Translate

Tuesday, August 31, 2021

حكايتي مع «الكنيسي» - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 30/8/2021

رحل عنا الإذاعى المخضرم القدير حمدى الكنيسى، تتساقط أوراق شجرة جيل إذاعى عظيم ورائد أثر فى أجيال وترك بصماته على كل ألوان الطيف المصرى، هو ابن مدرسة «صوت العرب» الرصينة، لكنه كان على عكس المذيع أحمد سعيد الذى كان من مدرسة الصوت العالى الحماسى الخطابى الزاعق، كان «الكنيسى» على العكس هادئ الصوت رقيق النبرات يتسلل برقة إلى قلب وعقل المستمع، ارتبطنا به جميعاً وقت أن كان مراسل الإذاعة فى حرب أكتوبر، كانت تقاريره اليومية كشافاً للبيانات العسكرية السريعة التى كنا فى لهفة أن نتعرف على تفاصيلها، كنا نجد تلك التفاصيل عند حمدى الكنيسى.

لى مع الأستاذ الراحل حكاية بسيطة لكنها تعكس معنى الشخصية الملتزمة الجدعة، فقد كان رئيساً للإذاعة وقت أن كنت أعد المسلسل الرمضانى الذى كان مقسماً إلى ثلاثة أجزاء، مسلسل «بنات القمر» عن قصة الكاتب الكبير عادل حمودة وبطولة يسرا وهالة صدقى ويوسف شعبان وماجد المصرى وأبوبكر عزت ومعالى زايد وغيرهم من النجوم، من إخراج المخرج الراحل الجميل يوسف المشرى الذى غادرنا فى عز شبابه، كنت ما زلت فى بداية المشوار أتحسس طريقى فى دروب الإذاعة، حائراً ما بين الطب والكتابة، محتاجاً لإثبات وجود وتحقق هوية، وإذا بلجنة القراءة ترفض المسلسل، وعرفت أن ناقداً كبيراً واسماً مهماً وباحثاً عظيماً فى التراث الشعبى هو الذى قاد جبهة الرفض داخل اللجنة، معترضاً على الجزء الثانى الذى يحتوى على قصيدة هوامش على دفتر النكسة للشاعر نزار قبانى، وكان الطلبة فى أحداث المسلسل يتداولونها سراً، اعتبرها الناقد الكبير إهانة للزعيم جمال عبدالناصر، وكان هذا الناقد ناصرياً متحمساً جداً، وهدد بالاستقالة ورفع الأمر لجهات عليا، وقال «على جثتى مرور هذا المسلسل».

كنت فى هذه المعركة وحيداً، وبحماس الشباب وجدتنى أطلب من مدير مكتب رئيس الإذاعة حمدى الكنيسى الدخول للشكوى وشرح الأمر، وكان أمامنا أسبوع على رمضان، سمح لى الكنيسى بالدخول وهو لا يعرف من هذا المجهول الذى اقتحم عليه مكتبه، قابلته وشرحت له الأمر، وظل منصتاً طيلة حديثى لا يعلق، وقال اترك لى الأمر وسأقرأ المسلسل بنفسى، وبعد يومين هاتفنى المشرى وهو فى منتهى السعادة قائلاً «رئيس الإذاعة وافق على المسلسل بل وكتب أنه مسلسل متميز»، لم أصدق نفسى فقد كان تجميع هؤلاء النجوم فى زحمة رمضان ثم الاعتذار لهم كارثة تشطب عليك إلى الأبد، والحمد لله نجح المسلسل بفضل تدخل رئيس الإذاعة حمدى الكنيسى، وللأسف استقال الناقد الكبير من اللجنة احتجاجاً وظل يهاجم الكنيسى طيلة حياته، لكن الكنيسى انتصر للفن وللحرية برغم أن الكلام عن الهزيمة فى الدراما بالنسبة لمراسل عسكرى حضر النصر شيئاً من الممكن أن يستفزه، لكنه كان إعلامياً بداخله شاعر، رحم الله حمدى الكنيسى وأمد الله فى أعمار من ما زال حياً من هذا الجيل الذهبى.

Sunday, August 29, 2021

الحداثة والتحضّر - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 29/8/2021

 إلغاء خانة الديانة من البطاقة لا يعنى إلغاء الديانة من المجتمع أو سلبها من المواطن، شطبها هو تأكيد على مدنية الدولة وانضمامها لطابور الحداثة والتحضّر، البطاقة بطاقة هوية، والهوية وطن قبل أن تكون ديناً، هويتى مصرى وهى علاقة عامة مع المجتمع، ديانتى مسلم، وهى علاقة خاصة مع الله، ما إن كتبت هذه العبارة على صفحتى حتى اندلعت نيران الهجوم، وانطلقت رصاصات التكفير، بعدها كتبت الفنانة لقاء الخميسى على صفحتها المعنى نفسه، وطالبت بإلغاء خانة الديانة وتعرّضت لهجوم بشع وسباب وقح وشتائم متدنية، وأنا لا أعرف حقيقة سر تلك الهستيريا فى الهجوم على كل من يقترب من تلك النقطة الشكلية التى لا تطالب ولم تطالب أبداً بإلغاء أو شطب الدين.

صار المزاج السلفى للمجتمع يعتبر أن إلغاء خانة الديانة مثلها مثل إلغاء ومنع الصلاة!، الدولة المدنية الحديثة لا تريد للمزايدات الدينية والمشاحنات الطائفية أن تخرج إلى الفضاء الاجتماعى العام، ونحن مجتمع يعانى من شحن طائفى اشتعل أكثر فى فترة الإخوان، التى استغلوها سياسياً عندما كانوا يمنعون المسيحيين فى بعض قرى الصعيد من الخروج للانتخابات، اعتماداً على تلك الخانة فى البطاقات! والمدهش أن دولاً إسلامية كثيرة حولنا لا تكتب خانة الديانة فى بطاقات الهوية، ولا يمنعهم هذا أو يعوقهم عن الزواج والميراث.. إلخ من الإجراءات التى تستلزم معرفة الدين، فلماذا هذا الإصرار على انفراد مصر بخانة الديانة، ورغم أن تلك الخانة فتحت مجال لغط وجدل ومعارك وصلت إلى ساحات القضاء، وكان لها صدى دولى مزعج، مثل قضية البهائيين التى انتهت بوضع علامة شرطة أمام خانة الديانة بعدما كان الطلب هو أن يكتبوا إما «مسلم» وإما «مسيحى»، ومجالات المعارك الموجعة الأخرى كثيرة وتفتح أبواب جهنم أمامنا وتجعل صورتنا حين تتفجر مثل تلك القضايا أمام العالم مثاراً للنقد.

وأضع أمامكم مجرد حالة طلب تغيير ديانة، ماذا سيفعل الموظف وماذا سيكتب إذا طلب مسلم أن يغير ديانته؟، وماذا إذا أصر على إثباتها فى البطاقة؟، هل سنفتح جدلاً وقتها حول أحكام الردة، ويخرج هذا الموضوع إلى الشارع والفضاء العام ويصبح حديث كل بيت ويختلط الحابل بالنابل فى دولة تسعى جاهدة لدخول عصر الحداثة؟! وليكن مرتكزنا الذى نبنى عليه المقترح الذى كان قد قدّمه النائب المحترم علاء عبدالمنعم فى البرلمان من قبل ضمن مشروع قانون يتضمّن لمواجهة التمييز وكانت المادة الثالثة منه تنص على أن: «تلغى خانة الديانة فى بطاقات الرقم القومى، وجميع الوثائق والمستندات الرسمية، ولا يجوز إجبار أى مواطن على الإفصاح عن ديانته إلا إذا كان الإفصاح ضرورياً لترتيب مركز قانونى كالميراث أو الزواج»، صياغة محكمة من الممكن أن نبنى عليها وندير حواراً مجتمعياً نتخلص فيه من أثقال تكبل مسيرتنا نحو جمهورية جديدة مدنية حداثية، مصر الجديدة التى كانت مهد النور وفجر الضمير وستظل كذلك.


