Translate

Wednesday, January 30, 2019

خالد منتصر - أخت شكسبير التى ما زالت بيننا - جريدة الوطن - 1/2019 /31

دائماً ما يُشهر الذكوريون فى وجهك المقارنة الشهيرة التى يظنونها مفحمة، وهى سؤالهم الخالد «من هم الأكثر عدداً، المبدعون الرجال أم المبدعات النساء؟»، الإجابة بالطبع أنهم المبدعون الرجال، بعد الإجابة تلمع عينا السائل المتحفّز المتحدى وتنتفخ أوداجه من نشوة الانتصار، وهو يظن أنه قد أخرسك بمنطقه، لكنك للأسف لم تكتشف أن منطقه معوج مسموم مخادع ومراوغ وكاذب، وقد فضحت هذا المنطق المراوغ الكاتبة العبقرية فيرجينيا وولف فى كتابها «غرفة تخص المرء وحده»، حين حكت حكاية جوديث شكسبير، وهى شخصية خيالية، مفترض أنها أخت شكسبير، حكتها لتوضّح أن امرأة لديها موهبة، مثل شكسبير كانت ستُحرم من فرصة تطويرها، شأنها شأن الكاتبة التى بقيت فى المنزل، بينما ذهب إخوتها إلى المدرسة، فـ«جوديث» أيضاً قد حوصرت فى المنزل «كانت جوديث مغامِرة، مبدعة، محبة لرؤية العالم كما كان. لكنها لم تُرسَل إلى المدرسة قط».. فى الوقت الذى يتعلم فيه «ويليام»، كان يتم انتقاد «جوديث» من قبل والديها إذا حدث أن التقطت كتاباً؛ فهذا حتماً سيعطلها عن بعض الأعمال المنزلية. تمت خطبة جوديث، وكلما أبدت عدم رغبتها بالزواج، يهاجمها والدها، ويجبرها على الزواج.
بينما يؤسس ويليام نفسه، تكون جوديث محاصرة بما هو متوقع من النساء، فتهرب من البيت إلى لندن.
وعندما تحاول أن تصبح ممثلة، تتعرض للمضايقة والسخرية، ثم تصبح حاملاً من قبل مُخرج قال إنه سيساعدها. وفى النهاية تقتل نفسها «وتُدفن الأكاذيب فى بعض الطرق المتقاطعة، حيث تتوقف الحافلات خارج منطقة إليفانت آند كاسيل».
ويستمر ويليام شكسبير فى حياته، وينجح ويصبح أشهر كاتب مسرحى فى العالم، صارت لدينا عشرات الملايين من شقيقات شكسبير، تحرمن من الفرص، يتم طحنهن فى ماكينة الكنس والمسح والطبخ منذ الطفولة فى كتاب القراءة، عادل يقرأ ويعمل وسعاد تكنس وتطبخ، ثم أعباء الزواج، مطلوب منها نهاراً أن تكون زوجة وخادمة وأماً ومربية ومدرسة، وليلاً راقصة وخبيرة مساج!!، تربطها بألف سلسلة وتغطيها وتحجزها وتربيها ذهنياً وثقافياً على تجهيز نفسها للشحن إلى قطار بضاعة النكاح فى مشروع تسمين الدجاج الأنثوى، ثم تتساءل بكل بجاحة لماذا عدد المبدعات فى تاريخنا قليل؟، أخت شكسبير صارت لدينا أخت المتنبى، ثم أخت الشيطان المستباحة التى تغوى ومكانها البيت أو القبر، الشقيقة التى ما زالت تصرخ مطالبة بحريتها، فقط اتركوها فى حالها.

Tuesday, January 29, 2019

٢٥ يناير فى عيون المصريين وعيون الإعلام بقلم د. محمد أبوالغار ٢٩/ ١/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم


احتفلت الأغلبية العظمى من الشعب المصرى بذكرى ثورة ٢٥ يناير واحتفل الإعلام المملوك للدولة ومختلف الأجهزة بعيد الشرطة. إنه أمر محزن أن ينفصل الشعب عن إعلامه الذى أصبح يغرد وحده بدون مشاهدين أو مستمعين إلا قلة. الناس تعرف لقطات مما يقوله الإعلام المصرى عن طريق وسائل التواصل الاجتماعى التى أصبحت الوسيلة الأكبر انتشاراً بمراحل والأكثر تأثيراً بدون أى منافس ويضاف إليها الأعداد الهائلة من المصريين التى تشاهد قنوات تركيا وقطر الموجهة إلى مصر.
لا يعرف الكثيرون أن المقصود بعيد الشرطة هو الاحتفال بشهداء الشرطة يوم ٢٥ يناير عام ١٩٥٢ بسبب صدام عسكرى مع قوات الاحتلال الإنجليزى المدججة بالدبابات والأسلحة الثقيلة مقابل جنود بسطاء فى الإسماعيلية يحملون بنادق قديمة محدودة الكفاءة والذين دفعوا إلى معركة غير متكافئة بعد قرار وزير الداخلية الذى لم يتوقع من الإنجليز أن يستخدموا القوة المفرطة التى أدت إلى استشهاد عدد كبير من الشرطة المصرية. الحدث كارثى والشهداء يستحقون كل التحية والتقدير فى ضمير مصر والمصريين ودماؤهم لم تذهب هباء فاندلعت المظاهرات واشتدت الحركات الفدائية وانتهى الأمر بتولى الضباط الأحرار السلطة بعدها بستة أشهر ثم وقعت اتفاقية الجلاء وخرج الإنجليز بعد عامين من هذا الحدث الرهيب.
عيد الشرطة الذى أعلن عنه حبيب العادلى كان المقصود به تكريم العادلى وشركاه واتخذوا من الحادث الرهيب الذى حدث عام ١٩٥٢ سبوبة ليكرموا أنفسهم. وكان التصفيق الحاد لمدة خمس دقائق لثورة ٢٥ يناير فى القاعة الكبرى للأوبرا مقارنة بتصفيق هافت لثوان معدودة لعيد الشرطة دليلاً على المشاعر الحقيقية للمصريين.
تحية للشهداء المصريين الوطنيين الذين ضحوا بحياتهم فى ٢٥ يناير ١٩٥٢ والتى أدت تضحياتهم بأرواحهم الغالية إلى استقلال مصر وخروج الإنجليز.
٢٥ يناير ٢٠١١ كانت حدثاً هائلاً أحدث زلزالاً حقيقياً فى مصر وما زال مستمراً إلى الآن، وكذلك أحدث زلزالاً فى المنطقة كلها أدى إلى هجوم كثيف من كل المسؤولين فى المنطقة خوفاً على مناصبهم وخوفاً من شعوبهم التى قد تقلد الشعب المصرى والشعب التونسى.
خرج ملايين المصريين من جميع الطبقات الاجتماعية ومن جميع المهن، اشترك العمال والطلبة والموظفون وأساتذة الجامعات والمهنيون بكافة فئاتهم ورجال الأعمال والجميع أقباطاً ومسلمين فى ثورة عارمة سلمية وقد كانت الأوامر يوم ٢٥ يناير بعدم استخدام العنف أو إطلاق الرصاص على المتظاهرين ومر اليوم كله بدون ضحايا فى القاهرة بينما حدث عنف فى السويس، وحتى حين فرقت الشرطة المعتصمين فى ميدان التحرير مساء ٢٥ يناير حدث ذلك بدون خسائر فى الأرواح واستمرت السلمية إلى حد كبير حتى يوم ٢٨ يناير.
الشعب المصرى كان مسالماً. لم يدمر شيئاً ولم يسرق شيئاً. الأمور تطورت بعد ذلك بمعارك حقيقية مسلحة بين الشرطة والإخوان وكان انسحاب الشرطة بقصد تخويف المصريين هو الذى أحدث الفوضى والسرقات وفتح السجون وكل ما حدث بعد ذلك.
قامت ٢٥ يناير لأن الشعب رفض أن يستمر رئيسه حاكماً إلى الأبد ورفض توريث الحكم وتعديلا مشينا للدستور، ورفض الفساد ورفض التزوير المريع فى آخر انتخابات برلمانية. الثورة كانت تلقائية، وكل ما يقال عن مؤامرة خارجية يهين الشعب المصرى. والثورة بالتأكيد لم تحقق أهدافها وذلك راجع إلى أنها لم يكن لها قيادة واعية قادرة على أن تلم الشمل ولم يكن هناك قوى أو أحزاب مدنية منظمة. وكان الثوار من مختلف الاتجاهات يريدون التغيير السلمى ولكن بدون هدف أو نظام محدد. النتيجة هى أن الإخوان كانوا الجماعة الوحيدة المنظمة وبالرغم من أنها كانت عددياً نسبة بسيطة من الثوار إلا أنها بالتنظيم الحديدى وباستخدام سلاح الدين وقدرتهم على احتواء السلفيين إلى صفهم استطاعوا الاستيلاء على ثورة أعلنوا يوم قيامها أنهم ليسوا معها بل ضدها.
الثورة انتهت فعلياً ولكنها لم تمت فى قلوب المصريين، وخاصة الشباب، وتركت أثراً كبيراً فى زيادة الوعى والمعرفة والتى ساعد عليها وسائل التواصل الاجتماعى. المصريون أصبحوا أكثر شجاعة وقدرة على التعبير والمطالبة بالحقوق.
الثورات فى التاريخ لا تموت وإنما تحدث تغييراً نادراً ما يكون فورياً. الانقلابات هى التى تحدث تغييرات فورية مثلما حدث فى أفريقيا وأمريكا الجنوبية. أما الثورات فتحدث تغييرات تأتى نتائجها بعد حين، والثورة الفرنسية أم الثورات تحققت مطالبها بعد سنوات.
مصر يجب أن تتقدم إلى الأمام بعمل ديمقراطى يحقق الحريات وبدون فوضى لأن ظروفنا الاقتصادية والظروف العامة فى المنطقة تشير إلى مخاطر حقيقية على الدولة المصرية التى يجب أن نحافظ عليها بينما نحقق الديمقراطية والحرية القادمة بدون شك ولو بعد حين..
قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك.

خالد منتصر - دعاة السوبر ماركت - جريدة الوطن - 1/2019 /29

بعد عشر سنوات من حصوله على جائزة الدولة التشجيعية عن كتابه الذى كان أول كتاب رصد ظاهرة الدعاة الجدد وألقى عليها الضوء وحللها وشرّحها، نشر الكاتب الصحفى وائل لطفى كتابه الثانى «دعاة السوبر ماركت»، مواصلاً فيه التنقيب عن تلك الظاهرة حتى العمق والجذور. الكتاب صغير الحجم، كبير وعظيم القيمة، تغلفه زاوية رؤية جديدة ومختلفة ومتفردة للكاتب، ربط فيها بين ظاهرة الوعظ البروتستانتى وظاهرة الدعاة الجدد، مستعرضاً بداية الواعظ «بيلى جراهام» ودعم رجل الأعمال «وليام هيرست» له، و«الكوبى بيست» الاستنساخى الذى فعله رجل الأعمال السعودى صالح كامل مع الداعية عمرو خالد الذى احتل منفرداً ربع الكتاب، لأنه حجر أساس مهم فى هذا البناء الوعظى المؤثر المغيِّب للعقول والمضلل للوجدان.
حلل وائل لطفى ظاهرة عمرو خالد، كنموذج ودليل ومادة دراسة، بتفاصيلها. ونشر حواراً أعتبره من أهم الحوارات الكاشفة لبداية ونمو تلك الظاهرة، وتستحق وحدها دراسة حالة، أبرز فيها دور المال والإعلام فى بزوغ الظاهرة التى حدد المؤلف بدايتها منذ ما قبل عمرو خالد، مع بزوغ نجم ياسين رشدى وعمر عبدالكافى، والربط بين الثروة والإيمان، واستقطاب النخبة الأرستقراطية الثرية. وحدد المؤلف أهم تميز أو اختلاف اتصف به هؤلاء، وهو أنهم خارج المؤسستين، الأزهر والجماعة السلفية، وهو ما جعل المذاق مختلفاً والتأثير عالى النبرة ومؤثر البصمة، فاللغة لغة تنمية بشرية سهلة، والزى كاجوال، يشبهنا ومنا، وليس ضيفاً غريباً من غياهب الماضى، والوسيلة ليست منبراً عتيقاً، ولكنها فضائية وقمراً صناعياً ووسائل تواصل. حلل الكتاب أيضاً علاقة الدعاة الجدد بالإخوان تحت عنوان «غرام وانتقام»، بداية من عمرو خالد الذى تتلمذ على يد وجدى غنيم، وانتهاء بمصطفى حسنى صاحب فيديو تمجيد زينب الغزالى وأردوغان، وأخرج من الظاهرة معز مسعود الذى تسلل من ثغرة أخرى هى ثغرة إنتاج البرامج والدراما والارتباط بالنجوم والفنانين وتدشين نفسه باحثاً فى الإلهيات ومحارباً للإلحاد. الخيط الذى يربط الجميع هو شهوة المال العطشى التى لا ترتوى ولا تنتمى لزهد أو «يا دنيا غُرِّى غيرى»!!، والتى انتهت مع عمرو خالد لكوميديا ومسخرة إعلان الفراخ الشهير الذى كان مسمار نعش ظاهرة عمرو خالد الذى يحاول استعادة الروح دون جدوى حتى الآن. ويُنهى وائل لطفى كتابه القيِّم بمناقشة ظاهرة «الإعجازيون الجدد» الذين يغطون على عجزنا العلمى المزمن كمسلمين.
كتاب «دعاة السوبر ماركت» الصادر عن «دار العين»، هو كتاب مهم لفتح مناقشة ثرية حول ظاهرة الدعاة الجدد الذين سمموا آبار الروح وغيّبوا العقل وجعلوا من المليارات وكنز البنكنوت هدفاً وغاية، فصار البيزنس هو الأصل والدعوة هى الفرع.. شكراً للمجتهد الجاد المدقق وائل لطفى فى زمن كتابة التيك أواى.

