُعد، نعم هو المُعد، مَن هى المذيعة؟ إنها ليلى رستم أسطورة التقديم التليفزيونى، المثقفة الجميلة الجذابة التى تعلمت فى أمريكا واكتسبت ثقة فى نفسها جعلتها تحاور عظماء هذا الزمن، هل ستحاوره «ليلى» منفردة؟ لا.. لقد أتى أنيس منصور والذى يعرف طه حسين أنه «عقّادى الهوى» ومغرم بالعقاد حتى الثمالة، أحضر له قامات ثقافية لتسأله، يعتبر كل منهم وزارة ثقافة متحركة، نجيب محفوظ، محمود أمين العالم، عبدالرحمن الشرقاوى، أمين يوسف غراب، ثروت أباظة، يوسف السباعى، عبدالرحمن بدوى، كامل زهيرى …إلخ.ما كل هذا الجمال والإبداع يا ربى؟ كل هؤلاء يضمهم صالون واحد وحلقة برنامج واحد، تعوّدنا فى الإعداد التليفزيونى على البخل والتقتير فى الضيوف، وإننا ما نفتحهاش على البحرى، وإن الضيف المهم شىء صعب عض عليه بالنواجذ.لكن هذا الكرم الحاتمى وحوالى عشرة ضيوف كل منهم يعمل قناة وسلسلة حلقات، فهذا يثبت أن بئر الإبداع الثقافى المصرى لا تنضب ولن تنضب، أما عن الموضوعات فحدث ولا حرج، يكفى أن تعرف، يا عزيزى، أن قضية السِّيَر الشخصية ومنظور «العقاد» فى تناولها فى العبقريات كان محوراً من محاور الحلقة وقد شن طه حسين هجوماً على هذه الطريقة التمجيدية فى التناول، وصُدم الحاضرون، وأولهم مُعد الحلقة، حيث أحرجه طه حسين وسأله مباشرة: هل أعجبتك العبقريات؟ وأبدى طه حسين إعجابه بمحمود أمين العالم وكتاباته، وتحدث عن الرواية وفن المسرح الشعرى والأدب الإغريقى والفرنسى، وطاف بنا هو وضيوف صالونه فى عوالم الفن والأدب ومنحنا وجبة ثقافية لا تخرج إلا من مطبخ مصر المحروسة.


Monday, March 6, 2023

إلهنا العظيم - صانع خيرات ورحوم - الأنبا موسى - المصري اليوم - 5/3/2023

 فى صلواتنا اليومية - فى الأجبية - نقول فى بداية كل صلاة: «فلنشكر صانع الخيرات، الله الرحوم».

فالرب فعلًا هو «صانع الخيرات»... قد يعمل الإنسان على الاستفادة من هذه الخيرات، لنفسه، وصحته، وأسرته، وأصدقائه... ولكنه ليس هو مصدرها، بل «اللهِ الَّذِى يُعْطِى الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ» (يعقوب 5:1).

فهو معطى كل خير وبركة لأنه صانع الخيرات ومصدرها، كقول الكتاب المقدس: «أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا» (خروج 8:3).

فالإنسان قد يعطى أشياء محدودة، وقد يستكثرها على من أخذها، مع أنه ليس مصدرها ولا معطيها!!

فهناك فرق بين عطاء الله وعطاء الإنسان..

أولًا: عطاء الله:

أ- عطاؤه مطلق: عطاء الله لخليقته عطايا مختلفة: نعم وبركات وخيرات ومواهب، وكل عطاياه صالحة وبوفرة وسخاء «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِىَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِى الأَنْوَارِ» (يعقوب 17:1) وأعظم عطايا الله لنا هى: نعمة الوجود ونعمة الخلود.

ب- يعطى بسخاء ولا يعيّر!

والسخاء هو الكثرة والوفرة، ولك أن تلقى نظرة على العالم من فوق، لتدرك كيف أن الرب «سخى فى العطاء، وكريم فى التوزيع».

إنه يرزق الإنسان والحيوان والنبات والحشرات الصغيرة.. إذ يفرش مائدة من كل الأصناف ليأخذ كل كائن ما يحتاجه ويشبعه!.. كما قال الكتاب المقدس: «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا» (متى 26:6).

ولك أن تتصور كيف تحيا الكائنات على الأرض، من الفيل الضخم، إلى الأميبا الصغيرة! والرب يرزقها جميعًا من سخاء نعمته الغنية، حسب احتياج كل منها..