أنت الإله وليس آخر سواك - الأنبا موسى - 29-07-2021 - المصري اليوم

 يشيع البعض أن هناك ملحدين كثيرين فى مصر والعالم، والحقيقة أن الإلحاد «وهم».. وهو مشكلة قديمة ولكنها تطل برأسها بين آن وآخر، وادعى البعض أن الدين هو سبب تخلف الشعوب عن الركب الحضارى والتكنولوجى، بالتالى أدى ذلك إلى الاستخفاف بالدين (التدين) بشكل عام.. والنظر لرجال الدين كمن ينظر إلى المازحين أو المشعوذين.

ومن جهة أخرى لا نستطيع أن ننكر أن النجاسة أصبحت تسير فى شوارع العالم، ترفع رأسها دون استحياء، وصارت فضيلة القداسة تتوارى خجلة أمام هذا الطوفان المتدنس من أفلام الدنس، وانحرافات الممارسة ودعوات الفجور، ومحاولات تقنين الشذوذ.. وما إلى ذلك. الحرية الجنسية فى الخارج جعلت الإنسان يعيش تحت خط الحيوان.. فالحيوان له حدوده ومواقيته، وضوابطه، أما الإنسان الذى أعطاه الرب «لجامين» لضبط الغريزة: العقل، والروح، فقد تجاهل هذه الضوابط العقلانية، والروحانية، وانساق وراء الغريزة والحس، بلا شبع ولا ارتواء.

وهكذا تمزقت القيم، وصار الزواج شيئًا مرفوضًا، وإنجاب الأطفال ثقلًا رهيبًا.. وتناقص عدد الأطفال، وازدادت حالات الطلاق، وتشرد الشباب فى طريق: العنف والإدمان والخطيئة، ومنها إلى الإلحاد وعبادة الشيطان.. وغيرها، وليس من راعٍ.

لذلك نحتاج، إذن، إلى نماذج جيدة ناجحة تدعو الشباب- لا عن اضطرار بل عن حب واختيار- إلى القداسة، كقيمة تصلح للحياة الأرضية، وتمهد للحياة الأبدية.. قيمة يمكن وضعها موضع التنفيذ، والسلوك بحسبها، بنعمة الرب والاجتهاد الأمين المفرح.. ومن كل هذه الأسباب خرجت الكثير من الضلالات ومنها:

- عبادة الشيطان:

هذه ضلالة جديدة، يحاول بها الشيطان اقتناص أبنائنا، والخروج بهم عن جادة السبيل، وما يبنى أرواحهم وأنفسهم وأجسادهم، إلى طريق مدمر وخطير.. فمن هو الشيطان، وما حكاية هذه الضلالة؟

1- من الشيطان؟

خلق الله الملائكة ورؤساء الملائكة، قبل أن يخلق الإنسان، وأعطاهم حرية إرادة وفرصة اختيار، فاختار كل رؤساء الملائكة ومن يتبعونهم من ملائكة، أن يعيشوا فى خضوع لله، وارتباط مستمر به، واثقين أن فى يدى الله السعادة والقداسة والخلود، ما عدا واحدًا منهم ومجموعته، الشيطان، الذى أراد فى كبرياء رديئة أن يصير مثل العلىّ، وهذا ما ورد فى سفر إشعياء النبى: «وَأَنْتَ (الشيطان) قُلْتَ فِى قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّى فَوْقَ كَوَاكِبِ اللَّهِ.. وأَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. لَكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ» (إشعياء 12:14-15).

وللشيطان أسماء عديدة فى الكتاب المقدس منها: إبليس أو الحية القديمة، ويسميه أيضًا: «الرُّوحِ الَّذِى يَعْمَلُ الآنَ فِى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ» (أفسس 2:2)، ولذلك يوصينا الله قائلًا: «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يعقوب 7:4)، «لاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا» (أفسس 27:4)، «الْبَسُوا سِلَاحَ اللهِ الْكَامِلَ» - أى السلاح الروحى «لِكَىْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ» (أفسس 11:6).

وكلمة شيطان مأخوذة من كلمة «شطن» العبرية ومعناها «المقاوم»، وكلمة «إبليس» مأخوذة من كلمة «ديابولوس» اليونانية ومعناها «المفترى».

2- من عبدة الشيطان؟

بينما عبدة الشيطان هم أناس استغلوا الحرية التى أعطاها الله للإنسان، فرفضوا الله، وخضعوا لعدو الله إبليس، وهو عدو الإنسان أيضًا، وعدو كل بر، كل ما يتمناه أن يسقط الإنسان فى الخطيئة ليهلك، ولذلك فهو «كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (بطرس الأولى 8:5). مع أن الله قادر على أن يبيده ويفنيه، إلا أنه سمح ببقائه، لكى تكون للإنسان فرصة ممارسة الحرية، إذ يختار بين الحياة مع الله أو التبعية للشيطان.

وهؤلاء الناس الذين يعبدون الشيطان يعرِّضون أنفسهم للدمار الشامل بسبب الخطايا التى يمارسونها.

إن عبدة الشيطان ببساطة هم أناس رفضوا الخضوع والعبادة لإلهنا المحب، وأسلموا أنفسهم للشيطان الذى أغوى الإنسان لكى يسقط. وما زال يغوى البشر، ويغريهم بالخطايا والآثام، التى تدمر الإنسان تدميرًا كاملًا، فالخطيئة:

أ- تدمر الروح: العنصر الذى من خلاله نتصل بالله، وندخل عالم السمائيات والخلود.

ب- وتدمر العقل: إذ ينطفئ نوره الربانى، وتغشاه ظلمة عدو الخير.

ج- وتدمر النفس: حينما تتمرد الغرائز، وتنحرف العواطف والاتجاهات، وتملأ حياة الإنسان بالعادات الرديئة.

د- وتدمر الجسد: فيفقد طاقته، ويسقط فريسة أمراض رهيبة، كالإيدز والهربس والكالاميديا وغير ذلك.

ه‍- وتدمر العلاقات: فالإنسان المنحرف مرفوض من الجميع، ولا يرضى أحد معاشرته أو صداقته.

أما أبناء الله: فروحهم تشبع بالله، وعقلهم يستنير بنوره، ونفوسهم تنضبط بنعمته، وأجسادهم تصح بطاعة وصاياه، وعلاقاتهم تنجح من خلال المحبة والقداسة وروح العطاء.

3- الكتاب المقدس والعبادة: يوضح الكتاب المقدس أن العبادة لله وحده، فى قوله:

- «لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (لوقا 8:4). - «هَلُمَّ نَسْجُدُ وَنَرْكَعُ وَنَجْثُو أَمَامَ الرَّبِّ خَالِقِنا» (مزمور2:95).

- «الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية 4:6 - مرقس 29:12).

- «أنت الإله وليس آخر سواك» (يهوديت 19:9)

- «ليس إله إلا أنت المعتنى بالجميع» (الحكمة 13:12).

- «عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ. أَنْتَ اللهُ وَحْدَكَ» (مزمور 86: 10).

- «إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِى عَلَى الْكُلِّ» (أفسس 6:4)

- «لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ» (رُومِيَةَ ١١: ٣٦).