Sunday, January 27, 2019

التجريف السياسى بقلم د. عماد جاد ٢٧/ ١/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

كثر الحديث فى الآونة الأخيرة عن تصحر البيئة السياسية المصرية، وأن البيئة الحزبية جدباء وتحتاج إلى جهد مكثف من أجل تنميتها وتطويرها وإنهاء حالة الجدب السياسى والحزبى التى تسود البلاد. وهو وصف صحيح ودقيق ولكن يعوزه التأصيل التاريخى، فالحياة السياسية والحزبية فى مصر منذ عشرينيات وحتى مطلع خمسينيات القرن الماضى، لم تكن جدباء بل كانت أكثر نموا وتطورا من مثيلتها فى دول جنوب ووسط أوروبا، وأن تصحر الحياة السياسية والحزبية جاء بفعل حركة الجيش فى يوليو ١٩٥٢ وما قام به مجلس قيادة الثورة من إلغاء للأحزاب وتشويه للحزبيين والسياسيين المدنيين بصفة عامة، وتكفى الإشارة إلى أن مبدأ من المبادئ التى رفعت وعلموها للنشء هو القضاء على الفساد السياسى فى إشارة إلى الاحزاب ومبدأ آخر هو إقامة حياة سياسية ديمقراطية، وهو ما لم يحدث، بل تم القضاء على الفكرة وتشويه النخب السياسية وتدمير النخب الاقتصادية وإضعافهما.
كشفت ثورة الخامس والعشرين من يناير عن حجم التجريف السياسى الذى حدث فى البلاد والذى تضاعف فى عهد مبارك الذى استمر فى الحكم ثلاثة عقود معتمدا على نخبة مغلقة، محدودة، وكيف قام نظام مبارك من خلال لجنة شؤون الأحزاب التى كان يقودها الأمين العام للحزب الوطنى فى تفصيل أحزاب سياسية من خلال جهاز أمن الدولة للقيام بدور المعارضة الشكلية. لم يفتح نظام مبارك النخبة السياسية للتجنيد من خارج الدائرة الضيقة التى كان يعتمد عليها، ولم تكن للأحزاب السياسية الكارتونية أى دور سوى تمثيل دور المعارضة، أما الأحزاب المعارضة الحقيقية والقوى السياسية التى حرمها نظام مبارك من تأسيس أحزاب سياسية فقد ظلت تمارس دور المعارضة الاحتجاجية وأحيانا كانت تبرم الصفقات مع النظام من خلال أجهزة الأمن للحصول على عدد من مقاعد البرلمان مثلما كانت تفعل جماعة الإخوان المسلمين.
بنى نظام مبارك صيغة محددة للتعامل مع القوى السياسية المختلفة تمثلت فى قتل كل القوى التى يمكن أن تمثل بديلا مدنيا له، فقد منح شخصيات انتهازية حق تشكيل حزب سياسى للعب دور المعارضة، أما القوى التى كان لها قدر من التأييد فى الشارع فقد حرمها من الحصول على حزب سياسى وتركها تعمل من خلال حركات ومنظمات. كان نظام مبارك يعمل على البقاء فى الساحة منفردا مع جماعة الإخوان فقط، حتى يخير المصريين بين نظامه وبين حكم المرشد والجماعة، كان كثيرا ما يلجأ إلى الصفقات مع الجماعة وكان يقدم لها جزءا يسيرا من «الكعكة» وعندما تطمع فى المزيد كان يوجه لها الضربات الأمنية فقط كى تعود إلى رشدها وتلتزم بجوهر الاتفاقات التى كانت تتوصل إليها مع أجهزة الأمن.
خلال فترة حكمه التى دامت ثلاثة عقود كاملة لم يفتح مبارك النخبة السياسية، حافظ عليها نخبة مغلقة، واعتمد على شخصيات لفترات زمنية طويلة حتى شاخت فى السلطة وشاخ معها النظام، هذه الشخصيات عمدت إلى قتل الصف الثانى حتى لا يجد النظام بديلا لها، وحتى تبدو الفجوة كبيرة للغاية فى حال تغيير الشخصيات القيادية، بات قتل الصفوف الثانية سياسة مبرمجة فى النظام، فى الوزارات والمصالح الحكومية، فى المؤسسات العامة. النتيجة المنطقية لذلك كانت فقدان الأجيال التالية من السياسيين والمهنيين الخبرات اللازمة، وإذا تحدثنا عن السياسة فسوف نرصد بسهوبة فقدان رجال المعارضة من مختلف الأعمار الخبرات السياسية اللازمة التى تجعل منهم رجال دولة، ويمثلون بدائل حقيقية لرجال النظام، تحول غالبية رجال المعارضة إلى رجال أعمال بشكل أو بآخر، منهم من تحول إلى سمسار عمل مع أجهزة النظام ومنهم من نسج روابط وصلات مع نظم خارجية، ومنهم من أفاد صناعته الخاصة من خلال لعب دور المعارض، من هنا اتسمت المعارضة المصرية بأنها ظاهرة صوتية، لا خبرة سياسية لديها وعجزت عن ممارسة دور رجل الدولة بعد ٢٥ يناير، فقد اتسم سلوكها بالاضطراب والتخبط ولم تحترم الحدود الأيديولوجية مع القوى الأخرى فرأينا القومى واليسارى يتحالف مع اليمين الدينى، ورأينا من الليبراليين من دخل على خط التعامل مع الجماعة الإرهابية للحصول على مكاسب سياسية متصورة. إذا انظرنا إلى حال الأحزاب والقوى المدنية اليوم وحالة التخبط التى تسود صفوفها وعدم قدرة البعض على تقديم مصلحة الوطن على مصالحه الخاصة فسوف نعرف كم هى ثقيلة جريمة يوليو ١٩٥٢ ونظام مبارك فى تجريف الحياة السياسية فى البلاد، أما القضاء على جدب الحياة السياسية والحزبية فلا يحتاج سوى رفع يد جهاز الأمن عن إدارة الحياة السياسية والحزبية وتطبيق مواد الدستور التى تمنع قيام الأحزاب السياسية على أساس دينى، عندها ستنمو الأحزاب وتعمل فى بيئة صالحة تقضى تدريجيا على الجدب الذى أكل الأخضر واليابس منذ يوليو ١٩٥٢.

الشباب وملامح العصر بقلم الأنبا موسى ٢٧/ ١/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

١- يموج العصر الحديث بأمور جديدة مثل: شبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعى (الفيس بوك - الانستجرام.. إلخ) والمزيد القادم فى الطريق.. وأصبح التواصل ممكنًا بالصورة، والحركة، والتخاطب المباشر.. والإنسان قابع فى حجرته أمام اللاب توب أو على موبايله الخاص.
٢- ومع هذا الخلط والاختلاط، تتداخل وتتسابق وتتقاطع «المفاهيم والمبادئ والنفوس»، مما يعطى الشباب فرصًا كبيرة فى الخروج من الذات والأسرة والأصدقاء ومكان العبادة والمجتمع المحلى، إلى آفاق بعيدة، يمكن أن تدفعه إلى قرارات واختيارات ومواقف غاية فى الأهمية والخطورة على حياته.
وكم من شباب تواصل مع فتيات عن هذه الطريق، وسقط من فخاخ خطيرة ومدمرة.. ودائمًا أتذكر ما نشرته الصحف، عن فتاة تواصلت مع شاب غير مصرى، وجاء إلى مصر، فسرق كل ما لديها، وتركها مدمرة!!.
٣- إن أهم فضيلة يجدر بشباب القرن ٢١ أن يتحلى بها هى فضيلة «التوازن». ذلك لأن عالم القرن الجديد، يحفل بثنائيات كثيرة، تستدعى منا أن نتخذ موقفًا متوازنًا وحكيمًا، كل يوم، وكل ساعة!.
٤- والتوازن طبعًا هو عكس التطرف، فالتطرف هو أن يركن الإنسان إلى أحد طرفى المعادلة أو الميزان، ويتجاهل وينفى الطرف الآخر، أو الكفة الأخرى من الميزان، فيسقط فى «التطرف اليمينى»، أو «اليسارى».. بينما عندنا شعار مصرى جميل يقول: «خير الأمور الوسط».
٥- كذلك فالتوازن هو من أهم مؤشرات الصحة النفسية، كما يقول علماء النفس.. من هنا يكون لزامًا علينا أن نتعرف على بعض ثنائيات القرن الجديد، لكى نتخذ الموقف المتوازن منها، فلا نتطرف يمينًا أو يسارًا.. كما قال سليمان الحكيم: «لاَ تَكُنْ حَكِيمًا بِزِيَادَةٍ. لِمَاذَا تَخْرِبُ نَفْسَكَ؟» (جا ١٦:٧)، ويقصد بالحكمة هنا ما يمكن أن نسميه «الوسوسة» وأذكر أن بعض هؤلاء كانوا يغسلون الصنبور، الحنفية، نفسها بالماء والصابون قبل أن يأخذوا منها الماء!!.
٦- ولدينا هنا المقولة الشهيرة «خير الأمور الوسط»، وبالأكثر كلمة الآباء القدماء «الطريق الوسطى خلصت كثيرين».
يحفل القرن الـ٢١ بثنائيات هامة يجب أن ننتبه إليها ونتعامل معها بتوازن، نذكر منها:
١- بين التراث والمعاصرة. ٢- بين المادة والروح. ٣- بين الإنسان والآلة. ٤- بين الزمن والأبدية. ٥- بين القداسة والعدالة الاجتماعية. ٦- بين التفرد والمرجعية. ٧- بين الحرية والالتزام. ٨- بين العلم والإيمان. ٩- بين الانتماء والعولمة. ١٠- بين الأنا والآخر.
■ ■ ■
ونبدأ دراستها ببعض التفاصيل:
١- بين التراث والمعاصرة: مع النبرة المتزايدة فى اتجاه المعاصرة، وعدم الانسحاب من تيار الحياة، والجديد التكنولوجى، وثورة الاتصال الحديثة، ورياح الحرية، ودواعى التجديد والتغيير، ودعاوى الليبرالية والتقدمية، وكلها أمور هامة ومفيدة، يحتاج شباب القرن ٢١ إلى التمسك بجذور التراث والأصالة، فبدون جذور لا تنمو الساق، ولا تظهر الأوراق، ولا تشرق الأزهار، ولا نجنى الثمار.
أ- التراث هو بمثابة الجذور: التى نستمد منها عصارة الحياة، فالحياة لا تبدأ من فراغ، والحاضر كان جنينًا فى رحم الماضى، كما أن المستقبل هو جنين فى رحم الحاضر. لهذا تحدث المفكرون عن «سر اللحظة الحاضرة» (The secret of the present moment).
ب- نعم، ينبغى أن تكون لنا رؤية مستقبلية: حتى إن هناك الآن علم «المستقبل» (Futurology)، الذى لفت نظرنا إليه الراحل الكبير أحمد بهاء الدين. ولكن التطلع إلى المستقبل، ينبغى أن يبنى على مراجعة الماضى، واستيعاب دروس ومعطيات التراث، السخى والهام. لذلك فاستيعابنا مفردات الدين، وكتابات القدامى، والتعرف على الجذور، والهوية المصرية، والكفاح الإنسانى العام (ضد العبودية مثلاً)، والكفاح الوطنى الخاص (ضد الاستعمار مثلاً)، لنبنى أنفسنا على قواعد هامة وراسخة.
ج- إنه تراث ضخم: روحى وثقافى ونفسى واجتماعى ووطنى يجب أن نستوعبه قبل أن نحدد لأنفسنا رؤى المستقبل ومعالم الطريق.
د- من هنا كان لا بد لنا من «المعاهد الدراسية»، و«الشهادات العلمية»، و«البحوث المتخصصة»، لكى نستزيد من تراث الماضى، استعدادًا لخطوات المستقبل، ولكن دون إغراق فى الماضى، أو التوقف عند عصر معين، أو الاكتفاء بالافتخار بالتاريخ، وكذلك دون إلغاء لمفردات ومنجزات العصر الحديث: روحيًا وفكريًا وتكنولوجيا ومعلوماتيًا.. فمن خلال هذا المزيج، تتضح الرؤيا، ونضمن سلامة خطوات الحاضر والمستقبل، بنعمة الله.
٢- بين المادة والروح:
أ- فى العالم الآن ثقافتان: المادية والروحية، وهناك خطر التطرف فى الاتجاهين، فإذا ما سيطرت الثقافة المادية، تحول الإنسان إلى «سلعة»، والحياة إلى «صفقات»، إذ يتم حبس البشر فى «حركة التاريخ الزمنى»، وصراعات اللقمة، والبترول، والموارد المادية، والأرض، ونسوا أن فى داخلنا عنصر «الروح» الذى يتطلع إلى الإلهيات، والأبديات، وما وراء المادة والطبيعة والزمن والموت!!، وهى أمور غاية فى الأهمية لحاضر الإنسان ومستقبله وأبديته!.
ب- وبالعكس، إذا انحصر الإنسان فى الروحانيات وأهمل المادة، تطرف فى اتجاه آخر مضاد، فأهمل جسده، مع أن الكتاب المقدس يقول: «لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ» (أف ٢٩:٥)، كذلك يمكن أن يهمل صرخات الفقراء والمساكين، مع أن الله يقول على لسان القديس يعقوب الرسول: «هُوَذَا أُجْرَةُ الْفَعَلَةِ الَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ الْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ تَصْرُخُ، وَصِيَاحُ الْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذْنَىْ رَبِّ الْجُنُودِ» (يع ٤:٥).
ج- وهكذا نحتاج إلى «التوازن بين الثقافتين» المادية والروحية فنهتم بإشباع الروح: بكلمة الله، والصلاة، والعبادات، وخدمة الفقراء والمحتاجين والمظلومين والفئات الخاصة كالمعوقين بدنيًا أو ذهنيًا، والمكفوفين، والصم والبكم.. إلخ. وكذلك نهتم بإشباع الجسد: بالدراسة والعلم والعمل.. وإنماء الدخل وتكوين أسرة متدينة، مع حياة معيشية معقولة.
د- كذلك بالاهتمام والالتزام بالعمل المجتمعى الوطنى والعام: فنحيا كجزء من هذا الوطن، علينا دور، وعندنا رسالة، وأمامنا جهد مطلوب من أجل بناء الإنسان المصرى، بل الإنسان عمومًا فى كل بقاع الأرض.
هـ - هذا الاهتمام المتوازن مطلوب، بين المادة والروح: فالسيد المسيح الذى مكث مع الشعب ثلاثة أيام يعلمهم بكلمة الله، حينما جاع الشعب، قال للتلاميذ: «لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا» (مت ١٦:١٤)، وهكذا اهتم السيد المسيح بالروح والجسد معًا.. حين قال للتلاميذ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا» (مت ١٦:١٤)، فلما اعترضوا قائلين: «من أين نجد خبزًا لكل هؤلاء؟!» أجرى لهم معجزة إشباع الجموع من خمسة خبزات وسمكتين، وجدها مع فتى صغير، فباركها السيد المسيح.. إنها «البركة» التى يطرحها الرب فى القليل فيصير كثيرًا.
ونحن نؤمن أنه كما شارك الجسد الروح فى الخطيئة، وفى آلام هذا الزمان، سنقوم بجسد روحانى، حتى يشترك الجسد مع الروح فى أمجاد الملكوت العتيد.
ماذا عن: الإنسان والله، والزمن والأبدية؟ هذا حديثنا القادم بإذن الله.
* أسقف الشباب
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية

Friday, January 25, 2019

خالد منتصر - أين كتب جمال البنا فى المعرض؟ - جريدة الوطن - 1/2019 /26

منذ ست سنوات رحل عنا المفكر المجتهد النبيل جمال البنا، وقد اقتربت من هذا الرجل المتواضع الطيب الجسور وسجلت معه على قناة «دريم» أكثر من ستين حلقة عن التجديد الدينى، بحثت للأسف فى معرض الكتاب لم أجد كتب جمال البنا أو أعماله الكاملة، وتذكرت أنه كان يطبعها على حسابه، وإن وجدت نسخة من كتاب فهى غالباً مقرصنة، جمال البنا لم يتزوج، ولم يترك ولداً، لكنه ترك لنا ثروة من كتب التجديد الفقهى التى حركت البحيرة الراكدة، وهنا فى مصر مشكلة المفكر الذى لم ينجب، وهى مشكلة غير موجودة فى العالم المتحضر الذى يعتبر هذا المفكر ملكه وملك المجتمع والوطن، فيبحث عن كتبه وينشرها ويعيد طباعتها، لكنه هنا فى مصر تنقطع طباعة كتبه وينقطع نشر فكره، لأنه ليس له ورثة يبحثون إعادة النشر، قابل نفس هذه المشكلة المفكر زكى نجيب محمود، ولويس عوض، ومحمود عوض، والسندباد حسين فوزى، حاول أن تبحث الآن عن طبعات جديدة لكتب هؤلاء العمالقة، لن تجد إلا نادراً طبعة قديمة لهذا أو ذاك، مدسوسة فى رف قبل التكهين! ويضيع تراث هؤلاء ويذهب أدراج الرياح، وللأسف سيحدث مثل هذا الموقف لهذا المجدد الذى ترهبن فى مكتبته حتى جاوز التسعين من العمر، على عكس الكاتب العظيم إحسان عبدالقدوس؛ لأن له وريثاً مخلصاً هو ابنه الصحفى محمد عبدالقدوس؛ فتراثه ما زال يُطبع حتى الآن، بل ويحارب ابنه فى سبيل عدم المساس بمتن وجوهر الكتاب أو الرواية، وكذلك د. أحمد عبدالرحمن الشرقاوى، الذى يناضل حتى هذه اللحظة لكى تخرج مسرحية «الحسين» إلى النور، ونسمة يوسف إدريس، التى حافظت على تراث أبيها العظيم الممتد الرائع، وأيضاً أسرة الروائى العظيم نجيب محفوظ، وابنة الكاتب العظيم يحيى حقى السيدة نهى حقى.. كل هؤلاء كانوا الورثة الشرعيين لآبائهم العظام، لكن هل يعنى هذا أن من انقطع نسله ولم ينجب أبناء أن نتركه نهباً للإهمال والنسيان واللامبالاة؟ لماذا لا نعتبر أنفسنا نحن عائلته ونعيد نشر وطباعة أعماله العظيمة، ولنبدأ بجمال البنا، هذا الرجل عف اللسان، هادئ الطباع، خفيض الصوت، لا يجيد ألاعيب الخداع والمراوغة والنفاق، استغل بعض أشرار الإثارة الإعلامية طيبته وحسن نيته، فى محاولة نصب فخاخ إعلامية له فى جريمة اغتيال معنوى لدغدغة مشاعر البسطاء الذين يأخذون الدين بالظاهر والطقوس والقشور، وكنت دائماً أحذره من هذه الفخاخ التى تعوقه عن مشروعه الفكرى الكبير وتثير قنابل دخان وزوابع غبار وتشويش ضباب عن أهم أعمدة بنائه التجديدى الفذّ وتغرقه فى معارك جانبية خطط لها من يريدون قتل هذا المشروع، لأنه يفضح تجارتهم بالدين، وابتزازهم لمشاعر المسلمين بأفكار مغلوطة متطرفة، لكن حسن نيته المزمن كان يوقعه فى شراكهم العنكبوتية، كان جمال البنا شوكة فى حلق من يريدون ابتلاع مصر سياسياً عن طريق تخديرهم بشعارات دينية، الرب والإسلام منها براء. جمال البنا كان التواضع يسير على قدمين، لم يكن يطمع فى متاع الدنيا، كان زاهداً فى كل أضوائها المبهرة التى يسيل لها لعاب الجميع، وعلى رأسهم دعاة «الفور باى فور المؤلفة جيوبهم»، الذين يتزوج كل منهم أربعاً من الجوارى الحسان، ويذهب مع رحلات بيزنس العمرة والحج ليعود بالقناطير المقنطرة والهدايا المغندرة ويحصد الملايين من برامج الفتة والفتنة ورنات أدعية المحمول وجلسات وعظ رجال الأعمال، وصالونات الأرستقراطيات المخمليات!! لم يكن من هذا النوع المتهافت على الدنيا أبداً، كان بلا زوجة وبلا سيارة، يسكن بيتاً فقيراً تحتله الكتب، فلا تجعلك تستطيع السير فى طرقاته، يصرف على كتبه ولا يتكسب منها حتى يستطيع أن يقول كلمته دون ضغوط ناشر أو مؤسسة، كان يعيش كصوفى متبتل يحلم بالسكينة والراحة، وعلى عكس هدوئه فى الحياة كان عاصفة وبركاناً هادراً فى كتبه وأفكاره، صادماً يحرك البركة الراكدة الآسنة للفكر التقليدى الذى يرفض الاجتهاد والتجديد، كان تيار التزمّت يكرهه ويعاديه بعنف ويسب ويشتم ويجرح فيه، لأنه كان يُخلخل نظام البيزنس الذى يرتزقون منه، كان يدعو إلى أن ننهل من النبع الصافى للدين قبل أن يكرس تجار الدين وتيارات التخلف لتحويله إلى مؤسسة احتكارية هم فقط الذين يملكون مفاتيحها وشفرتها وصكوك جنتها ويغسلون أدمغة البسطاء بأن المرور إلى الجنة لا بد أن يكون من خلالهم فقط، لذلك كانت محاولات الاغتيال المعنوى لـ«البنا» واختزاله فى سفاسف اقتُُطعت من سياقها وشُوهت لإلهاء الناس العاديين عن النظر إلى أفكاره الأساسية العظيمة من تجديد التفسير وتجديد الفقه وتجديد فهم الأحاديث والتعامل مع متنها، لا مع سندها فقط، وعدم الرعب من فزاعة «انت هتفهم أحسن من الفقهاء القدامى العظام؟»، فهم عظام نعم، وعلينا احترامهم نعم، لكن ليست لهم قداسة وعصمة الأنبياء، وكما هم عظام على مقاس عصرهم، فما هو متوافر بين أيدينا من إمكانات علم ومناهج بحث، يجعلنا نملك الجسارة على أن نبحث وننقب ونجدد.

Thursday, January 24, 2019

خالد منتصر - ما هى العلمانية؟ - جريدة الوطن - 1/2019 /25

تُعد العلمانية من أكثر الكلمات فى قاموسنا اللغوى تعرضاً للظلم البيِّن والخلط الشديد، عن عمد أو عن جهل. وهى قد أصبحت وصمة عار لكل من يتلفظ بها، أما من يجرؤ على أن ينتسب إليها فقد اقتربت رقبته من مقصلة التكفير، وأصبح هدفاً لحد الردة، وكيف لا وهو منكر لما هو معلوم من الدين بالضرورة فى رأى دعاة الدولة الدينية؟!
والسبب فى هذا الموقف المعادى للعلمانية هو الخلط بينها وبين الإلحاد، أما السبب الأقوى فهو أن العلمانية ستسحب البساط من تحت أقدام المستفيدين من دعوة الدولة الدينية والمنظِّرين لها، فهى تدعو لحوار الأفكار على مائدة العقل، وتعريتها من رداء القداسة الذى يغطيها به هؤلاء الدعاة للوصول إلى أهدافهم. وهذا كله يجعل من المسألة مسألة بشرية بحتة، فإذا كان حديثهم عن البركة فى الاقتصاد الإسلامى حوّلته العلمانية لحديث عن محاولة خفض نسبة التضخم وزيادة الدخل القومى، وإذا كان كلامهم عن حكم الله حوّلته العلمانية إلى كلام عن الديمقراطية والدستور لتنظيم العلاقات بين البشر، فالله جل جلاله لا يحكم بذاته ولكن عن طريق بشر أيضاً لهم أهواؤهم ومصالحهم التى لا بد من تنظيمها، وإذا كانت قضيتهم هى قراءة الماضى، فقضية العلمانية هى صياغة المستقبل.
وفى السبعينات، ومع استعمال السادات للجماعات الإسلامية كمخلب قط ضد اليسار المصرى وسماحه بالخربشات فى جسد هذا التيار، والتى كان لا بد أن تتطور بعد ذلك إلى نهش فى جسد صاحب الدار والراعى نفسه الذى تصور أن القط ما زال أليفاً ولم يعد إلى أصله كنمر مفترس.. فى ظل هذا المناخ هوجمت العلمانية من حمَلة مباخر هذا النظام، مما دفع مفكراً كبيراً مثل د. زكى نجيب محمود إلى كتابة مقال فى جريدة الأهرام تحت عنوان «عين - فتحة - عا» محاولاً فيه تفسير معنى «العلمانية» التى كانت ملتبسة على الكثيرين، حتى إن مجرد نطقها بفتح العين أم بكسرها صار يمثل قضية تستحق الطرح على صفحات الجرائد، فيكتب زكى نجيب محمود، بوضعيته المنطقية الساعية لتحديد الألفاظ وفك الغموض عن معانيها: «سواء كان المتحدث مهاجماً أم مدافعاً، فكلاهما ينطق اللفظة مكسورة العين وكأنها منسوبة إلى العلم، مع أن حقيقتها هى العين المفتوحة نسبة إلى هذا العالم الذى نقضى فيه حياتنا الدنيا (……)، ولو كان الفرق فى المعنى بين أن تكون العلمانية مكسورة العين أو مفتوحة العين فرقاً يسيراً يمكن تجاهله لقلنا إنه خطأ لا يُنتج ضرراً كبيراً، ولكن الفرق بين الصورتين فى نطق الكلمة فرق لا يستهان به مما يستوجب الوقوف والمراجعة» (1).
ويعلل زكى نجيب محمود هذا بأن «كلمة العلمانية ليس لها وجود فى اللغة العربية قبل عصرنا الحديث، فالكلمة هناك لها عند القوم أهمية وتاريخ على عكس الحال عندنا» (2).
ويعترض د. فؤاد زكريا على الضجة التى أثيرت حول استخلاص كلمة العلمانية بفتح العين من العالم أو بكسر العين من العلم، ويعتبرها ضجة مبالغاً فيها لأن كلاً من المعنيين لا بد أن يؤدى إلى الآخر «فالشُّقة ليست بعيدة بين الاهتمام بأمور هذا العالم وبين الاهتمام بالعلم، وذلك لأن العلم بمعناه الحديث لم يظهر إلا منذ بدء التحول نحو انتزاع أمور الحياة من المؤسسات التى تمثل السلطة الروحية وتركيزها فى يد السلطة الزمنية، والعلم بطبيعته زمانى لا يزعم لنفسه الخلود، بل إن الحقيقة الكبرى فيه هى قابليته للتصحيح ولتجاوز ذاته على الدوام، وهو أيضاً مرتبط بهذا العالم، لا يدّعى معرفة أسرار غيبية أو عوالم روحانية خافية، ومن ثم فهو يفترض أن معرفتنا الدقيقة لا تنصب إلا على العالم الذى نعيش فيه ويترك ما وراء هذا العالم لأنواع أخرى من المعرفة دينية كانت أم صوفية (……) فالنظرة العلمية عالمانية بطبيعتها» (3).
ومع تنامى التيار الأصولى الإسلامى وتصاعد سطوته الثقافية والسياسية والاقتصادية على المجتمع المصرى، كان لا بد للعلمانيين أن يقدموا تعريفهم الخاص للعلمانية وأن يحاولوا فك الارتباط الشرطى بين العلمانية والإلحاد فى أذهان الناس، فالمشكلة كانت قد انتقلت من برودة الأكاديمية إلى سخونة الشارع، والأمر لم يعد أمر نطق بالفتح أو بالكسر، وإنما أصبح غزلاً وتملقاً للمشاعر الدينية باسم محاربة العلمانية. أصبح الأمر تخديراً مزمناً لكسب الجماهير المغيبة. هنا أصبحت محاولة التعريف ضرورة ملحة وليست ترفاً دراسياً.
والمأساة تكمن فى أن كل ما يكتبه التيار الأصولى الإسلامى يستقى تعريفاته من أصوليين آخرين، وتظل الدائرة مغلقة لا تسمح بأى تواصل حتى بقصد الفضول المعرفى.. فالأمانة العلمية تقتضيهم أن يستمدوا آراءهم عن العلمانية من تنظيرات العلمانيين أنفسهم لها. وعلى حد علمى أنه حتى الآن لم يربط علمانى واحد بين العلمانية وبين الإلحاد، فالعلمانية نظرة إلى المعرفة والسياسة، والإلحاد نظرة إلى الدين واللاهوت.
وبقراءة متأنية لكتابات رموز العلمانية المصرية الحديثة نستطيع أن نقرر هذه الحقيقة ونعرِّف العلمانية بالإيجاب وليس بالسلب.. بحقيقتها وليست بأنها هى التى غير الإلحاد، حتى لا يصبح العلمانيون دائماً فى موقف رد الفعل ودفع الهجوم، وحتى لا يقعوا فى الشراك اللزجة المنصوبة لهم من قبَل المعسكر الأصولى، الذى يجعلهم دائماً فى حالة استنفار مستمر وقسَم دائم بأغلظ الأيمان: ها نحن مؤمنون مثلكم بل وأكثر. وينتهى المزاد بفوز التيار الأصولى بالضربة القاضية لأنه جرّ العلمانيين من ساحة الواقع إلى حلبة الميتافيزيقا التى يجيد اللعب والمراوغة عليها.
وبداية لنتفق على الأصل اللغوى لكلمة العلمانية (4)، فالعلمانية هى المقابل العربى لكلمة «Secularism» فى الإنجليزية أو «Seculaire» فى الفرنسية، وأصول الكلمة تعنى يستولد أو ينتج أو يبذر أو يستنبت من الاهتمامات الدنيوية الحياتية، ومن هنا فإنها استُخدمت كصفة أيضاً لأصحاب هذه الاهتمامات الدنيوية، وللكلمة أيضاً دلالة زمنية (saeculum) فى اللاتينية بمعنى القرن، حيث إنها تصف الأحداث التى قد تقع مرة واحدة فى كل قرن، فالدقة الكاملة لترجمتها، كما يشير د. فؤاد زكريا، هى الزمانية لأن العلمانية ترتبط بالأمور الزمنية، أى بما يحدث فى هذا العالم وعلى هذه الأرض، فى مقابل الأمور الروحانية التى تتعلق أساساً بالعالم الآخر. وقد كان المترجمون الشوام قديماً يستعملون لفظ العلمانية كترجمة للكلمة الفرنسية «LAIQUE» أو الإنجليزية «LAICISM»، وهى المأخوذة عن اللاتينية «LAICUS»، أى الجماهير العادية أو الناس أو الشعب الذى لا يحترف الكهانة، تمييزاً لهم عن رجال الدين. والمفهوم الثانى -وإن كان لا يُستخدم الآن- يؤكد المفهوم الأول ولا ينفيه، فاللفظ قد تطور ليعبر عن التحول من حكم الأكليروس (الكهنوتى) إلى السيطرة المدنية (حكم الرجال العاديين) المعنيين بالشئون الدنيوية (الزمانية). هذا عن المعنى اللغوى الذى -كما رأينا- لا يعنى الإلحاد من قريب أو بعيد، بدليل أن القس الذى لا يخضع لنظام كنسى محدد يطلق عليه Secular priest أى قس عالمانى، وليس قساً ملحداً وإلا لكانت نكتة!
وسيرد المتربصون بالعلمانية ويقولون: «هذا هو تعريف الغرب المختلف عنا شكلاً ومضموناً، فماذا عن تعريفكم أنتم؟»، وإجابة السؤال هى أن تعريفات العلمانيين للعلمانية، شأن أى تعريف فى إطار العلوم الإنسانية، تختلف باختلاف وجهة النظر والمدرسة الفلسفية التى ينتمى إليها صاحب التعريف، ولكن فى النهاية تصب كل التعريفات فى مصب واحد.
وأول هذه الأنواع من التعريفات هو التعريف الذى يستند إلى علاقة العلمانية بالدين:
• «العلمانية ليست هى المقابل للدين ولكنها المقابل للكهانة» (5).
• «العلمانية هى التى تجعل السلطة السياسية من شأن هذا العالم والسلطة الدينية شأناً من شئون الله» (6).
• «العلمانية هى فى جوهرها ليست سوى التأويل الحقيقى والفهم العلمى للدين» (7).
ثانياً تعريف من حيث حقوق المواطنة وأسسها الدستورية:
• العلمانية لا تجعل الدين أساساً للمواطنة وتفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان.. هذه هى العلمانية دون زيادة أو نقصان فهى لم ترادف فى أى زمان أو مكان نفى الأديان (8).
• أسس الدولة العلمانية تتمثل فيما يلى:
أ - أن حق المواطنة هو الأساس فى الانتماء، بمعنى أننا جميعاً ننتمى إلى مصر بصفتنا مصريين، مسلمين كنا أم أقباطاً.
ب - أن الأساس فى الحكم هو الدستور الذى يساوى بين جميع المواطنين ويكفل حرية العقيدة دون محاذير أو قيود.
ج - أن المصلحة العامة والخاصة هى أساس التشريع.
د - أن نظام الحكم مدنى يستمد شرعيته من الدستور ويسعى لتحقيق العدل من خلال تطبيق القانون ويلتزم بميثاق حقوق الإنسان» (9).
ثالثاً: التعريف الشامل من وجهة نظر معرفية وفلسفية:
«التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق» (10) هذا هو تعريف العلمانية للدكتور مراد وهبة، والذى جاء فى معرض حديثه عن رسالة فى التسامح للمؤلف الإنجليزى جون لوك، الذى خلص إلى أن المعتقدات الدينية ليست قابلة للبرهنة ولا لغير البرهنة، فهى إما أن يُعتقد بها أو لا، ولهذا ليس فى إمكان أحد أن يفرضها على أحد، ومن ثم يرفض «لوك» مبدأ الاضطهاد باسم الدين، ويترتب على ذلك تمييزه بين أمور الحكومة المدنية وأمور الدين. ويقرر مراد وهبة أن هذا التمييز هو نتيجة للعلمانية وليس سبباً لها، فالعلمانية نظرية فى المعرفة وليست نظرية فى السياسة. وهذا التعريف يتفق، إلى حد كبير، مع تعريف آخر هو أن «العلمانية محاولة فى سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية» (11).
المراجع:
1- زكى نجيب محمود: عن الحرية أتحدث، ص 184، دار الشروق.
1- نفس المصدر السابق، ص 186.
2- فؤاد زكريا: الصحوة الإسلامية فى ميزان العقل، ص 46، دار الفكر.
3- انظر: فؤاد زكريا فى المصدر السابق، ومحمد رضا محرم فى مقاله عن العلمانية والكهانة ومستقبل العمل السياسى فى مصر، ص 11، مجلة «فكر»، عدد نوفمبر 1989، ومحمد سعيد العشماوى، مجلة القاهرة، عدد 121 ص 79.
4 - د. محمد رضا محرم، المصدر السابق، ص 11.
5 - د. محمد أحمد خلف الله، جريدة الأهالى، العدد رقم 603، ص 10.
6 - د. نصر حامد أبوزيد: نقد الخطاب الدينى، ص 9، دار سينا للنشر.
7 - د. غالى شكرى: أقنعة الإرهاب، ص 443، هيئة الكتاب.
8 - د. فرج فودة: حوار حول العلمانية، ص 27، دار المحروسة.
10 - د. مراد وهبة: مجلة إبداع، ص 9، عدد 6، 1992.
11- حسين أحمد أمين: دليل المسلم الحزين، وحول الدعوة إلى تطبيق الشريعة، ص 254.