ونتذكر هنا القديس العظيم الأنبا بولا، أول السوَّاح، كيف أن الغراب كان يأتيه كل يوم بنصف رغيف خبز.. ولما جاءه القديس الأنبا أنطونيوس لزيارته، وجد الغراب يحضر له رغيفًا كاملًا!! هذه قصة موثقة فى التاريخ الكنسى!

فهو يعطى بسخاء... ولا يعيِّر!!

فالرب مهما أعطانا لا يعيِّرنا بما أعطانا! بعكس الإنسان، الذى إذا أعطى قد يُعيِّر من يأخذ!!

ج- عطاء للجميع: فكما يقول الكتاب المقدس: «فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ» (متى 45:5).

ويقول الراعى هرماس: (اصنعوا الخير ومن نتاج أعمالكم، أعطوا جميع المحتاجين فى بساطة، غير مترددين لمن تعطون. أعطوا الجميع، فالله يريد أن عطاياه توزع على الكل).. وقد علمنا الكتاب المقدس أن: «مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ» (أعمال الرسل 35:20) و«طُوبَى لِلَّذِى يَنْظُرُ إِلَى الْمِسْكِينِ (يساعده). فِى يَوْمِ الشَّرِّ يُنَجِّيهِ الرَّبُّ» (مزمور 1:41).

ثانيًا: عطاء الإنسان:

أما عطاء الإنسان فعطاؤه نسبى: من دفع عشور الدخل من المال لبيت الله، والفقراء، والمحتاجين.. وعشور الدخل هو الحد الأدنى لعطاء المال، بالإضافة إلى عطاء البكور أو النذور من: مال أو وقت أو عمل، أو مساعدة المحتاجين وهو يتناسب مع مدى محبة الإنسان لله، ومدى محبته للغير، عملًا بقول الكتاب المقدس: «هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ... وَجَرِّبُونِى بِهَذَا، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ، إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوى السَّمَاوَاتِ، وَأُفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ» (ملاخى 10:3) فيجيب المعطى قائلًا: «لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ» (أخبار الأول 14:29).

على أن قمة العطاء تتمثل فى أن يبذل الإنسان نفسه لأجل غيره: أى أنه يفدى غيره بذاته.

إن العطاء هو خروج من محبة الذات إلى محبة الآخر، كمثال من يفدى وطنه بحياته، أو من يضحى بنفسه من أجل مبدأ من المبادئ السامية، أو من يقدم حياته لإنقاذ غريق، أو إنقاذ أسرة من الحريق. ولا يوجد حب أعظم من هذا:

أن يضع أحد نفسه عن أحبائه.. وهنا نتذكر الشمعة التى تذوب لكى تنير للآخرين.

لذلك علينا أن نستخدم كل العطايا التى يمنحها الله لنا لمساعدة ومساندة وخدمة الآخرين، بل نعطى أحسن ما عندنا لكل من هو محتاج، ونعطى بسخاء سواء كان عطاء ماديًّا أو معنويًّا. فكل ما يصلنا من خير نعطى منه للغير، وهكذا أوصى معلمنا بولس المؤمنين: «أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِى أَعْمَال صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِى الْعَطَاءِ، كُرَمَاءَ فِى التَّوْزِيعِ» (تيموثاوس الأولى 18:6).

وهناك آيات من الكتاب المقدس تحثنا على العطاء ومنها:

1- « لنَّفْسُ لسَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ، وَ لْمُرْوِى هُوَ أَيْضًا يُرْوَى» (أمثال 25:11).

2- «لا تَمْنَعِ لْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهِ، حِينَ يَكُونُ فِى طَاقَةِ يَدِكَ أَنْ تَفْعَلَهُ» (أمثال 27:3).

3- «أَمَّا لصِّدِّيقُ فَيُعْطِى وَلا يُمْسِكُ» (أمثال ٢١:‏٢٦).

4- «كُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ لَّذِى لَكَ فَلَا تُطَالِبْهُ» (لوقا 30:6).

5- «مَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هَكَذَا» (لوقا 11:3).

كذلك أوصى بالعطاء بلا حدود ولأى إنسان فى قوله: «مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ»

(متى 42:5). وكذلك فى قوله: «وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ» (متى 41:5). وأوصى بالعطاء بلا مقابل فقال «أَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئًا» (لوقا 35:6). ولربنا كل المجد إلى الأبد آمين،