(يتبع)

* أسقف الشباب العام بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

Friday, August 27, 2021

لماذا نخاف من التفكير؟ - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 26/8/2021

 خايف تفكر؟! سؤال طرحه الرئيس فى مداخلته المهمة على قناة «صدى البلد» مع الإعلامية عزة مصطفى. سؤال يحمل معنى الاستفهام والاستنكار، لماذا نخاف من التفكير، رغم أن أول مطلب قرآنى لنا كان اقرأ، فكر، ابحث، تدبّر، تعقّل، لكننا حتى هذه اللحظة ما زلنا مرعوبين من هذه المهمة التى باتت قاسية علينا، مهمة التفكير.

نحن نخاف من التفكير لأننا نخاف من المواجهة، نحن نخاف من التفكير لأننا نعشق سكن الشرنقة والكهف والخندق والمستقر والمألوف والدافئ. مرادف المغامرة عندنا هو الموت فى غياهب التيه، التفكير نعتبره بدعة وكل بدعة ضلالة، المريض عندنا نشخّصه بأنه يعانى من «الفكر»!!

نحن نفزع من التغيير والتجديد، التفكير يعنى بذل الجهد ونحن قد حسمنا المسألة أن خير القرون قد مضى وولّى، وأن العقل، كما وصفه أحد الدعاة، هو مجرد حمار يوصلك إلى باب البيت ثم تتركه! التفكير يعنى طرح السؤال وإثارة علامات الاستفهام، والسؤال لدينا تطفّل وعلامة الاستفهام خطيئة، والتربة الراكدة بعفنها أفضل لدينا من تقليبها، والبركة بركودها أنقى عندنا وأصفى من النهر الجارى!!

السؤال يعنى أن كل الماضى والمعتقدات على طاولة التشريح معرضة لمشرط البحث والفضول، وهذا مرعب لمن تعوّد على التخفى والأغطية واللفافات السميكة على العقل المستقبل الكسول، التفكير يعنى أن نحتفظ ببقايا دهشة الطفل وهذا فى رأينا عبث و«لعب عيال»، التفكير يعنى أن نحتفظ بخيالنا متوهجاً، ونحن فى عداء مزمن مع الخيال، فالتعليم معناه عندنا أن ندخل قفص الدواجن لا أن نحلّق مع النوارس.

كل سنة دراسية يتقلص خيالنا معها بالمذكرات المحفوظة والتلقين المكرر حتى نصير علباً محفوظة معبأة ومشحونة مسبقاً بما سنتقيأه على الورق فى ماراثون الامتحان، نتعلم: «لا تناقش ولا تجادل يا أخى»، نرى الطفل المتسائل طفلاً زناناً وأحياناً ابن موت، طفلاً مزعجاً لأنه يفكر.

يصرخ فينا رجال دين: «إياك أن تقترب من نقد التراث»، ويتهمونك بالازدراء ويجرجرونك إلى السجن لأنك فكرت وتدبرت وقرأت، هم يريدون الدين احتكاراً، يحتكرون الدين ويحتقرون التفكير فيه، يطاردون حتى زميلهم رجل الدين الذى ينادى بإعادة القراءة فى ظل متغيرات العصر الحديث، يتعاملون مع الدين كعزبة خاصة لا يقترب من حدودها أحد إلا حاشيتهم.

مَن يفكر، يُطرد من جنتهم، التفكير يقود إلى التكفير، وهو ما يجعل مَن يتصدى للتنوير خائفاً من مصير التكفير وتهم الرِّدة التى تنتهى بالقتل سواء القتل المادى أو المعنوى. لا تخافوا من التفكير، امتلكوا جسارة إعادة النظر فى البديهيات أو ما كنتم تظنونه من البديهيات، انتصروا للجزء العقلانى من تراثنا وانفضوا تراب النسيان والتواطؤ عنه، اعرضوا مشاكل العصر على ترجمان العصر، العقل الواعى الجرىء، انتصروا لثقافة الحياة وشيّعوا ثقافة الموت إلى مثواها الأخير.


Thursday, August 26, 2021

نظرية «كل عيل بييجى برزقه» - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 25/8/2021

 لا توجد جملة دمرت وطناً مثل تلك الجملة، قمة التواكلية والتفكير الأسطورى وكراهية العلم والعداء للتخطيط، وغرس اللامنطق لنشر هستيريا العشوائية الفكرية التى لا بد لتمريرها من مسحة دينية، لو اعترضت عليها، فأنت تعترض على القدر الإلهى، وهو نفس المنطق الذى يحكم مسألة: «لا تغسل الكلى، لأنها تأجيل لمشيئة الله، ولا تزرع عضواً، لأنك بذلك تعترض على الله وتتحكم فيما يملك الرب.. إلخ».

نفس الفزّاعة الدينية تستخدمها بعض السيدات لتخويف الزوجة المُقدمة على استخدام وسيلة من وسائل منع الحمل. إنها جملة: «ربنا ما يتعاندش»، وكأننا فى حلبة مصارعة، وهل أى علاج أو جراحة هو عناد مع ربنا؟؟!!! منطق فى منتهى الغرابة، وقد سمعت من سيدات ريفيات حكايات تنتمى لعالم الهلاوس والضلالات، يتم تأليفها خصيصاً لإثبات أن مَن تستخدم وسيلة منع الحمل وتعاند ربنا، فإن الله سيفضحها على رؤوس الأشهاد! لدرجة أنه فى قرية أبى، كنت قد سمعت حكاية أن سيدة استخدمت اللولب، فحدث للزوج مشكلة وأمسك اللولب بتلابيبه، فظل ملتصقاً ولم يتم فك الاشتباك إلا فى المستشفى!!!

تخيلوا إلى أين وصل وجمح الخيال بتلك السيدة الريفية الغلبانة التى زيفوا وعيها وخرّبوا دماغها؟؟ فقط لتلويث سمعة وسائل منع الحمل!! أما جملة «العيال عزوة»، فهى كلمة الحق التى يراد بها باطل، فالعيل عزوة ودعم حين تتوافر الظروف لكى يكون داعماً، ولكى يكون عزوة بجد، وليس رقماً ضمن الأرقام أو غثاء سيل أو طفل شوارع.

أما حكاية وحجة الصين التى هى مليار ونصف المليار، وبلد قوى برغم هذا العدد المهول، فيرد عليها د. عمرو حسن، ويثبت أنها حجة «فشنك» وكلام مرسل فيقول: نموذج «الصين» بعيد تماماً عن الحقيقة والواقع، وتحريف للكلم عن مواضعه، فجمهورية الصين الشعبية تعد من بين تلك التجارب الناجحة فى مواجهة المشكلة السكانية، فقد بدأتها بإرسال التعليمات من الحكومة لوزير الصحة وقتها، تدعوه إلى مساعدة الشعب فى مسألة تحديد النسل، وبدأت حملات واسعة للدعاية لوسائل منع الحمل.

وبعد عام 1956 كانت نقطة تحول فارقة، حيث أعلن الاتحاد الديمقراطى للنساء الصينيات استعداده للقيام بحملة واسعة لتحديد النسل، بعد أن أعلن نائب رئيس الوزراء الصينى أن «الاستمرار فى إنجاب الأطفال دون حساب أصبح أمراً غير مقبول».

وفى العام نفسه، أعلن رئيس الوزراء الصينى قائلاً: «إننا نؤيد تنظيم عملية التكاثر حماية لصحة الأطفال والنساء من أجل تربية وتثقيف الجيل الصاعد ورفاهية أمتنا»، ويستكمل قائلاً: «ومن أهم مؤشرات نجاح التجربة الصينية انخفاض معدل النمو السكانى إلى 0.5% عام 2008، والوصول بمعدل الخصوبة الكلى إلى 1٫6% طفل لكل سيدة عام 2008، وارتفاع متوسط العمر المتوقع إلى 71 عاماً للذكور و75 عاماً للإناث عام 2008، بالإضافة إلى ارتفاع معدل استخدام موانع الحمل بين النساء المتزوجات فى سن الإنجاب إلى 90% عام 2008».