Wednesday, January 23, 2019

خالد منتصر - تجميع المرسيدس ثقة لكن إعادة تصديرها مكسب - جريدة الوطن - 1/2019 /24

كتبت مشيداً بعودة الثقة فى قرار عودة تجميع المرسيدس، وقلت إننا لا نهتم بالسيارة المرسيدس فى حد ذاتها من ناحية الاقتناء لأنها من الممكن أن تكون سيارة تركبها فئة معينة فى مصر، وهذه المسألة ليست المقصودة ولا المهمة، لكنه الاعتراف بأن هذه السوق قد صارت مجالاً خصباً وموثوقاً فيه، لكنى فى حوار مع الصديق المثقف سياسياً واقتصادياً أحمد عبدالستار الطويلة، الذى عمل لفترة فى مجال السيارات، تحدث عن حلمه بإعادة تصدير المرسيدس المجمعة فى مصر وغيرها من السيارات وعدم الاكتفاء بالسوق المصرية لأننا نريد إضافة عملة صعبة للخزانة المصرية من خلال ذلك البيع خارج حدود مصر.
نبهنى صديقى، فبحثت فى الموضوع، وسألت أصدقائى المغاربة عن تجربة المغرب الثرية فى تصنيع وتجميع السيارة «رينو» هناك، والتى حققت نجاحات فى السوق الأفريقية، ومعظم من يركبون تلك السيارة فى مصر يعرفون أنها مصنوعة فى المغرب ولا يعتبرون ذلك نقيصة أو عيباً، ولذلك لا بد أن نتعلم من تجربة المغرب حتى يضاف إلى تلك الثقة فى السوق المكسب والربح والنمو الاقتصادى، لو صدرنا إلى ليبيا والسودان فقط السيارات المجمعة، وهما سوق متعطشة وكبيرة، ثم نمتد إلى أفريقيا خاصة بعد الاتفاقيات التى عقدناها مع دول كثيرة وإعادة الانفتاح على دول القارة بعد سنوات من العزلة المباركية.
هذه ليست أحلاماً شخصية لكاتب يكتب من غرفة مكتبه بعيداً عن الواقع، فتجربة المغرب ترد علينا وتهدينا الطريق وبالأرقام، المغرب الأولى عربياً، والثانية أفريقياً، والثامنة والعشرين عالمياً من حيث إنتاج السيارات، وتسعى إلى مضاعفة صادراتها من السيارات بعد أن تمكنت من تحقيق طفرة فى قطاع صناعة السيارات، وتجاوزت نسبة المكون المحلى فى صادرات قطاع السيارات 50%، بل تتجه إلى 65% بحلول 2023، المغرب صدرت سيارات بقيمة 70 مليار درهم «7.6 مليار دولار» خلال عام 2017 الماضى، ومن المقرر أن تبلغ صادراتها من السيارات بنهاية العام المقبل «2019» 100 مليار درهم «10.8 مليار دولار»، المغرب استطاعت فى الآونة الأخيرة بالتعاون مع شركائها الأوروبيين (شركتى «رينو» و«بيجو» الفرنسيتين)، والصينيين (شركة بى واى دى)، السيطرة على صناعات تركيب السيارات، ورفع جودة المكون المحلى فى السيارات، فضلاً عن تأمين احتياجات السوق المغربية من قطع الغيار، وزير الصناعة والتجارة المغربى توقع أن تصل قيمة إجمالى استثمارات المغرب من السيارات إلى 30 مليار دولار فى القريب العاجل، وأعلنت شركة رينو الفرنسية مؤخراً، أن مصانع «رينو المغرب» حققت إنجازاً كبيراً من خلال تصدير 376 ألف سيارة وتسويق 70 ألف سيارة فى السوق الداخلية خلال العام الماضى، مشيراً إلى أن المجموعة مقبلة على الرفع من قدراتها الإنتاجية فى المغرب، وأكدت على الأهمية التى تمثلها أفريقيا بالنسبة لصناعة «رينو» للسيارات بالمغرب، مشيراً إلى أن حصة مجموعة «رينو» فى السوق الأفريقية بلغت 17% خلال العام الماضى بتسويقها لنحو 200 ألف سيارة فى الأسواق الأفريقية.
أقترح دراسة التجربة المغربية فى تصدير السيارات المجمعة وزيارة المصانع هناك والاجتماع بين وزير الصناعة المصرى والمغربى، وأعتقد أننا لدينا الكفاءة فى الانطلاق بتلك الصناعة إلى آفاق متجاوزة.

خالد منتصر - الدين لا يحتاج إلى حراسة - جريدة الوطن - 1/2019 /23

ما زلنا نؤكد كل يوم أننا لا بد أن نحسم الإجابة عن سؤال مهم، وهو: «هل نحن دولة مدنية أم دينية؟»، وذلك لأننا من خلال بعض الممارسات على الأرض نلاحظ أننا قد صرنا دولة مدنية بالاسم، ودينية بالممارسة، آخر تلك الممارسات ما حدث من الأزهر وهيئة كبار العلماء فى قانون الأحوال الشخصية وصياغتهم لمواده بعيداً عن البرلمان أو سبقاً وتجاوزاً لمهامه، وقد أكد شيخ الأزهر فى حواره الأسبوعى للفضائية المصرية الفلسفة التى تقف خلف هذا التصرف عندما قال:
«الأزهر يؤدى واجبه، حين يتصدى لإعداد مشروع قانون الأحوال الشخصية، ولن يفرط فى رسالته قيد أنملة فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية والقرآن الكريم وسُنة النبى»، وقال أيضاً:
«الأزهر حين يتصدى لإعداد مشروع قانون الأحوال الشخصية، فهو يزاول عمله وواجبه بحكم الدستور والقانون، وحتى بحكم قبول الناس»، وأكد فى النهاية أن «الأزهر لن يفرط فى رسالته قيد أنملة، فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية، وفيما يتعلق بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم»، وأضاف: «نحن حراس على هذه الأمانات».
لغة ربط القانون الذى هو نسبى ومتغير ومرن وقابل للتعديلات بألفاظ تحمل رائحة المعارك، مثل: لن نفرط، وقيد أنملة، وحراس الدين.. إلخ، هى لغة تنفى الحوار، وبداية: الدين يحميه ويحرسه الله، وليست المؤسسات الدينية، وكل الدماء التى سالت فى تاريخ المسلمين أنهاراً بل محيطات، سالت نتيجة أن كل فريق ادعى أنه يحرس الدين ويحرس الأمانة، والسؤال لفضيلة الإمام الجليل: مَن كان يحرس الدين والأمانة فى معركة الجمل؟، هل هو إمام المتقين والمبشر بالجنة على بن أبى طالب، أم السيدة عائشة زوجة الرسول ومعها الزبير وطلحة المبشّران بالجنة أيضاً؟!، ومَن كان يحرس الدين والأمانة فى صفين؟، علىّ كرم الله وجهه، أم معاوية كاتب الوحى، هل هو عمار بن ياسر، أم ابن خالد بن الوليد؟، هل محمد بن أبى بكر، أم شقيقه الذى فى معسكر وجيش الخصوم؟، عبدالرحمن بن ملجم عندما قتل عليّاً بن أبى طالب قتله من منطلق حراسة الدين، كل الرؤوس المقطوعة للصحابة فى الحروب الإسلامية وكل الجثث المصلوبة على أبواب المدن والعواصم كانت باسم حراسة الدين يا فضيلة الإمام، الدين ليس خزانة بنكنوت لكى يُحرس، وليس كومباوند يحتاج إلى كشك حراسة، على العكس، فالدين هو الذى يحرسنا من انتهاك الروح، الدين لا يحتاج إلى حراسة، بل يحتاج إلى فهم، ثانياً وعلى أرض الواقع والتجربة العملية، ماذا حدث حين عرض الرئيس السيسى لخطورة قضية الطلاق، وطالب بتوثيق الطلاق الشفهى؟، ما حدث هو أن هيئة كبار العلماء قد اجتمعت ورفضت، لماذا؟، لأن الفقيه فلان والشيخ علان والداعية ابن فلان وعلان لم يقولوا ذلك، ولم يذكروه فى كتبهم المكتوبة على الجلد والعظام منذ ألف سنة!، ولتحترق وتدمر وتخرّب البيوت المصرية، لأن العنعنات لم تسعفنا بالحل!، لا نحتاج إلى مؤسسات تحرس الدين، فالله قد تعهد بالحفظ، ولكننا نحتاج إلى مؤسسات تحرس المواطن من الوصاية.