وإذا نظرنا إلى واقعنا الحالى، فسنجد أن معدل النمو الاقتصادى الصينى يبلغ فى أقل حالاته 6.9% ومعدل النمو السكانى 0.43%، أى أن نسبة معدل النمو الاقتصادى الصينى إلى معدل النمو السكانى تبلغ 16 مرة، بينما إذا نظرنا إلى مصر، فمعدل النمو الاقتصادى وصل إلى أكثر من 5.6%، مع توقعات بوصوله إلى 6.9% بحلول عام 2027، أى أن هناك تحسناً كبيراً فى معدل النمو الاقتصادى المصرى، فى المقابل نجد أن معدل النمو السكانى 2.5%، أى أن نسبة معدل النمو الاقتصادى المصرى إلى معدل النمو السكانى مرتان فقط، والسبب هنا فى التجربتين المصرية والصينية هو معدل النمو السكانى، ففى الصين أقل من نصف فى المائة وفى مصر 2.5%، أى أن معدل الزيادة السكانية فى مصر خمسة أضعاف الصين، وهذا هو الفارق».

فهل سيقتنع أصحاب نظرية «كل عيل بييجى برزقه»؟


Sunday, August 22, 2021

لعنة الترامادول - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 21/8/2021

 الترامادول مسكن سحرى للألم صار لعنة للإدمان، كان أول من نبهنى إلى تلك اللعنة هو الراحل د.عز الدين الدنشارى، أستاذ الصيدلة. ومن ضمن المعلومات التى تداولناها فى الحوار كانت استخدام الترامادول فى الآونة الأخيرة الذى زاد بشكل سرطانى لعدة أسباب، أولها أن هذا الدواء كان من ضمن أدوية الجدول الثانى التى تختلف عن أدوية الجدول الأول فى أن الإجراءات التى كانت تنظم تداولها أقل قيوداً من تلك المفروضة على أدوية الجدول الأول، وذلك قبل مارس 2011، حيث صدر قرار وزير الصحة بإدراج الترامادول ضمن أدوية الجدول الأول، ولقد لوحظ قبل هذا التاريخ زيادة واضحة فى تهريب الترامادول من دول مختلفة وبخاصة الصين، ولقد اكتشف أن هذا الدواء يساعد على تأخير القذف مما دفع الكثير من الأطباء إلى وصفه مع الفياجرا للمرضى الذين يشكون من مشكلة عدم الانتصاب وسرعة القذف، ونظراً لزيادة الإقبال على شراء الترامادول فقد تزايدت الكميات المهربة منه بشكل واضح خلال الثلاث سنوات الماضية.

وتكمن خطورة الدواء المهرب فى أنه لا يخضع للمعايير القياسية التى تتطلبها وزارة الصحة لتأكيد ضمان فاعلية الدواء وجودته ومأمونية استخدامه، وفى هذه الحالة فإن الدواء قد يشكل خطراً على الأفراد الذين يستخدمونه، ويتفاقم الخطر إذا كان الدواء مغشوشاً، فقد يترتب على استخدام هذا الدواء إصابة المتعاطى بأمراض قد تشكل خطراً على صحته وحياته.

يعتبر الترامادول من الأدوية التى طرحت فى الأسواق فى أواخر السبعينات من القرن الماضى، حيث استخدم كمسكن للآلام المعتدلة والآلام الشديدة، وتجدر الإشارة إلى أن الترامادول ينبغى استخدامه تحت إشراف الطبيب، حيث يترتب على تناوله بدون إشراف طبى حدوث عدة مشكلات صحية، أولها الأعراض الجانبية التى يمكن أن يدركها الطبيب ويجد لها حلاً، وتشتمل هذه الأعراض على عجز فى التفكير وغثيان وقىء وإسهال ودوخة وصداع وهرش مستمر والميل إلى النوم وغزارة العرق وجفاف الفم وسوء هضم وضعف عام، ومن أخطار استخدام الترامادول التى يلفت الطبيب انتباه المريض لها عدم قيادة السيارة بعد تعاطى الدواء، حيث تختل عجلة القيادة بسبب تأثيره، ويعتبر هذا العرض الجانبى من أهم أسباب حوادث السيارات، وهناك أعراض جانبية تزداد خطورتها مع زيادة الجرعة مثل هبوط التنفس والتشنجات، ومما يؤكد أهمية استخدام الترامادول تحت إشراف الطبيب أن تناوله قد يسبب ضرراً للمرضى الذين يشكون من مرض الربو أو أمراض الجهاز التنفسى الأخرى أو إصابات فى الرأس أو الإمساك أو الصرع أو الحالات الشديدة من أمراض الكبد والكلى.

ومن ناحية أخرى، فقد يحذر الطبيب من استخدام الترامادول مع أدوية أخرى، حيث يشكل ضرراً على المرضى الذين يستخدمونه مع مسكنات أخرى أو مخدرات أو الأدوية المعالجة للاكتئاب والقلق، وقد يحدث تشنجات للمرضى الذين يتعاطون الترامادول مع بعض المضادات الحيوية مثل البنسلين والمستحضرات الدوائية التى تحتوى على الكافيين.

وقد سُجلت حالات من الوفيات بسبب استخدام الترامادول إما بمفرده أو مع مواد أخرى مثل الكحوليات أو الأدوية المضادة للقلق.

ولعل أخطر ما يواجه الأفراد الذين يستخدمون الترامادول بدون إشراف الطبيب مشكلة الإدمان الذى تحدثنا عن خصائصه وأخطاره الصحية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث بيّنت الدراسات والمتابعات الدوائية أن آلافاً من الأفراد قد أدمنوا الترامادول ولم يستطيعوا التوقف عن تعاطيه بسبب حدوث أعراض الإقلاع التى تشمل القلق والغثيان والقىء والرعشات والإسهال والهلوسة واضطرابات النوم ومتاعب التنفس.

ومن أخطار إدمان الترامادول أن المدمن قد يتعاطاه عن طريق الحقن فى الوريد بعد سحق الأقراص الدوائية وخلطها بالماء الذى قد يكون ملوثاً بالميكروبات، حيث يترتب على هذا الحقن إصابة المتعاطى بأمراض فيروسية أو بكتيرية قد تشكل خطراً على صحته وحياته.


Saturday, August 21, 2021

دموع أحمد مستجير - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 19/8/2021

 فى ذكرى رحيل الصديق الجميل د.أحمد مستجير، الذى غادر دنيانا فى ١٧ أغسطس ٢٠٠٦، هناك زوايا كثيرة ومختلفة لتناول سيرة هذا الرجل العظيم، لكن المساحة تفرض علىّ اليوم أن أتناول الدموع فى حياة هذا العالم الشاعر والإنسان العذب الجميل.

كان اللقاء الأول مع الدموع فى العاشرة من عمره وفى مدرسة المطرية دقهلية، نهر شفيق أفندى مدرس اللغة الإنجليزية صديقه يوسف شطا عندما أخطأ فى إجابة أحد الأسئلة وزجره قائلاً «روح موت»، ومضت ثلاثة أيام ولم يظهر يوسف، وفى اليوم الرابع وصله خبر موته، وأيقن الصبى مستجير أن شفيق أفندى قد قتل صديقه، فبكى بحُرقة وقرر فى الفسحة أن يكتب خطاباً لأحمد ماهر باشا رئيس الوزراء شاكياً هذا القاتل، وفى جنازة صديقه كانت السماء تمطر، وشارك الطفل السماء فى بكائها على يوسف، ليظل د.مستجير طوال عمره على يقينه الثابت بأن الكلمات من الممكن أن تقتل، ولهذا فإنه يحمل للكلمات نفس القدر من الاحترام وأيضاً الخوف.

واللقاء الثانى مع الدموع كان عندما التقى الشاب أحمد مستجير ابن قرية الصلاحات بدكرنس بأطفال العزبة المجاورة لقريته، كان حينها قد عُيّن فى الإصلاح الزراعى بعد تخرجه في الكلية، وفى مشاويره اليومية كان يشاهد الأطفال وهم يجمعون القطن وكان يداعبهم بحب، يشم فى عرقهم عطر الوطن وقسوته أيضاً، نفح أحد هؤلاء الأطفال قرشين، ولم يعرف أن هذين القرشين يمثلان كارثة، فقد علم المفتش بهذه الحادثة وعنّف الشاب مستجير قائلاً «لا يصح أن تعامل الفلاحين هكذا، لا بد أن يخشاك الناس هنا حتى تحفظ هيبتك، لا يجوز أن يحسوا أن لك قلباً رحيماً، ولا أحب أن أسمع أنك كررتها ثانية!!!!»، وبكى الشاب اليافع البرىء وصرخ «يا أيتها الشمس الغاربة، لماذا تكون الحياة هكذا؟، أيستكثرون أن يحظى منا فلاح ببسمة؟!، أو بكلمة حلوة، يكرهون أن يربّت إنسان على كتف إنسان، يريدون أن يقتلوا فينا الطيبة والحب»، وتساءل «من نحن سوى الآخرين، بدونهم لسنا بشراً، لا يصح أن نكون، أمن أجل خمسة عشر جنيهاً يقتلون فىّ الإنسان؟». وقرر الشاب أن يهجر هذا العمل وأن يدوس على تلك الجنيهات الملوثة بآهات هؤلاء البسطاء وأن يشترى نقاء روحه، وعرف كما قال فى إحدى مقالاته أن «الإنسانية قبل العلم وقبل الشعر».

وبعد أن حزم حقائبه إلى أدنبرة فى أواخر سبتمبر 1960 لاستكمال دراسته فى معهد الوراثة، كان هناك موعد آخر مع الدموع، ولكنها هذه المرة دموع الفرح عندما حصل على الدكتوراه فى 14 نوفمبر 1963، ورغم أنه قبلها حصل على الدبلومة بشهادة الامتياز لأول مرة فى تاريخ المعهد، وحصل أيضاً على ثقة أستاذه آلان روبرتسون، ولكن طعم العناد ورائحة التعب التى انبعثت من حبر الرسالة التى لم يصوب فيها المشرف إلا ثمانى كلمات فقط، كل هذا جعل الفرح مغموساً فى ملح الدمع والشجن، ولكن الدموع كانت أقوى وأغزر حين عاد بعدها إلى أدنبرة بحوالى ربع قرن مع زوجته وقاما بزيارة منزل أستاذه، وعرف من زوجة أستاذه قصة موته الميلودرامية حين كان يلقى بمحاضرته وفجأة صمت وصرخ فى الحضور من أنتم؟ وأين أنا؟، وانقلب طفلاً صغيراً يتصرف برعونة الصغار وحمقهم، إنه أصيب بمرض وراثى خطير، بكى أمام زوجة أستاذه وصرخ مردداً كلمات قصيدة فاروق شوشة: «كم أنت قاسٍ أيها الموت، كم أنت قاسٍ أيها الموت»، ومن يومها قرر أن تكون أهم سطور رسالة حياته هى دراسة الأمراض الوراثية للإنسان.


Friday, August 20, 2021

كلام في العلم - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 19/8/2021

 كلما وجدت فى مكتبات أوروبا وأمريكا كتباً علمية فى خانة الأكثر مبيعاً، أتحسر على كتب الثقافة العلمية فى مصر التى بالكاد تبيع عشرات النسخ، لأن العلم ليس له زبون فى مصر، كلما شاهدت كتب دوكنز وهوكينج وتايسون وساجان مكتوباً عليها الطبعة العشرون والكتاب الذى وزع عشرين مليون نسخة.. إلخ، أعرف لماذا تقدم هؤلاء وتخلفنا نحن، أعرف لماذا كانت نظرة الحسرة فى عيون مستجير ومصطفى فهمى وأحمد شوقى وسمير حنا صادق وكل من خاض غمار الثقافة العلمية، لذلك سعدت أيما سعادة وأنا أقرأ كتاب «كلام فى العلم» للصديق د. سامح مرقس الصادر عن دار المحروسة التى أحييها وأحيى صاحبها فريد زهران على شجاعته فى التصدى لتلك المهمة التى صارت كالقبض على الجمر فى هذا الزمن، مهمة تبسيط الثقافة العلمية، د. سامح مرقس بخلفيته العلمية كأستاذ أشعة بشيفلد، وأيضاً باهتماماته الثقافية المختلفة، كتب هذا الكتاب بحب وحماس كفاتح شهية للشباب لكى يذهب ويطلع أكثر على تلك الموضوعات العلمية.

هو يستفز غدة الفضول ويستحث الرغبة فى المعرفة ليتغلب كل منا على كسله فى البحث عن مصدر تلك النعم التى تحيط به من كل جانب بسبب العلم.

تجول بنا د. سامح فى كل مناحى العلم، ليس بأسلوب المرشد الواعظ الذى يقدم الإجابة ولكن بروح الباحث الذى يتساءل معنا، تحدث فى الكتاب عن الكون والمجرات وكيف بدأ الكون وما الثقوب السوداء وكيف تموت النجوم؟، إنه الكون الضخم اللانهائى الذى نحن فيه على كوكبنا مجرد نقطة فى بحر، ومن هذا الاتساع الكونى الهائل يأخذنا المؤلف من المجرة للذرة، ثم يتحدث عن أهم العلوم، الفيزياء، وماذا حدث من تطور حتى وصلنا إلى فيزياء الكم الغريبة الغامضة؟

أما أجمل فصول الكتاب فقد كانت عن التطور، حكاية دراما الكائنات الحية، فيها كل مكونات الدراما، الصراع والتنافس والصعود... إلخ، تشابه الجينات فى الكائنات الحية، قرابة الحوت لفرس النهر وليس السمك، تشابه جنين الإنسان مع الخنزير، سيصحح د. مرقس معلوماتك عن أن الإنسان أصله قرد وهذه الهلاوس التى يتهمون بها النظرية التى باتت حقيقة لا جدال فيها، يسخرون منها لأنها تفضح هشاشة معتقداتهم وتسحب عصا السلطة من رجال الدين، ويتحدث بشكل علمى وعملى عن كيفية تأثير نظرية التطور فى مجال الطب والبيولوجيا، وكيف نرى الآن فيروس «كوفيد» وهو يتحور مثبتاً ذكاء وفراسة وعبقرية «داروين» أعظم علماء البيولوجى فى التاريخ، ثم يأخذنا المؤلف فى رحلة جميلة عن قصص أهم العلماء، فيحدثنا عن عبقرية «نيوتن» الفذة، وعن مثابرة ودأب «داروين»، وعن شجاعة جينر الذى أنقذ العالم من الجدرى وواجه كل سخرية رجال الدين بالتجربة وأفحمهم بالجهد، تحدث عن اليهوديين «سولك» صاحب تطعيم شلل الأطفال و«شينازى» صاحب السوفالدى، حكى لنا عن كم الإنسانية التى جعلت واحداً يرفض أن يأخذ دولاراً عن براءة اختراعه، والثانى لا يحمل أى ضغينة للبلد الذى طرده هو وعائلته ويهديه علاج المرض الذى أكل أكباد أبنائه، إنه كلام فى العلم وعن العلم أجمل عطايا الوجود.