Monday, January 21, 2019

خالد منتصر - السيارة مرسيدس تعود وترجع إلى الأمام! - جريدة الوطن - 1/2019 /22

هل عودة شركة «مرسيدس» لاستئناف نشاطها فى مصر هو مجرد زيادة فى عدد تلك السيارات باهظة الثمن التى يركبها الأثرياء فقط؟!
إذا فهمنا الأمر كذلك وروجنا له على هذا النحو فنحن ننظر من منظار ضيق جداً وزاوية رؤية مضللة جداً جداً، مرسيدس ليست مجرد شركة ولكنها فى هذه الحالة إشعاع ثقة ورسالة أمان ودعوة للعالم أجمع أن الاستثمار فى مصر واعد، فعودة شركة بتلك المكانة والضخامة والقوة هى اعتراف ضمنى للعالم بأن المناخ الاقتصادى قد تغير فى مصر وأن الثقة قد عادت، هذه الشركة لا تلقى برأسمالها فى الهواء والخواء وإنما تحسبها بالربع يورو، والشكر لا بد أن يوجه لكل من ساهم فى نجاح تلك المفاوضات، بداية من رئيس الجمهورية شخصياً، الذى أشرف بنفسه على كل تفصيلة فى المفاوضات مما منح مسئولى الشركة الاطمئنان والثقة، مروراً بوزارة الخارجية وزيراً وسفيراً، الوزير سامح شكرى بجولاته المكوكية والسفير بدر عبدالعاطى بدأبه وذكائه وعشقه الجارف لوطنه مصر.
وكانت شركة «مرسيدس- بنز» قد أصدرت بياناً باللغتين الإنجليزية والألمانية حول استئناف نشاط الشركة فى مصر وتضمن عدة عناصر: استئناف نشاط الشركة فى مصر من خلال خط إنتاج سيارات الركوب الذى سبق أن أعلنت «مرسيدس» عن وقف العمل به عام 2012/ دعم شركة «دايملر» لمصر فيما يتعلق بنقل خبراتها لمصر فى مجالات وسائل التنقل الحديثة، بما فى ذلك وسائل النقل الكهربائية والسيارات الكهربائية والقيادة الذاتية/ عرض الشركة تقديم خبراتها لمصر فيما يتعلق بالعاصمة الإدارية الجديدة وإنشاء المدن الذكية. كما تضمن البيان اقتباساً على لسان «ماركوس شيفر» يشير إلى أن «مصر تتمتع بموقع تنافسى جذاب بالنسبة للإنتاج والدعم اللوجيستى»، وهو ما يمثل شهادة مهمة جادة لمركز مصر التنافسى.
ولا شك أن لقاء السيد الرئيس بـ«ماركوس شيفر»، عضو مجلس إدارة شركة «مرسيدس»، فى 6 ديسمبر 2018، كان له الأثر الأكبر فى تذليل العقبات التى كانت تحول دون عودة الشركة، وما لمسه مسئول الشركة رفيع المستوى من مصداقية وثقة كبيرة فى حديثه.
وإذا كان إعلان شركة «مرسيدس» الخروج من السوق المصرية عام ٢٠١٢ والإغلاق النهائى لخط الإنتاج عام 2015 قد أثر بالسلب على مناخ الاستثمار فى مصر وعلى صورتها كدولة جاذبة للاستثمارات الأجنبية، فإن عودة الشركة لاستئناف الإنتاج فى مصر سيكون لها دون شك تأثير إيجابى للغاية على مكانة مصر التنافسية وقدرتها على جذب الاستثمارات، الأمر الذى سينعكس بالإيجاب -طبقاً لما ذكره مسئول «مرسيدس» فى حديثه مع السفير المصرى بدر عبدالعاطى- على مستقبل تصنيف مصر طبقاً للمؤسسات المالية الدولية والتى تتابع بكل دقة أى إعلان يصدر عن شركة عملاقة بحجم شركة «مرسيدس- بنز» بشأن خطط إنتاجها بالخارج.
ومما لا شك فيه أيضاً أن تأثير هذا القرار لا يقتصر فقط على مجرد عودة «مرسيدس- بنز» لإنتاج سيارات الركوب فى مصر، وإنما وضع أسس لشراكة حقيقية مع مصر فى مجالات جديدة ترتبط بالعاصمة الإدارية الجديدة وإنشاء المدن الذكية ومجالات التنقل الحديثة ووسائل التنقل الكهربائية بما فيها السيارات الكهربائية والسيارات ذاتية القيادة، بما يعنى دخول مصر فى عصر جديد لنظم النقل الحديثة ويتسق مع رؤية مصر فى هذا الشأن، ويجعل مصر مركزاً لصناعة السيارات فى المنطقة مستفيدة من موقعها الاستراتيجى وتوسيع قناة السويس وإنشاء منطقة اقتصادية.
كما لا يخفى ما يمثله هذا القرار من رسالة إيجابية للغاية لمجتمع الأعمال فى العالم، بما سيسهم فى مزيد من تدفق الاستثمارات إلى البلاد، لذلك نقول على عكس العبارة الشائعة (تحذير.. السيارة ترجع إلى الخلف)، «بشرى.. مرسيدس ترجع إلى الأمام».

فى فِقه الدهشة... وقتلها! بقلم فاطمة ناعوت ٢١/ ١/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم


وعدتُكم «الخميسَ» الماضى فى عمودى هنا، بأن أحكى لكم حكايتى مع «الدهشة». الحكايةُ بدأتْ بحيلةٍ طفولية علّمنى إياها أبى، تتلخّصُ فى: «الاحتفاظ بالدهشة»، و«قتل التعوّد». بشىء من الخيال، اخلقْ مسافةً بينك وبين الأشياء، حتى تراها بكرًا، وكأنك تراها للمرّة الأولى. أدركتُ الفلسفةَ المحترمة التى قصدها أبى، فآمنتُ بها وجعلتها مبدأً راسخًا فى حياتى أطبّقه وأتمرَّنُ عليه كلَّ يومٍ لئلا أفقده وسط زحام الحياة. المبدأ: كبحُ الاعتياد. عدم الاعتياد على القبيح، وعدم الاعتياد على الجميل. فحين أرى سلوكًا قبيحًا يكرره معظمُ الناس، حتى صار يوميًّا وطبيعيًّا، لا أسمحُ لنفسى بأن أراه مثلهم: «طبيعيًّا» و«يوميًّا». بل أظلُّ أندهشُ من حدوثه كأننى أراه للمرة الأولى، فأقاومه. وحين أرى شيئًا جميلا، اعتاده الناسُ، حتى أصبحوا لا يلمحون فيه أى جمال، أمنع نفسى من الاعتياد عليه، لكى أظلَّ أراه «مدهشًا» كلما لمحتُه. إن شاهدتُ شخصًا يرمى ورقةً فى الطريق، أوقفه وأعنّفُه كأنه الإنسانُ الأول فى التاريخ الذى يرتكب تلك «الخطيئة». وإن صادفتُ زهرةً، أتحسَّسُ ورقاتها باندهاش، كأنها المرةُ الأولى التى أرى فيها تلك المعجزة الكونية الهائلة: «الزهرة»، فأقبض على متعة الدهشة الأولى. لو لم تندهش من القبح، لن تقاومه، وقد ترتكبُه مع الأيام. ولو لم تندهش من الجمال ستفقدُ بهجة مشاهدته مع الوقت، فيصيرُ عاديًّا. أتعمّدُ أن أخلقَ مساحةً تفصلنى عن الأشياء حتى أراها بوضوح، بدون حجاب «العادة». فيظلُّ الجميلُ مدهشًا، ويظلُّ القبيحُ بغيضًا. فأبتهج بالأول، وأقاوم الثانى.
سمعتُ أغانى فيروز آلاف المرّات. ولكننى كلما سمعتُها تقول: «حبيبى بِدّو القمر والقمر بعيد»، أندهشُ من عبقرية كلمات ترسمُ (صَبيّةً تصعدُ فوق سطح البيت، وتسهر عشرَ ليال، حتى تسرقَ القمرَ لحبيبها. وتخافُ أن تنعسَ فينزلُ القمرُ وهى غافيةٌ، وتسرقه جارتُها، وتعطيه لحبيبها، فيُحبُّها، وينسى حبيبتَه الأولى التى ثابرت لتهديه القمر!)، أى أسطورية فى الكلمات، والصور، والموسيقى والغناء؟!، أى طفولةٍ مدهشة كتبت ذلك الإعجاز!، لو سمعتُ تلك الأغنية للمرة المليون، سيظلُّ اندهاشى من عزوبتها، بنفس قدر الاندهاشة الأولى.
يقول الإنجليزُ: «الأرستقراطى هو الشخصُ الذى لا يُبدى دهشتَه لما يرى. فالدهشةُ بدائيةٌ وفقرٌ فى الثقافة والتحضّر». وأنا، وفق ذلك التعريف الكلاسيكى المحافظ، أبعدُ الناس عن الارستقراطية والثقافة. فأنا أُدهشُ لأمور قد لا تُدهشُ الطفلَ من فرط تكرارها. أندهشُ كلما شاهدتُ شخصًا يمسكُ قلمًا ليخطَّ شيئًا على ورقة، أو طبشورًا يكتب به على سبّورة!، ذلك الشخصُ الآن يُحوِّل شيئًا غامضًا فى رأسه، اسمه «فكرة»، إلى رموزٍ وأشكال اسمها: «حروف»، ثم يرسم تلك الأشكال بأداة صغيرة فى يده اسمُها: «قلم»، ويسكبها فى وعاء اسمه: «ورقة». فيأتى شخصٌ آخرُ من مكان بعيد، يعثر على تلك «الورقة»، وينظر فى تلك «الحروف»، فيشاهدُ ما فى دماغ الشخص الأول!، معجزةٌ حقيقية، عابرةٌ للزمان والمكان. فأنت حين تفتح كتابًا وتقرأ مسرحية لشكسبير، فكأنما تتلصَّصُ على عقل رجل مات منذ خمسة قرون!، هى المعجزةُ ذاتُها التى ستجعلكم ترون ما فى عقلى الآن، يوم نشر هذا المقال «الاثنين»!، والمشكلةُ عندى، أو قُل: «النعمةُ»، هى أننى لا أفقد الدهشةَ مهما تكرر الأمرُ أمامى آلاف المرات، بسبب تعطُّل التراكم المعرفى لدى. وذلك التعطيلُ عمدى متعمَّدٌ ومقصود. إنها محاولة التشبّثُ بـ«الدهشة»، التى أعتبرُها خيطَ الفرح الذى يربطنا بالحياة. احسبوا معى كم سأفقدُ من بهجة لو توقفتُ عن الدهشة كلما شاهدتُ قلمًا يكتب؟!، وقيسوا على هذا آلافَ الأشياء. فإذا جلستَ أمام مروحة، بوسعك أن تتخيل نفسك أحدَ ملوك فرنسا فى عصر الباروك، أو خليفةً عباسيًّا تحيط بك الجوارى الحِسان والخدم «يُمَروِحون» عليك بريش النعام، دون أن يُفقدوك خصوصيتَك باختلاسهم النظر إلى طعامك وشرابك ونومك وصحوك، ودون أن يُفسدوا هواء الغرفة بالتنفس معك! تخيّلْ هذا، واندهشْ، وافرحْ.
ومثلما تُدهشنى معجزاتٌ صغيرة مبهجةٌ مثل القلم والممحاة والمقصّ والمشط والمرآة وفيروز، تُدهشنى معجزاتٌ كونيةٌ كبرى مثل الطمى الأسود ينشقُّ عن زهرة ملونة، أو دودة تتكوَّر على نفسها داخل سجن الحرير، ثم تخرجُ فراشةً ملونّةً تطير. ومثلما تُبهجنى تلك المُفرحات، توجعنى مُدهشاتٌ أخرى وتملأ قلبى باليأس. مثل معجزة الإنسان الذى عمّر الأرضَ ملايين السنين، ولم ينجح بعد فى الكفِّ عن القتل والكذب والظلم!، كأن الزمانَ لا يمرُّ، وكأننا لم نتعلم بعد حقيقةَ أن الجمال وحده سيصلحُ هذا العالم!، كم مليون سنة يحتاج الإنسانُ فوق كوكبٍ، ليغدو جميلاً وفاضلاً؟! وكالعادة: «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».

Saturday, January 19, 2019

خالد منتصر - سلامى عليك يا زمان - جريدة الوطن - 1/2019 /20

دائماً ما كان يبهرنى قلم صلاح عيسى، ولو انطبق وصف السهل الممتنع على أحد من الكتاب سيكون أفضل نموذج هو صلاح عيسى، سواء اتفق القارئ أو اختلف مع موقفه السياسى، إلا أنه أستاذ فن المقال الصحفى بامتياز، رشاقة الكلمة وخفة ظل الأسلوب وعمق المعنى وفيض المعلومات التاريخية، يخرج لنا فى النهاية مقالاً برغم دسامته فهو سهل الهضم والقراءة، لا تستطيع أن تتركه إلا مع آخر حرف، لذلك سعدت بإصدار كتاب «سلامى عليك يا زمان» الذى أصدرته دار الكرمة، وهو تجميع لعدة مقالات متفرقة لصلاح عيسى فى الثمانينات فى عدة جرائد عربية مختلفة، والمقدمة لرفيقة دربه المخلصة الكاتبة أمينة النقاش، مفاجأة هذا الكتاب هى قدرة صلاح عيسى الفذة على كتابة الشجن بنفس قدرته على الكتابة الساخرة، وكأن روح الدعابة التى كان يتمتع بها «صلاح» هى مجرد قناع يخفى تحته مرارة الحزن وملح الدمع، يكفى أن تقرأ رثاءه البديع فى صديق سجنه محمد عبدالسلام الزيات وهو يقول «هربت إلى الشرفة خجلان من غلالة دمع انسدلت فوق عيونى، أتأمل من خلال أستارها أفقاً ينزف دماً، وأتابع سرباً من العصافير يرحل غرباً، سألتها أن تقبل عنى جبينه المسجى، أصبحت أخبار موت الأصدقاء يا عصفورتى قهوتنا الصباحية، غدت أحضانهم سراباً، والصقيع يزحف، وأين أجد يا عصفورتى فى زمن أكل الجفاف خضرته، والتهم الجراد كل مسراته، فيضان الدمع الذى يليق بحرقة القلب على رحيل رجال مثل أمل دنقل وشادى عبدالسلام والزيات، أما الوجيعة المستكنة فى الضلوع فهى أنهم يرحلون بلا بدائل».
اكتشاف جديد ستكتشفه فى منجم صلاح عيسى الذى لا ينضب كنزه، فى نفس الوقت الذى يتحدث فيه عن الراحل حافظ بدوى بقلمه الساخر، يتحدث عن لقبه «حافظ الميثاق» وكيف أن حفظه للميثاق أوصله لأعلى منصب تشريعى فى البلاد، وكيف كان فى محطة من محطات رحلته مسئولاً عن تنظيم الأسرة وعنده أحد عشر طفلاً!، ويكتب عن فوضى المؤتمرات السياسية الوهمية، والأيديولوجية الكاريوكية الراقصة، والتكنولوبيا العربية، وعن الجنون الإيجابى الأفضل ألف مرة من العقلانية المناورة، الكتاب متعة فنية وذهنية، ترى صلاح عيسى وهو يتحدث فى التاريخ وتفاصيله كالجبرتى، ويستخدم الشعر ويوظفه بمهارة أستاذ فى الأدب، ويكتب نثراً برشاقة وعذوبة شعر «نزار» وحِدَّة أحمد فؤاد نجم، ويرسم بسن القلم كريشة صديقه ناجى العلى الذى اغتيل غدراً، ويأخذنا معه فى رحلاته وكأنه «ابن بطوطة»، ويحفر فى أعماق البشر البسطاء والفهلوية والمنشيين والأرستقراط بعين ثاقبة كاشفة فاضحة وكأنها أشعة كتابة سينية، صلاح عيسى قلم ليس له بديل ولا مثيل، والكتاب باقة ياسمين لصلاح عيسى الذى لن ننساه، لأن من هم مثله فى إبداعه لا يموتون.