Thursday, August 19, 2021

انقطاعات الموت - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 18/8/2021

 «فى اليوم التالى لم يمت أحد»، عندما تكون تلك العبارة هى بداية رواية فلا بد أن نحتشد ونقف على أطراف أصابعنا لنتابع ونرصد كيف تصرفت تلك المدينة مع حلم الخلود وكيف كان الاحتفال، لكن عندما يكون كاتب تلك الرواية هو الأديب البرتغالى الفذ العبقرى جامح الخيال خوزيه ساراماجو، فإننا لا بد أن نتوقع المفاجآت وعدم المألوف والتمرد على العادى والبديهى.

رواية «انقطاعات الموت» عن دولة قرر الموت ألا يزورها أو يطرق بابها، بالطبع هذا هو حلمك المزمن كقارئ للرواية، لكن ساراماجو لا يكتب رواياته لإرضاء زبائن الأفكار الجاهزة، يصدمك ساراماجو بأن ذلك البلد الذى لا يموت فيه أحد عاش كارثة، تكدس كبار السن فى دور المسنين، يشيخون ويتهالكون ولا يموتون، شركات التأمين أوشكت على الإفلاس، الحانوتية فى بطالة، رجال الدين يعترضون لأن عدم الموت هو عدم بعث، فكيف سيدخل الرعية الملكوت؟، تجارتهم بارت لأنه لم يعد هناك تخويف بالموت.

يستعرض ساراماجو هذا الاضطراب المتصاعد الذى أحدثه توقف الموت، لدرجة أن أبناء تلك الدولة ذات الشعب الخالد، اضطر بعضهم للهرب عبر الحدود لكى يتخلص من حياته الرتيبة التى لا معنى لها، والتى هو فيها مجرد جثة تتنفس تخبو رويداً رويداً وتتحول إلى رماد حى، وتكونت مافيا فساد ولوبى سمسرة يساعد على تهريب أصحاب الموت المؤجل ودفنهم، تنعطف الرواية وتلتف مع صدمة أخرى حين يقرر الموت أن يعود بعد سبعة أشهر، تضخمت فيها قائمة الانتظار بشكل سرطانى، وكان لا بد لتلك الجموع المؤجلة أن تموت فى نفس اللحظة، كارثة كان يجب عليهم أن يحتملوها، وتسهيلاً على السلطات وضع كل منتظر للموت علماً على بيته حتى يسهل على الطبيب أن يمر عليه ويعلن وفاته، كانت عودة الموت هذه المرة غير تقليدية، فقد قرر الموت أن يعرف كل إنسان ميعاد موته من خلال رسالة بنفسجية عندما يفتحها الشخص تخبره بأن يجهز نفسه خلال أسبوع للرحيل، الرسالة لا يمكن تلافيها أو «الزوغان» منها حتى ولو ألقيت بها فى الشارع سيجدها عابر سبيل ويعطيها لك!، تفاوتت وتناقضت ردود الفعل بين سكان هذا الوطن العجيب ما بين العربدة وما بين الزهد.

الموت ذو الجمجمة العارية والمحجرين الفارغين يسكن مع منجله حاصد الأرواح، يرسل رسائله البنفسجية المسممة الروتينية إلى ضحايا المنية، لكن صندوق مفاجآت ساراماجو العجيب لا يفرغ من هداياه السحرية المباغتة، هناك رسالة أرسلها الموت وعادت إليه بعد أيام، ركبه العناد وبررها بخطأ عارض، أرسلها مرة ثانية ومرة ثالثة ولكنها فى كل مرة كانت تعود فى الحال، تلبسه الفضول، يريد أن يعرف من هو هذا الشخص الذى يعاند ويراوغ الموت، يبحث عنه فيجده عازف تشيللو فى الأوركسترا الوطنى، تزوره المنية فى البيت وتبدأ علاقة غامضة فيها الشد والجذب والحب والصد والتربص والتوجس، كيف انتهت تلك العلاقة ما بين الموت الذى ارتدى لحم امرأة فاتنة وعازف التشيللو عاشق باخ، هذا ما ستعرفه عندما تقرأ تلك الرواية الفاتنة التى تتحدث عن أكثر الأشياء رعباً فى حياتنا، لكن الفن عندما يتحدث عنه ويلمسه بعصاه السحرية يتحول إلى رحلة سحر وأحجية متعة.


Monday, August 16, 2021

الديمقراطية تترنح فى أنحاء العالم د. محمد أبوالغار - 17/8/2021 - المصري اليوم

 الديمقراطية تمثل فترة قصيرة جدا من تاريخ البشرية، وأنه طوال التاريخ، عبر آلاف السنوات، كان يحكم الدول ملوك هم أنصاف آلهة يفعلون ما يريدون ويقررون ما يحلو لهم، معظمهم لم يلتفت إلى شعبه وناسه، ولم يهتم بأمرهم إلا فيما يخص حكمه واستمراره، وفى بعض البلاد كان الحكم تابعا لقبيلة معينة وزعيم القبيلة هو الآمر الناهى. أفكار الديمقراطية ظهرت نظرياً فى الثقافة اليونانية القديمة، ولكنها كانت ديمقراطية الصفوة، أما الشعب فلم يكن له رأى وفى العصر الحديث كانت الثورة الفرنسية هى المدخل الحقيقى لقوانين الحريات وحقوق الإنسان وقواعد الديمقراطية، صحيح أن الثورة الفرنسية تعثرت كثيراً وانتكست ولكنها فى النهاية وضعت القواعد التى تؤدى إلى حكم الشعب لنفسه، وكانت فرنسا وبريطانيا هما الدولتان اللتان استقرت فيهما النظم الديمقراطية وكانت الجمعية الوطنية الفرنسية ومجلس العموم البريطانى خير ممثل لتطبيق الديمقراطية.

وفى نفس الوقت كانت الديمقراطية هى التى أعطت الحزب النازى فى ألمانيا نسبة مرتفعة من المقاعد، صحيح أنها لم تصل إلى النصف، إلا أن الشعور الشعبى العام والتأييد الكاسح لهتلر، الذى وعد بإنقاذ الاقتصاد الألمانى وإعادة الكرامة للشعب بعد هزيمته فى الحرب العالمية الأولى واستقطاع أراض من ألمانيا وتوقيع شروط مجحفة عليها، واستغل هتلر الشعور الشعبى والمقاعد التى حصل عليها فى البرلمان، واستخدم سلاح الترهيب والعنف والقتل حتى دانت له السيطرة الكاملة على ألمانيا، وكان هتلر يعتبر أن نظامه ديمقراطى يعبر عن رأى أغلبية الشعب.

معظم دول العالم الثالث قامت جيوش إمبراطوريات مختلفة باحتلالها والسيطرة عليها، وفى حالة مصر احتلها الفرس والإغريق والرومان ثم دخل جيش عمرو بن العاص الذى اختلف المصريون على تسميته بين فتح وغزو، وتوالى حكم دول من الشرق والغرب، وانتهينا بالمماليك والغزو العثمانى، وفى كل هذه الأوقات لم يكن فى العالم شىء اسمه الديمقراطية، حتى استولى محمد على على الحكم واستقل بمصر فعلياً عن الإمبراطورية العثمانية. وكان حاكماً عنيفاً فى معاملة من لا ينصاع إلى أوامره، ولكنه فى نفس الوقت قاد مسيرة إصلاح اقتصادية وعلمية وهندسية وتعليمية قفزت بمصر خطوات إلى الأمام، وتوالى الحكام من أسرة محمد على، وكانوا جميعاً حكاما أوتوقراطيين، وإن اختلفت درجة العنف ومحاولة التحديث أو الانغلاق من حاكم إلى آخر، حتى بداية القرن العشرين ومصر تحت الاحتلال البريطانى، وبدأت برحلة هامة لنضال المصريين تجاه الديمقراطية، وهذا كان يعنى أولاً الانتهاء من الاحتلال الإنجليزى وإعطاء سلطات أكبر للشعب وممثليه، وكانت الهبة الكبرى هى ثورة 1919 التى انتهت باستقلال جزئى ودستور وبرلمان أعطى جزءا من السلطات للشعب، وحدث الانقلاب الأول على الديمقراطية فى طفولتها عام 1930 حين قام صدقى بإلغاء الدستور وحل البرلمان، صحيح أن الدستور عاد مرة أخرى، لكنها كانت بداية مقتل الديمقراطية التى لم تطبق فى مصر فى العصر الحديث. دول العالم الثالث كلها التى مازالت فى دور التجريب فى نظم سياسية مختلفة كلها إما ديكتاتورية صريحة أو ديكور ديمقراطى، والمشاكل التى تعوق التحول الديمقراطى كبيرة للغاية.

الديمقراطية التى بدأت فى أوروبا واستقرت فيها وأصبحت المبدأ والمرجعية لاقت بعض الصعوبات والمشاكل مثل انقلاب اليونان العسكرى فى ستينيات القرن الماضى، والذى استمر بضعة أعوام. بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وانفراط عقد دول أوروبا الشرقية حدث انفتاح ديمقراطى وانتخابات حرة للمرة الأولى، وتحسن الاقتصاد فى بعض الدول وتعثر فى بعضها، ولكن حدث تراجع فى الديمقراطية كمثال المجر الذى يحكمه رئيس شعبوى وله تأييد واسع والديمقراطية فقدت بعض أركانها.

أمريكا، البلد الذى بناه المهاجرون الأوروبيون بالأساس على أساس الديمقراطية واللامركزية والذى استطاع أن يحافظ على النظام الديمقراطى بالرغم من عورات هذا النظام الذى يتحكم فيه رأس المال بدرجة كبيرة. استطاع بعض الفقراء من الأمريكيين، مثل كلينتون وأوباما، الوصول إلى كرسى الرئاسة وإحداث بعض التغييرات فى النظام الاجتماعى والضرائبى والصحى، ولكن مازال كبار الرأسماليين لهم القوة الأعظم. وظهر ذلك فى اكتساح ترامب للانتخابات الأولية للحزب الجمهورى فى عام 2016 أمام عتاة الجمهوريين، وكان هذا الانتصار علامة واضحة على رغبة الجمهوريين والرأسماليين الكبار والقيادات من الأنجلو ساكسون على السيطرة على الحكم فى أمريكا خوفاً من التغيير الديموجرافى الكبير الذى حدث فى أمريكا، وأن الأغلبية من البيض الأنجلوساكسون سوف تصبح أقلية خلال عشر سنوات.

وجاء ترامب وحاول، بكل ما يملك من قوة، أن يأخذ سلطات قريبة من الديكتاتورية، ونجح فى تقسيم الشعب بطريقة لم تحدث من قبل، وقام بتشجيع الأفكار الفاشية وضرورة سيطرة البيض، وحقق نجاحاً اقتصادياً، وكان نجاحه مؤكداً فى انتخابات الفترة الثانية. وحدثت أزمة وباء الكورونا، ولم تنجح تصرفات ترامب العشوائية وغير العلمية فى مكافحة الوباء، وظهر فشله فى الإدارة، مما أعطى فرصة للحزب الديمقراطى لتقديم بايدن، وهو يمثل يمين الحزب الديمقراطى، وبالرغم من تقدمه فى العمر، وأنه لا يملك الكاريزما، فإنه فاز على ترامب بسبب الإدارة الكارثية لوباء الكورونا بواسطة ترامب. ولم يعترف ترامب بنتيجة الانتخابات الديمقراطية، وحاول الانقلاب عليها بجميع الطرق، لكنه فشل ونجح فى إشعال الفتنة والانقسام وتشجيع المتعصبين من أقصى اليمين فى إحداث فوضى ومحاولة إدخال قادة الجيش الأمريكى فى الصراع. فشل ترامب فى تغيير النظام الديمقراطى فى أمريكا ولكنه أحدث شرخاً فيه.

واضح أن الديمقراطية الحقيقية موجودة حالياً فى أوروبا الغربية، وبعض دول أوروبا الشرقية تتمتع بنظام ديمقراطى، والصين، برغم التقدم الاقتصادى، لا يوجد بها حيز حقيقى من الديمقراطية، وحتى دول العالم الثالث التى كانت تتمتع بالديمقراطية، مثل الهند، أصبحت فى مأزق شديد مع وجود رئيس شعبوى. أما بقية العالم الثالث البائس فهو بعيد تماماً عن الديمقراطية، وينطبق ذلك على إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية باستثناءات بسيطة.

قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك.

يوم أن قتلوا البهجة - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 16/8/2021

 توقعت أن تزحف «طالبان» على الأخضر واليابس فى أفغانستان يوم أن قتلوا نزار محمد الممثل الكوميدى وعبثوا بجثته لبث الرعب، وبالفعل تحقق الرعب وانتصر القتلة، نزار كان معروفاً باسم خاشا زوان، وكان مشهوراً بين زملائه بعشقه للتمثيل الكوميدى وبث مقاطع ساخرة على اليوتيوب، عاش فى قندهار معقل طالبان، فوجئ ذات يوم بتكبيل يديه واختطافه فى سيارة، وتم بث فيديو يصفعه فيه جنود طالبان وهم يضحكون، ثم تم بث فيديو آخر لهم وهم يعبثون فى جثته!

قتل البهجة هو أول طريق السقوط والخراب، كان القرار الأول والأهم للطالبانيين هو طمس صور البنات على الإعلانات وتحطيم المانيكانات فى المحلات وبالطبع فرض الشادور «النقاب الأفغانى»، تصاعدت الفاشية الدينية حتى وصلت من محطة قتل البهجة لقتل الحياة نفسها، فقد منعوا لقاح كورونا، وأجبروا الأفغان على عدم أخذ التطعيم، وكانوا من قبل قد هاجموا وطاردوا أفراد قوافل تطعيم شلل الأطفال الذين جاءوا من بلادهم لإنقاذ أطفال أفغانستان وإغلاق آخر بؤرة لهذا المرض اللعين الذى لم تعلن منظمة الصحة العالمية القضاء عليه بسبب أفغانستان فى نسختها الطالبانية، فقد أعلن مسئولون فى مارس الماضى أن مسلحين طالبانيين قتلوا ثلاث نساء يعملن فى مجال التطعيم ضد مرض شلل الأطفال بمدينة جلال أباد فى شرق أفغانستان وأن انفجاراً هز مقر إدارة الصحة الإقليمية لكنه لم يخلّف ضحايا، وفى يونيو الماضى قُتل خمسة عناصر فى فرق التلقيح ضد شلل الأطفال وأُصيب أربعة آخرون بجروح فى سلسلة هجمات منسقة فى ثلاثة أماكن مختلفة فى شرق أفغانستان.

أما عن تطعيم كورونا فقد ذكرت وسائل إعلام أفغانية أن حركة طالبان حظرت التطعيم ضد كورونا فى إقليم باكتيا شرقى البلاد، ونقلت قناة «شمشاد» التليفزيونية الأفغانية عن ولايات خان أحمدزاى رئيس دائرة صحة بكتيا، قوله إن «طالبان التى احتلت المنطقة الأسبوع الماضى حظرت التطعيم فى مستشفى المقاطعة الإقليمى»، وأضاف: «وحدة التطعيم أغلقت لمدة ثلاثة أيام على الأقل وتم إخبار المراجعين بأن اللقاح محظور، كما أن طالبان ألزمت مجموعة التطعيم بوقف المسعفين عن تطعيم المواطنين ضد فيروس كورونا».