الدول ومصالحها بقلم د. عماد جاد ٢٠/ ١/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

تبنى علاقات الدول بالأساس على قاعدة المصالح، ولا تمثل الروابط الدينية والعرقية والطائفية ركنا أساسيا من أركان تحديد مستوى علاقات الدول، فحيثما تتواجد المصالح تقام العلاقات وحيثما تكثر المصالح تتكثف العلاقات. يحلو للبعض فى عالمنا العربى الحديث كثيرا عن الروابط الدينية، والعرقية واللغوية بين الدول العربية، وأنها تمثل أساسا قويا لبناء نمط من العلاقات يفوق ما هو موجود بين دول العالم الأخرى، يحلو لهم الحديث عن الانقسامات الدينية والطائفية واللغوية بين الدول الأوروبية، وأن العالم العربى لا يموج بمثل هذه الانقسامات، ومن ثم يتوافر أساس متين لتطوير التعاون بين الدول العربية ويمكن أن يصل فى تصور إخواننا القوميين إلى درجة الوحدة الشاملة. وهنا نقول بوضوح إن الروابط المشتركة من لغة وعرق ودين تمثل عاملا مساعدا على إقامة علاقات، لكن درجة تطور هذه العلاقات وقوتها تتوقف على ما بين هذه الدول من مصالح مشتركة، ولكنها ليست شرطاً كافيا لتطوير العلاقات فى حال عدم وجود مصالح، كما أن تضارب مصالح وتنافرها يمكن أن يؤدى إلى تدهور العلاقات بل يصل إلى درجة الحرب. خذ على سبيل المثال موقف إيران (الدولة الشيعية) من الحرب بين أذربيجان (الشيعية) وأرمينيا (المسيحية الأرثوذكسية) فقد قامت إيران خلال الحرب بنقل السلاح الروسى إلى أرمينيا حتى تسيطر تماما على إقليم ناجورنوكاراباخ المتنازع عليه بين الدولتين، لماذا ساندت إيران دولة مسيحية أرثوذكسية فى حربها ضد دولة مسلمة شيعية؟، إنها المصالح، فشبكة المصالح الإيرانية مع روسيا أقوى وأكبر وأهم من مصالحها مع أذربيجان ومن روابطها الدينية والطائفية. وفى الوقت الذى يتغنى فيه العرب بروابط اللغة والدم والدين، لم ينجحوا فى تطوير تجربة التعاون الإقليمى لديهم (الجامعة العربية) بينما نجحت دول غرب أوروبا على ما بينها من انقسامات لغوية وطائفية وقومية فى بناء تجربة رائدة فى العمل الإقليمى المشترك وهى تجربة الاتحاد الأوروبى، هذه الدول حاربت بعضها بعضا ودخلت حربين عالميتين وتحديدا بين فرنسا وألمانيا، ولم يكن غريبا أن تبدأ التجربة على أساس المصلحة ومن خلال جماعة الفحم والصلب التى مثلت التعاون بين منطقتى الألزاس واللورين الحدوديتين بين فرنسا وألمانيا، وتطورت التجربة حتى صارت أنجح تجارب العمل الإقليمى المشترك وبدأت تتجاوز الأدبيات النظرية التى تؤطر للعمل الإقليمى المشترك، والتى كانت تقول بأن هذا النمط من التعاون الإقليمى ينحصر فى المجال الاقتصادى ولا يتضمن السياسة الخارجية والأمن، ما حدث هو أن تجربة الاتحاد الأوروبى بدأت تطرق مجال توحيد السياسات الخارجية للدول الأعضاء كما بدأوا بحث تجربة تشكيل بنية أمنية مشتركة وهو التعبير الأوروبى عن نواة تشكيل جيش مشترك على النحو الذى عبر عنه مؤخرا الرئيس الفرنسى ماكرون.
لم يتغن الأوروبيون بما بينهم من روابط، ولم يتحدثوا عن الماضى العريق، فقد وضعوا أساس تجربة أخذت فقط بالمدخل الاقتصادى، ركزت على تنمية المصالح المشتركة وتطويرها، جعلوا التجربة قائمة بالأساس على المصالح المتبادلة، فنجحت التحربة وباتت جاذبة لكافة الدول الأوروبية، توسعت التجربة حتى وصل عدد الدول الأعضاء إلى٢٧ دولة وتلهث الدول التى لم تنضم بعد من أجل استيفاء شروط ومعايير الانضمام لأنها ترى فى عضوية الاتحاد الأوروبى منافع كثيرة لها كدولة ولمواطنيها.
هذا فى الوقت الذى يتغنى العرب فيه بالروابط المشتركة، بينما التفاعلات بينهم عدائية صراعية، علاقاتهم مع بعض دول الجوار غير العربية أفضل كثيرا من علاقاتهم البينية، بل إن بعضهم يتعاون مع دول جوار غير عربية ضد مصالح دولة عربية أخرى، وربما هذا هو الشائع.
أخفقت الدول العربية فرادى - عدا الإمارات العربية المتحدة- فى بناء تجربة تنموية حقيقية أو إرساء أسس الدولة المدنية الحديثة، دولة القانون، لأنها اتخذت لنفسها مهام ليست من مهام الدول مثل تحديد دين للدولة، ممارسة سياسات التمييز على أسس عرقية، دينية أو طائفية، انتشار الفساد والمحسوبية، تديين المجال العام كغطاء لممارسة كافة أنواع الغش والسرقة وانتهاك حقوق الإنسان، ووفق هذه المعادلة لم يكن ممكنا أن تبنى هذه الدول تجربة عمل إقليمى مشترك ناجحة، فحسب طبيعة النظم وعلاقتها بالديمقراطية وحقوق الإنسان تكون طبيعة عملها الإقليمى، وتكفى نظرة سريعة على واقع الحال فى غالبية الدول أعضاء الجامعة العربية لتقول لنا إن نتاج عملها الإقليمى سيظل يدور فى فراغ.


الأنبا موسى يكتب: الشخصية المتكاملة ٢٠/ ١/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

يمر الشباب بثلاث مراحل:
١- المرحلة الثانوية: ويسميها علماء التربية «مرحلة الذات»، حيث ينضج الشباب جسديًا، ويدخل إلى الرجولة (والفتاة تدخل إلى الأنوثة)، ومن هنا تتضخم الذات وتنمو، فيصير حساساً لأى إساءة أو إهانة، كما يشعر بأنه قادر على أن يتخذ قراراته وحده، دون تدخل أسرته، وربما متأثرًا بأصدقائه. ونحن نحب أن نسميها «مرحلة تكوين الشخصية»، أى أن نساعد المراهق على تكوين شخصيته بحيث:
- تشبع روحيًا.      - تستنير فكريًا.           - تنضبط نفسيًا.     - تصح جسديًا.          - تنجح اجتماعيًا.
لهذا يجب أن نقدم لهذه المرحلة نشاطات عديدة: روحية، وثقافية، وترفيهية، واجتماعية، حتى تتكامل شخصيته فى كل زواياها.
٢- المرحلة الجامعية: ويسميها علماء التربية «مرحلة الصداقة الوثيقة»، ففيها يتعرف الشباب إلى أصدقاء من الجنسين. وفترة الدراسة الجامعية أطول من الدراسة بالمرحلة الثانوية، وفيها اختلاط وانطلاق واستقلالية عن الأسرة... إلخ.
وهذا يعطيهم فرصة تكوين صداقات وثيقة مع آخرين، فى دور العبادة والجامعة. وربما يفكر الشباب فى اختيار شريك الحياة فى هذه المرحلة المبكرة، ونحن دائمًا ننصحهم بأن يجتازوا مرحلة «الجنسية الغيرية العامة» (تحت العشرين)، أى الاهتمام بالجنس الآخر بصورة عامة، ينتقل بعدها الشباب إلى «الجنسية الغيرية الأحادية»، أى النضج اللازم لكى يختار شريك الحياة.. وهذه المرحلة تبدأ بعد العشرين. ومن واجب دور العبادة والمجتمع تقديم دراسات لهذه المرحلة حول «التعامل السليم مع الجنس الآخر»، وحول «النضج اللازم للارتباط»، «الاستعداد السليم للزواج».
٣- مرحلة الخريجين: (من٢٠ - ٤٠) ويدعوها علماء التربية «مرحلة الخصوبة»، إذ فيها يتم الزواج (الخصوبة الجسدية وإنجاب الأطفال)، وينمو الشباب فى الدراسة (الخصوبة العلمية والنجاح فى الماجستير والدكتوراه)، كما ينمو أيضًا فى العمل (النجاح العملى والتقدم فى الكادر الوظيفى)، وكذلك الخصوبة الروحية، إذ ينضج الشباب روحيًا، وفى هذه المرحلة قد يصير له دور فى النشاطات الخدمية، أو يتم التفرع الكامل للخدمة... إلخ. ودور الكنيسة والمسجد هو أن تجهز الخريجين والخريجات للحياة العملية والمجتمعية، بقضاياها وإيجابياتها ومشكلاتها اليومية، وأن تساعدهم فى تنمية دخلهم المادى، وتجهزهم لعقد زيجات جيدة، وتكوين أسرات ناجحة.
■ ■ ■
من هذا كله تتضح أهمية تكوين شخصيات متكاملة قادرة على التفاعل مع الداخل الإنسانى بعواطفه وغرائزه وعاداته وحاجاته، وكذلك مع الخارج الإنسانى: فى الأسرة، ودور العبادة، والصداقة، والمجتمع، وهكذا نعدهم لتكوين أسرٍ ناجحة.
فما هى أبعاد الشخصية المتكاملة؟ وكيف نقتنيها؟
■ ■ ■
أولاً- أبعاد الشخصية المتكاملة:
فى الشخصية الإنسانية ٥ مكونات هى:
١- جسد.. يتحرك.  ٢- نفس.. تحسّ وتشعر. ٣- عقل.. يفكر. ٤- روح.. تصلى. ٥- علاقات.. تُصنع.
ومن المهم أن تتكون لدينا شخصيات متكاملة، سماتها كما يلى:
١- روح شبعانة بالتدين. ٢- ذهن مستنير بالثقافة. ٣- نفس منضبطة بالاجتهاد. ٤- جسد صحيح: بالسلوك المستقيم، والغذاء والدواء. ٥- علاقات ناجحة.
ويجب أن تتكامل الشخصية، أى أن تتواجد فيها هذه العناصر الخمسة. ويجب أيضاً أن تتناسق الشخصية؛ بحيث لا يطغى عنصر على العناصر الأخرى. فلا يصح للإنسان المتدين أن يهمل جسده؛ فيتركه للذبول والمرض، ولا للإنسان المفكر أن يهمل الرياضة والترويح... إلخ.
يجب أن تشبع كل العناصر الخمسة بطريقة متناسقة. كذلك يجب أن تبدع الشخصية بنعمة الله والاجتهاد الإنسانى، فيكون لها حضورها ودورها فى المجتمع الأسرى والدينى والعام... ويجب أن تشع الأسرة نورها الداخلى، من خلال التعاملات اليومية، فتصير نورًا، وملحًا، ورسالة حية، معروفة ومقروءة من جميع الناس، رائحة زكية يفرح بلقائها كل من يتعرف عليها، بسبب الله العامل فيها، فالمطلوب إذن هو:
١- التكامل: حضور كل العناصر الخمسة فى الشخصية الإنسانية. ٢- التناسق: لا يطغى عنصر على العناصر الأخرى.
٣- الإبداع: تكون الشخصية حاضرة ومؤثرة ومبتكرة. ٤- الإشعاع: يكون للإنسان دور فى الأسرة ودور العبادة والمجتمع.
ثانيًا- كيف نقتنى الشخصية المتكاملة؟
١- الروح الشبعانة: التى تشبع بالإلهيات. والتدين يكون من خلال:
أ- شركة الصلاة.   ب- الاجتماعات الدينية.       ج- دراسة الكتب المقدسة.       د- القراءات الدينية. هـ- الصلوات المستمرة.
فمن خلال هذه الوسائط تشبع الروح الإنسانية بالإلهيات، وينطبق عليها قول سليمان الحكيم: «اَلنَّفْسُ الشَّبْعَانَةُ تَدُوسُ الْعَسَلَ» (أم ٧:٢٧)، أى أنها تكون قادرة على رفض عسل الخطيئة، وبخاصة أنه عسل مسموم!
٢- الذهن المستنير: وأذهاننا تستنير بثلاثة مصادر:
أ- الثقافة الدينية: فدراسة وقراءة الكتب المقدسة تنير الفكر، وتقدس الكيان الإنسانى، حيث يتعرف الشباب على أبعاد الحياة المتدينة ومصادرها.
ب- الثقافة العامة: حيث دراسة التاريخ، والسياسة، والاقتصاد، وعلم النفس والتربية وعلم الاجتماع، والفلسفة... إلخ، كمعرفة عامة، ويستحسن أن يتخصص الشاب فى واحدة منها.
ومن خلال هذه الثقافة الثنائية (الدينية والعامة) يستنير ذهن الشباب، فيميزون بين الغث والسمين!.
■ ■ ■
٣- النفس المنضبطة: والنفس عبارة عن خمسة مكونات، وهى:
أ- الحاجات النفسية: كالحاجة إلى الأمن، والحب، والانتماء، والخصوصية، والمرجعية، وتحقيق الذات.
ب- الغرائز: كالجوع والعطش والخوف وحب الحياة والجنس والأمومة والأبوة وحب الاستطلاع وحب الزيارات... إلخ.
ج- العواطف: نحو أشياء أو أشخاص أو صفات معينة.. ينفعل بها الإنسان، ويتكرر الانفعال، فيثبت ويتحول إلى عاطفة.
د- العادات: إذ يكرر الشباب أمرًا ما، فيصير عادة، سواء كانت إيجابية أو سلبية. وقديمًا قالوا: «الشخصية مجموعة عادات تمشى على قدمين»!
هـ- الاتجاهات: أى ما فى أعماق الإنسان من توجهات معينة سائدة، تظهر فى حياته اليومية: كالاهتمام بالصلاة والدراسات الدينية وخدمة الآخربن، أو- بالعكس- الاهتمام بالمادة أو الذات أو اللذات.
والشخصية السليمة تتكون بعمل الله فينا وبالاجتهاد الإنسانى- هذه النفس بمكوناتها- فتقودها حسنا، فى تغليب للروح على الجسد، وعمل الله على الروح الإنسانية.
وهكذا يقود الإنسان (بروحه وبعقله) الغرائز والحاجات النفسية، وكذلك العواطف والعادات والاتجاهات، مختارًا منها جميعًا ما يبنيه، ورافضًا ما يهدمه!
٤- الجسد الصحيح: ولا يكون صحيحًا إلا بالرياضة والنوم الكافى والاهتمام الصحى، أما ما يفسد الجسد، فيبتعد عنه الشباب ابتعادًا عن حية مهلكة، وذلك مثل:
أ- تدخين السجائر: الذى يدمر الرئتين بالسرطان، والقلب بالأمراض.
- المخدرات: التى تدمر خلايا المخ والحياة كلها.
- الخمور: التى تدمر الكبد والمثانة بالسرطان.
- النجاسة: التى تدمر الإنسان كله بالأمراض المنقولة جنسيًا، كالإيدز، والهربس، والكالاميديا، والزهرى، والسيلان... إلخ.
فما أحوج شبابنا إلى أنشطة دينية وترويحية ورياضية وكشفية، تساعده فى تكوين جسد صحيح، وتبعده عن السلبيات المدمرة التى ذكرناها.
٥- العلاقات الناجحة: وهى علامة مهمة من علامات نضوج الشخصية، ويسمونها «Social Fittness»، حيث ينجح الإنسان فى تكوين علاقات جيدة فى الأسرة ومكان العبادة والمجتمع، وتكون له صداقات جيدة بناءة، وحضور مجتمعى ناجح، فيسهم فى تكوين مجموعات ناجحة، وتكون له عضوية ناجحة فى الأحزاب والنقابات، والاتحادات الطلاب، مقدمًا الصورة المثالية البناءة، التى يقتدى بها الآخرون، شاهدًا لإلهه القدوس: «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ لِكَىْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِى فِى السَّمَاوَاتِ» (مت ١٦:٥).
إن السلبية والانعزالية والانسحاب من المجتمع وعدم الإسهام فى النشاطات المجتمعية والجمعيات والمنتديات العامة- أمور لا تشهد لإلهنا، بل تجلب لنا النقد، فالإنسان كائن اجتماعى متفاعل، والنجاح الاجتماعى شهادة للنجاح الدينى.
■ ■ ■
لهذا يحتاج الجيل الرقمى المعاصر إلى تقديم خدمات وأنشطة تتناسب مع الاحتياجات السابقة لدى شبابنا المبارك، وهذا معناه برنامج عمل ضخم، يجب أن ترعاه أماكن العبادة، ويسهم فيه الشباب أنفسهم بأكبر قدر من المسؤولية: فى التفكير والابتكار والإعداد والتنفيذ والمتابعة والتقييم، حتى يندمجوا بتفاعلهم هذا فى أسراتهم ودور العبادة والمجالات المجتمعية ويصيروا شهودًا أمناءَ لعمل الله فيهم.
* أسقف الشباب
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية

مأساة الدكتور رشوان فهمى بقلم د. وسيم السيسى ١٩/ ١/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

إنه الدكتور رشوان فهمى، أستاذ جراحة وطب العيون فى كلية الطب جامعة الإسكندرية، ونقيب أطباء مصر، الذى كتب عنه أ. د. مصطفى الرفاعى كتاباً ذكر فيه مأساة هذا العالم الجليل. انتخب الأطباء الدكتور رشوان فهمى نقيباً عنهم سنة ١٩٥٧، كما انتخبوه مرة ثانية ١٩٦٥ لنزاهته ودماثة خلقه.
رفض الدكتور رشوان فهمى ترقيته من مدرس إلى أستاذ مساعد، وقال: «أنا ترتيبى الثانى، والأول أحق منى بالترقية، كما قد يكون أكفأ منى! هل لأننى عضو فى الاتحاد الاشتراكى؟!».
كتب حسن إبراهيم «من رجال الثورة» إن سر كراهية عبدالناصر لرشوان فهمى أنه يقدس الحرية «رشوان فهمى».
قال عبدالناصر عن رشوان فهمى: «رشوان فهمى حمار»، فكان الرد: «أستاذ الجامعة لا يمكن أن يكون حماراً». أراد عبدالناصر دخول الممرضين والممرضات والتومرجية نقابة الأطباء، كما أراد دخول وكلاء وكتبة المحامين نقابة المحامين، كما أراد دخول باعة الصحف وعمال المطابع نقابة الصحفيين، اعترض الكل، وقال رشوان فهمى: «أنا لست ضد التومرجية، ولكن لا يمكن أن يكون التومرجى طبيباً».
قال عبدالناصر: «نجحنا فى إدارة قناة السويس، وفشلنا فى إدارة قصر العينى!».
رد رشوان فهمى: «ميزانية المريض فى قصر العينى تسعة قروش فى اليوم! أعطونا ميزانية كقناة السويس، ونحن ندير قصر العينى على أكفأ وجه»!، صفق الأستاذ الدكتور عثمان وهبى بحرارة، ونظر إلى من حوله من جموع الأطباء، فلم ير أحداً يصفق، فقال: «صفقوا يا جبناء»!. فردّ عليه أحدهم: «نحن نلامس أكف أيدينا من تحت الترابيزات»!.
صدر قرار جمهورى فى ٢١/٨/١٩٦٦ بفصل الدكتور رشوان فهمى من الاتحاد الاشتراكى، ومن جامعة الإسكندرية، ومن منصب النقيب، كما شمل القرار الجمهورى وضع الدكتور رشوان فهمى هو وأسرته تحت الحراسة، كان معاش الدكتور رشوان فهمى ٤٨ جنيهاً، كما كان مداناً للبنك بمائة جنيه! لم يكتفوا بذلك، بل قطعوا عنه خط التليفون، والذى حدث للدكتور رشوان حدث للدكتور عثمان وهبى، أستاذ مساعد أمراض النساء والتوليد بقصر العينى، وكان أستاذاً موهوباً.
لزم الدكتور رشوان بيته، لا يخرج منه، رفض أى مساعدة مالية، ولكن الأطباء كانوا يرسلون له مظاريف بها مبالغ مالية من تحت عقب الباب.
قال رشوان فهمى فى ٢٣/٧/١٩٦٦: «كلما ازداد ظلم الحاكم قربت نهاية حكمه».
حدثت كارثة ١٩٦٧ التى أضاعت مصر والعرب، مات عبدالناصر ١٩٧٠، عاد رشوان فهمى إلى منصبه بواسطة القضاء الذى حكم له بتعويض ثمانية آلاف جنيه عن الأضرار التى لحقت به، والظلم الفادح الذى حاق به مادياً ونفسياً ومعنوياً، رحل عنا دكتور رشوان فهمى ١٩٧٥.
أما صديقى وأستاذى الدكتور مصطفى الرفاعى فقد رثاه بقصيدة تفيض حباً ووفاءً، منها هذه الأبيات:
ليس الولاء لقائد أو حاكم
إن الولاء لنصرة الأوطان
من أحيا أصالة أمة
وأعزها بكرامة الإنسان
وطوت مصر مأساة عالم جليل من تاريخها المسكوت عنه الممتلئ بالدموع.

الرد على مُنكرى ثورات الربيع العربى بقلم د. سعد الدين إبراهيم ١٩/ ١/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

يحلو لزُملاء أعزاء، مثل الدكتور عمرو عبدالسميع، أن يصفوا ما حدث فى مصر، بدءاً من ١١ يناير ٢٠١١، إلى تاريخه، لا بثورة شعبية، ولكن «بعملية يناير»، أو «بالمؤامرة»! وهم فى ذلك مُخطئون أو واهمون. ويُذكروننى بأقران فرنسيين وروس، ما زالوا ينكرون أن ما حدث فى فرنسا، بدءاً من ١٤ يناير ١٧٨٩، أو ما حدث فى روسيا، بدءاً من فبراير ١٩١٧، إلى أكتوبر ١٩١٧، كانا ثورتين غيرتا مجتمعهما، الفرنسى والروسى، ومحيطهما الإقليمى تغييراً كيفياً جوهرياً- سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وغيرت فى المواطنين فى البلدين تغيراً لا رجعة فيه.
فما هى حيثيات الاختلاف مع مُنكرى الثورة فى مصر خصوصاً والربيع العربى عموماً؟
■ الحيثية الأولى، هى أن الثورة، أى ثورة، هى سلوك شعبى جماعى، يرفض الوضع القائم، لمظالم يشعر بها قطاع من الشعب، ويُجهر بهذا الرفض، فإذا لم يستجب له النظام الحاكم، فإن قطاعات أخرى تنضم إلى المُحتجين، ويصعدون بمطالبهم إلى تغيير النظام، وهو ما تجلى فى الشعار الذى رفعه الشباب فى ميدان التحرير، بعد أسبوع من بداية الاحتجاج، أى بدءاً من يوم ١٨ يناير ٢٠١١، وحينما وصل حجم المتظاهرين فى ميدان التحرير إلى ما يقرب من نصف مليون، وانصم إليهم متظاهرون آخرون فى ميادين الإسكندرية (سيدى جابر، ومحرم بك)، والمنصورة (ميدان المحطة)، والسويس، وطنطا، وأسيوط. ولم تنضم جماعة الإخوان المسلمين إلى المحتجين إلا فى اليوم الرابع، فى محاولة كلاسيكية لاختطاف الثورة، وهو الأمر الذى دفع بالجيش إلى النزول إلى الميادين، بعد انسحاب الشُرطة، للمحافظة على الأمن العام.
■ الحيثية الثانية، هى رضوخ الرئيس محمد حسنى مبارك، للضغوط الشعبية والدولية المتصاعدة، وتخليه عن السُلطة رسمياً، للمجلس الأعلى للقوات المُسلحة. ومع تخلى رئيس الجمهورية، تخلى معه مجلس وزرائه، وبرلمانه.
■ الحيثية الثالثة، هى الاستفتاء الشعبى على تغيير الدستور، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وهو التغيير الذى استغلته جماعة الإخوان المسلمين، لاستكمال اختطافها ثورة يناير، بترشيح أحد قيادتها، الدكتور محمد مرسى، وانتخابه بأغلبية طفيفة، رئيساً للجمهورية، وقبول منافسه، الفريق أحمد شفيق للنتيجة، وتهنئة د. محمد مرسى، فى سابقة مصرية وعربية لانتقال السُلطة سِلمياً، بصورة متحضرة، وهو ما يُعتبر، فى حد ذاته، ثورة ديمقراطية سِلمية.
■ الحيثية الرابعة، والأهم، هى أن معظم المصريين كسروا جدار الخوف من السُلطة، بل تحدوا قمّة هذه السُلطة، وهو تطور جديد على العقل الجمعى المصرى، الذى دأب خلال خمسة آلاف سنة، هى تاريخ المصريين المُسجل، لا فقط على احترام قمة السُلطة، ممثلة بالفرعون، لدرجة التقديس، وحتى العبادة، فالمصريون هم الذين اخترعوا مفهوم وممارسة الملك الإله، God King، لذلك فإن كُفرانهم بقُدسية رأس السُلطة يُعتبر انقلاباً ثورياً، وليس مُجرد عملية، كما يُصر الكاتب عمرو عبدالسميع على تسميتها. ولأن المصريين كسروا جدار الخوف من السُلطة، وهم الذين لم يُغيروا أياً من حُكامهم بالإرادة الجمعية، فى خمسة آلاف سنة، فإنهم بعد أن أجبروا حُسنى مبارك على التنحى عن السُلطة، فإنهم فعلوا نفس الشىء مع الرئيس الإخوانى محمد مرسى، الذى كان هو وجماعته يُخططون للبقاء فى السُلطة لستين سنة، كما قالوا هم أنفسهم. وتولى رئيس المحكمة الدستورية العُليا، المستشار عدلى منصور، موقع الرئاسة إلى أن يتم انتخاب رئيس جديد. وهكذا غيّر المصريون رئيسين فى ثلاث سنوات. وإذا لم يكن ذلك تحولاً ثورياً فى الشعب المصرى، طبقاً لكتالوج الأخ عمرو عبدالسميع، فليدلنا هو عما تعنى الثورة بالنسبة له، ولمَنْ ينهجون نهجه؟ ربما كان للدكتور عمرو عبدالسميع مفهوم كلاسيكى للثورة، كما تعلم فى مقررات التاريخ عن الثورة الفرنسية، التى أعدمت الملك لويس السادس عشر وزوجته مارى أنطوانيت، والمئات من أركان حُكمه والطبقة الأرستقراطية الفرنسية، بقطع رقابهم بالمقصلة فى ميادين باريس. وهو ما كان قد حدث قبلها بقرن كامل فى جارتهم بريطانيا، وما حدث بعدها بقرن آخر، فى روسيا، للقيصر نيقولا وأفراد أسرته.
وقد غاب عن العزيز عمرو عبدالسميع أن أحد تجليات العبقرية الشعبية المصرية هى تحقيق التحولات الكُبرى فى تاريخهم الحديث بلا سفك للدماء، فالثورة العُرابية، لم تُسفك دماء، ومع ذلك لم يطلق عليها المؤرخون مُصطلح العملية العُرابية. ونفس الشىء ينطبق على ما حدث منذ مائة عام، بقيادة سعد زغلول، ولم يطلق عليه المؤرخون مُصطلح عملية مارس ١٩١٩. ولم يسفك الضُباط الأحرار دماء فى منتصف عام ١٩٥٢، ومع ذلك يُطلق عليها المؤرخون وأبناء الشعب المصرى الذين عاصروها، والجيلان التاليان من أبنائهم ثورة يوليو المجيدة، والتى قادها فى سنواتها الأولى محمد نجيب، ثم فى عقديها التاليين الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. ولم يُسمها أحد ذو حيثية، بعملية يوليو، وإن دأب المُتضارون منها وأبناؤهم بتسميتها بالانقلاب. إن المليون مصرى الذين ظلوا فى ميادين المحروسة لمدة ثمانية عشر يوماً، وسقط منهم العشرات، إلى أن أذعن الرئيس الأسبق حسنى مبارك على الرحيل، وبعدها غيّر المصريون دستور بلادهم، الذى هو أهم وثيقة سياسية فى أى مجتمع، وانتخبوا وأسقطوا رئيساً، لابُد أنهم يشعرون بالحُزن من إصرار د. عمرو عبدالسميع على تسمية جلائل ما أحرزوه مُجرد عملية!
أقول قولى هذا وأدعو للزميل عمرو عبدالسميع بالمغفرة وطول العُمر
وعلى الله قصد السبيل

Friday, January 18, 2019

خالد منتصر - أُلفة العين مع القبح تميت القلب - جريدة الوطن - 1/2019 /19

قرار طلاء البيوت من الخارج وإخفاء الطوب الأحمر، الذى صدر من أعلى مستويات الدولة وصار اهتماماً رئاسياً، ليس قرار رفاهية أو ترف، ولا تنفع فيه العبارة الخالدة «إحنا فى إيه ولا فى إيه؟!». ولا بد ألا يخدعك أحد بالتهوين والسخرية وهو يقول «هذه ليست أولوياتنا». لا يا سيدى، نشر ثقافة الجمال من أولوياتنا، العين التى تتآلف مع الجمال وتتعود عليه لا يمكن أن تتآلف مع الذبح والتفجير والدم. لا بد أن نعوّد العين على أن تنفر من القبح وتخاصم الفوضى البصرية والعشوائية الدميمة. العين التى تعودت على تلال القمامة أمام بيتها بدون أن يهتز لها رمش هى عين إنسان جلف غليظ الإحساس. من لا يعترض على الزبالة أمام داره، مهما كان نظيفاً داخل منزله، هو شخص أنانى وجاهل، مهما كانت درجته ووظيفته. نحن نرى عمارات فخمة فى وسط البلد بها مكاتب محامين ومهندسين وعيادات أطباء، نظيفة ولامعة وبراقة من الداخل، لكن على البسطة وفى بير السلم ترعى الفئران والثعابين فى القذارة!!
ثقافة نرجسية أنانية، ثقافة «أنا ومن بعدى الطوفان»، أخفق جهاز التنسيق الحضارى عندنا فى توحيد أو تنسيق طلاء العمارات والبيوت، تجد من يدهن بلكونته بمبة مسخسخ أو جانجاه على فسدقى وجاره يدهن كاروهات سيراميك... إلخ، فوضى بصرية بامتياز. يصرف صاحب العمارة الملايين على خرسانات ورمل وأسمنت، ولا يصرف مليماً على طلاء، يترك قبح الطوب الأحمر يطل على عيون المارة، يراقبهم وهو جالس فى البلكونة بكرشه المتدلى يشرب الشيشة ويتجشأ. عمارات الشارع غير متناسقة، لدينا عدوانية تجاه الأشجار وكأن بيننا وبينها ثأراً، فوضى حجز أماكن الركن بالصفائح والأحجار والكراسى والخوازيق، نتعدى على الحدائق ونحولها إلى خراب مستعمرة «ياميت»، أكبر بلد فيها خرابات، نكتب على الجدران أقذر الألفاظ، ونلوثها بالصور والدعايات الانتخابية وغير الانتخابية، «الأوت دوورز» فى منتهى البشاعة، تُحتل أرقى الأماكن بأردأ التصميمات، تماثيل مساخيط فى أهم الميادين هى نموذج لقمة اللكلكة الفنية، بلد علّم العالم النحت يضع تماثيل مشوهة هى أهم علامات انحطاط الذوق فى القرن الحادى والعشرين، لا يوجد بيت مصرى مهتم بوضع صور لوحات مستنسخة، كل ما فى البيوت لوحات خط عربى يعتبرونها من علامات الإيمان! ثقافة الزحام والعشوائية والضجيج والقبح تخلق أذناً رافضة للحوار، وعيناً كارهة للجمال، وقلباً ميتاً سرعان ما يقع فى فخ الإرهاب والتطرف.

خالد منتصر - الرب ينسخ والزمن ينسخ أيضاً - جريدة الوطن - 1/2019 /18

النسخ هو «رفع حكم شرعى سابق، بدليل شرعى متأخر عنه فى زمن نزول الوحى، ولا يكون إلا من عند الله تعالى، ولا بد فيه من النقل الصريح عن النبى (صلى الله عليه وسلم)»، هذا هو التعريف المعتمد الرسمى لدى المؤسسة الدينية، لكن هناك عدة أسئلة يثيرها هذا التعريف ونطرحها من منطلق التفكير الحداثى ومن منطلق المنطق الإنسانى أيضاً: هل النسخ هو إحصاء آيات بأرقام وإشارات تم تجاوزها بالنسخ سواء حكماً أو تلاوة، أم هو منهج وآلية تفكير تثبت أن التغيير سنة الكون؟، وهل النسخ مرتبط بتلك الفترة الزمنية التى كان يهبط فيها الوحى فقط والمرتبطة بحياة النبى، أم أن الزمن نفسه بما يحمله من بصمات تغيير هو أيضاً ناسخ؟، هل بجانب النسخ الإلهى الربانى هناك نسخ زمانى إنسانى اقتبس فكرته من الإشارة الإلهية نفسها التى تقول فى طياتها إن هذا النص ليس ألواحاً مسبقة عليك تنفيذها بالحرف إنما هو نتيجة تفاعل مع الواقع وإذا تغير الواقع يقوم الرب بالنسخ والتغيير والحذف والإضافة فى تلك الحقبة الزمنية؟، لكن هل هذا يعنى أن نترجمه على أنه محصور بتلك الحقبة والفترة فقط، أم أن معناه ببساطة وكأن الله يقول لنا تسلموا هذه الآلية الفكرية النسخية أمانة لدى عقولكم لتنفذوا بها الـupdate الحياتى الإنسانى؟، لأننا ببساطة إذا اقتنعنا بأن النسخ هو حصرى لتلك الفترة فقط فهذا اعتراف منا بأن الزمن سيتجمد وسيتوقف ويتحنط بعدها إلى يوم القيامة، وستصبح كل الأيام التالية «قص ولزق كوبى وبيست وبلاى باك» من الأيام السابقة حرفياً، ولو كان ذلك صحيحاً لظللنا فى الخيام، نركب الدواب حتى هذه اللحظة، وليست تلك مبالغة فهذه هى أفكار تنظيمات متطرفة مثل التكفير والهجرة ورأينا منهم أشخاصاً كانوا يصرون على الذهاب إلى الجامعة بالجمل!
التعريف الرسمى المعتمد للنسخ هو تعريف بشرى وليس تعريفاً إلهياً، وهذا الفزع والرعب من إعمال العقل فى النص ناتج عن تقديس هذا التعريف البشرى الذى زرعوه فينا حتى تكتمل السيطرة، هل انقطاع الوحى يعنى انقطاع النسخ؟، هل من الممكن اعتبار النسخ تجريباً علمياً متفاعلاً مع الواقع نستفيد من لمحته ونواته، فالعالم مطالب إذا لم تلائم نتائج تجربته المقدمات والمشاهدات والإحصاءات، هو مطالب بالانتقال إلى فرضية أخرى أكثر ملاءمة؟
نحن ننزع القشرة الخارجية للتعريف لنرى النواة، نحن ننزل إلى ما تحت السطح لنكتشف المنجم، كلمة نسخ هى مرادف تقدم، لكن التعريف جعل التقدم تجمداً أو بالأصح تقدماً إلى مسافة معينة، فصار المسلمون وكأنهم مطالبون بقطع سباق ماراثون مسافته اثنان وأربعون كيلومتراً والفوز به بشرط تطبيق قوانين تلزمهم بقواعد سباق المائة متر!، فكيف سأجرى مائة متر لأفوز بالماراثون؟!!
ما لنا لا نفهم ببساطة وهدوء أن كل هذا النسخ قد حدث خلال 23 سنة فماذا عن فترة الأربعة عشر قرناً التالية؟، هل نحذفها من أجندة الزمن؟، هل نحرق أوراقها؟، هل لم يحدث فيها ما يستدعى النسخ الزمانى؟، الله قد أرسل رسالة بأن هناك ما يتلى ولا تنفذ أحكامه، فهل تدبرنا تلك الرسالة؟، والتدبر هنا لا يحتاج إلى رجال دين منهجهم محصور ومحاصر فى مجرد تقليب كتب القدماء، لكنه يحتاج إلى عقول جسورة تفكر خارج الصندوق المغلق والأسوار العالية ومن الممكن أن يكون من بينهم رجال دين بشرط أن يكونوا قد فهموا المغزى والمعنى ودربوا عقولهم على الطيران خارج السرب، هناك بجانب الرسالة الربانية الرسالة العمرية فى مسألة المؤلفة قلوبهم وهى الآية الواضحة الصريحة بألفاظها والتى لا لبس فيها بمعانيها، لكن الفاروق عمر كان ما زال خارج منظومة الفقه المغلقة المصمتة التى تحولت بالتدريج إلى مؤسسة لها سدنتها وحراسها والمستفيدون منها، وقد لمس هذا المعنى المفكر الراحل حسين أحمد أمين حين قارن بين القوانين الوضعية والشرائع السماوية وفسر سبب الجمود الفكرى الذى نعيشه عندما قال فى كتابه «حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية» ما يلى: «الأصل فى القوانين أنها تسن وتتطور وتنسخ ويستبدل بها غيرها، على ضوء الاحتياجات المتطورة، وتغير العلاقات وأساليب العيش والإنتاج فى المجتمع الذى تنظمه وتحكمه، وأنها بالتالى تختلف باختلاف الزمان والمكان، هذا عن القوانين الوضعية»، إذن كما يقول حسين أمين أن روح القوانين هو النسخ وبدون أى غضاضة أو غضب أو دفاع عن ثوابت ما هو معلوم من القانون الوضعى بالضرورة، لكن ماذا عن فهم الشريعة؟، يقول حسين أمين: «أما الشرائع السماوية فإن الفقهاء يذهبون إلى أنه لا دخل للاعتبارات التاريخية فيها، وأن الأصل فيها أنها صالحة لكل زمان ومكان، فالشريعة التى تصلح لتركيا تصلح للنيجر وبنجلاديش، والتى تصلح لمصر فى القرن السابع الميلادى تصلح لها فى القرن العشرين، فهى إنما تعبر عن الإرادة الإلهية التى تحكم المجتمعات البشرية، ولا تأثير لهذه المجتمعات فيها، ومن ثم فإنه لا مجال للقول بضرورة تطوير الشريعة على ضوء التطور التاريخى للمجتمع، ولا دور للفقيه فى إرساء قواعد جديدة أو مواءمة الشريعة مع ظروف هذا المجتمع أو ذاك، وإنما دوره مقصور على اكتشاف كنه الإرادة الإلهية الثابتة غير المتغيرة»، والسؤال هل أحكام القرآن والسنة لا تنسخ لأنها شرعت أحكاماً تفصيلية محددة؟، يجيب حسين أمين، فى نفس الكتاب، بقوله: «إن نسبة الأحكام الشرعية المنصوص عليها فى القرآن الكريم، بل وحتى فى الأحاديث النبوية المتفق على صحتها، هى نسبة ضئيلة جداً إلى الأحكام الواردة فى كتب الفقه، ذلك أنه ليس فى القرآن غير نحو ثمانين آية تتعلق بموضوعات قانونية، كحد السرقة، وحد الزنا، وأحكام الوصية والمواريث، ومعظم هذه الآيات الثمانين اكتفى بإيراد مبادئ عامة تسمح بتفسيرات وتطبيقات شتى يمكن الملاءمة بينها وبين احتياجات كل عصر وظروفه»، ويؤكد «أمين» فى نهاية تحليله أنه «ليس صحيحاً القول بأن القرآن والسنة قد شرعا أحكاماً تفصيلية محددة لكل مظاهر حياة المسلمين، والأقرب إلى الصواب القول بأن العمل قد استمر فى مجالات عديدة، أثناء حياة النبى، بالعرف الذى كان سائداً فى الجاهلية».
إنه العرف الذى ذكره حسين أمين، العرف الذى كان على صراع وتفاعل مع الشرع، فمثلاً العرف الطبقى فى العراق صاحب العدوى الفارسية حينذاك جعل المذهب الحنفى يؤكد على شرط الكفاءة الذى تجاهله الإمام مالك ابن مجتمع المدينة، وهو نفس العرف الذى أباح حق الملكية للرق فى مذهب مالك ومنعه عنهم وأنكره عليهم المذهب الحنفى، تلك الأمثلة وغيرها من التخريجات الفقهية ليست نتاج مزاج الفقيه أو هبطت عليه وحياً، ليست معادلات رياضية باردة منبتة الجذور بالواقع المحيط حولها، الفقيه ابن بيئته ومكانه وزمانه وطبقته وحتى تكوينه البدنى والنفسى، هل آية السيف التى فيها «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم»، هل هى مناسبة لزمن الأسلحة النووية والكيميائية والصواريخ والمدافع... الخ، فمهما كان السيف بتاراً لن يؤدى إلى ملايين من الضحايا، لكن تلك الأسلحة المعاصرة فهى بالفعل دمار شامل، هل نستطيع أن نواجه العالم الآن بعقوبات كانت ملائمة لأفكار زمانها وعصرها، كانت تقوم على الانتقام والتشفى مثل الجلد والصلب والقطع... الخ، عقوبات بنت أفكار زمانها وبيئتها، ويطبق عليها النسخ الزمانى، حتى من يقولون بالبلدى «كله كوم والزنا كوم تانى.. لا تغيير ولا تبديل»، عليهم أن يفكروا بهدوء ويجيبوا عن سؤال وماذا عن زواج المتعة؟، ماذا تعتبرونه الآن؟، وهل تقبلونه الآن؟، وماذا عن الجدل حوله؟
المفروض أن أنهى هذا الفصل بإجابة ولكن السؤال المحرض على التفكير أهم من الإجابة المحرضة على الكسل.