هل بمثل هذا اللامنطق ستتحرر أفغانستان وتتحضر؟ هل من يخاصم الإنسانية ويعادى الحياة يستطيع أن يبنى بلداً ويدخل إلى الحداثة؟ والكارثة أن بعضاً من شبابنا يكتب عن انتصار طالبان العظيم وفتح كابول وغزوة قندهار! هل يرون فى السبى والقتل والذبح والرجم تمهيداً لبناء دولة وتشييد أمة والنهوض بوطن؟ العقول التى تؤمن بأن ما يحدث فى أفغانستان هو نصر للإسلام والمسلمين تحتاج إلى إعادة تأهيل نفسى وعقلى.


Sunday, August 15, 2021

الإجهاض رحمة بالجنين وحرية اختيار - الأنبا موسى - 15/8/2021 - المصري اليوم

 أولاً: الإجهاض رحمة بالجنين:

تتمنى كل أسرة أن يكون مولودها كامل الصحة الجسدية والعقلية، فولادة طفل مريض بمرض وراثى أو معوق جسديًا أو ذهنياً، تمثل تجربة قاسية للأسرة، وتحتاج الأسرة إلى إيمان قوى وثقة عملية ومساعدة وتشجيع الآخرين لاحتمالها.

فى الوقت الحالى يمكن للطب أن يعرف الأم قبل الولادة، إن كان الطفل سيولد بمرض وراثى أو بإعاقة جسدية أو ذهنية. حقًا لا يستطيع الطب أن يكشف جميع الحالات، كما أن ما يعلنه الطب فى هذا المجال تختلف فيه درجة اليقين من حالة إلى أخرى.

هذا التطور الطبى أوجد مواقف جديدة بالنسبة للأسرة. فحينما تعلم الأسرة أن المولود المنتظر سوف يُولد مريضًا أو مشوهًا أو متخلفًا عقليًا، ومن الناحية الطبيعية حدوث ذلك أمر مؤكد. ماذا تفعل الأسرة؟ خاصة أنها معرفة لا يصاحبها أمل فى علاج: هل تلجأ الأسرة إلى الإجهاض رحمة بهذا الجنين الذى لا ذنب له فيما سوف يعانيه؟ ورحمة بالأسرة نفسها؟ حقاً إنه موقف صعب.

لمساعدة مثل هذه الأسرة أن تتخذ القرار السليم من الناحية الدينية، لندعوها أن تتخيل أنها لم تعلم بهذا من قبل الولادة ووجدت نفسها ومعها مولود برىء مريض أو متخلف عقليًا يعانى، وبالتأكيد هى أيضًا تتألم وتعانى معه فماذا تفعل؟ بالطبع سوف تفعل الكثير من أجل رعايته وعلاجه، وتلجأ إلى المراكز المتخصصة لمساعدتها، وتسعى وراء كل أمل لأجل علاج وراحة هذا المولود. ولكن هل ستلجأ إلى قتله رحمة به وبنفسها؟ لا أعتقد أن أحداً له إحساس روحى وضمير مدقق، يمكن أن يوافق على فكرة القتل،

.. لأنه ليس من حق أحد أن يقتل مولودًا بريئًا بسبب مرضه أو تخلفه العقلى أو... إن المرض أو الإعاقة الجسدية أو الذهنية، لا تبرر إنهاء حياة كائن حى، حتى لو كان ذلك بدافع الرحمة والشفقة عليه، وإن اتفقنا على هذا المبدأ، ننتقل إلى السؤال التالى: هل نؤمن بأن الجنين فى بطن أمه هو كائن حى؟ وهل نؤمن بأن معرفتنا أنه سيولد مريضًا، معوقاً جسديًا أو ذهنيًا، لا تغير من حقيقة كونه كائنًا حيًا؟ إن كنا نؤمن بهذا فهل نستطيع أن نعطى لأنفسنا الحق أن ننهى حياة هذا الجنين، بسبب أنه سيولد مريضًا أو معوقًا؟ صوت الله داخلنا يقول: لا يحل لنا هذا، وأيضًا ليس لدى الله شىء غير مستطاع!

ثانيًا: الإجهاض وحرية المرأة فى الاختيار:

فى بعض المجتمعات الغربية خاصة أمريكا، تنادى بعض المجموعات داخل حركة تحرير المرأة، بالسماح بالإجهاض على أساس أنه حق من حقوق المرأة أن تختار بين استمرار الحمل أو إنهائه! وتسمى هذه المجموعات Pro - Choice Groups وعلى الجانب الآخر تطالب مجموعات أخرى برفض الإجهاض، على أساس حق الجنين فى الحياة وتسمى Pro - life Groups.

كذلك بعض المجتمعات الأوروبية ينادون بأن المرأة هى صاحبة القرار حيث ينص قانون الإجهاض على أن المرأة الحامل هى التى تقرر ما إذا كانت تريد إجراء الإجهاض أم لا. كما أنه يحق لها أن تغيّر رأيها متى شاءت قبل إجراء الإجهاض نفسه. وكذلك يقولون من الحكمة أن تتحدث الأم إلى والد الطفل المنتظر حول ما تريد أن تفعله، ويفضل أن يتوصل كلاهما معًا إلى اتخاذ قرار مشترك، وعدا ذلك فإن القرار هو لها وحدها، وتتخذه بمحض إرادتها.

من الواضح أنه لا يمكن الموافقة من الناحية الدينية على حرية كائن ما، على حساب كائن آخر. فلا يمكن الموافقة على حرية الاختيار للمرأة، على حساب كائن حى، حتى لو كان جنينها الذى يوجد داخل بطنها، فالإنسان الروحى له حدود فى سلوكه، من جهة جسده وأعضائه. فكم بالحرى من جهة كائن آخر...

أما حرية المرأة فى هذا المجال، فهى حرية اختيار سابقة للحمل. فالمرأة حرة أن تتزوج أو لا تتزوج. وفى نطاق الزواج، لها قدر من الحرية أن تحمل أو لا تحمل. فالاختيار قبل الحمل وليس بعده.

حماية المرأة من الإجهاض:

منذ فترة أطلقت منظمة الصحة العالمية حملة للتوعية بمخاطر الحمل والإجهاض، فى شهر أكتوبر باعتباره شهر التوعية بمخاطر الإجهاض وفقدان الأطفال، نتيجة الظروف غير الصحية أثناء الحمل.

وكانت هذه الحملة عبر تويتر، حيث ذكرت المنظمة أن 30 مليون امرأة حول العالم لا يلدن فى مكان صحى أو مستشفى، و45 مليون امرأة لا يتلقين رعاية كافية قبل الولادة، وكل هذه الأمور تسبب الإجهاض وفقدان الطفل أثناء الحمل.. كم من عواقر فى الكتاب المقدس صلين إلى الله لكى ينعم عليهن بطفل، فالأطفال هم هبة من الرب وهم عطية ومكافأة منه، فلنفرح بالرب ونشكره من أجل عطيته لنا.

■ ■ ■

يذكر أننا تحدثنا فى العدد الماضى عن الإجهاض، وذكرنا:

أولاً: ما هو الإجهاض؟

ثانيًا: هل من حق المرأة أن تنهى الحمل بالإجهاض؟

ثالثًا: بعض الأسباب التى تدفع الأم أو الأسرة للتفكير فى الإجهاض ومنها:

1- الإجهاض كوسيلة لتنظيم الأسرة

2- الإجهاض كوسيلة لإخفاء آثار الخطيئة.

أسقف الشباب العام

بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية.