Translate

Sunday, March 27, 2022

الأم.. عماد الأسرة - الأنبا موسى - المصري اليوم - 27/3/2022

 كرمت الأديان الوالدين والأم بصفة خاصة، لأهمية الدور الذى تقوم به فى شتى مجالات الحياة، وفى العهد القديم شبه إلهنا العظيم علاقته بالإنسان بعلاقة الأم مع أولادها قائلاً: «هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟، حَتَّى هؤُلاَءِ يَنْسَيْنَ، وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ» (إشعياء 49: 15)، وقد قيل: أعمق عاطفة فى المرأة هى الأمومة.

- لا يختلف اثنان على حنان الأم وحبها.. وحتى تلك الحالات الفردية التى تبدو فيها قسوة من الأم على وليدها هى حالات عارضة ومَرضية.. والعكس بالعكس، إذ لا يختلف اثنان على حب الأولاد لأمهم.

- ولكن.. هل نختلف معًا إذا قلنا إن أمورًا أخرى دخلت حياة الأم، وأصبحت قد تحد من حبها لأولادها، أو تستنزفه؟!، هل ننكر أن «المادة» فى حياة الأسرة أصبحت لها قيمة كبيرة، قادرة على إزاحة قيمة الحب، والعطاء للأسرة. أعرف أن كثيرين سيصرخون: إنها الظروف الاقتصادية ونحن لا ننكر ذلك.

- لكن.. ألا يحدث أحيانًا أن حسابات الربح والخسارة المادية تجب حسابات الربح والخسارة الوجدانية داخل الأسرة؟!.

- هل نقبل أن تأخذ الأم إجازة بدون مرتب، فترة كافية، لتستطيع أن تضع وجدانات أطفالها على الطريق الصحيح، وترضعهم لبن الإيمان والمبادئ والقيم مع لبن الرضاعة؟.

- وفى مراحل تالية من العمر، مرحلة المراهقة مثلاً، هل نطمئن أن الوقت الكافى والحنان الكافى والرعاية الكافية، أمور تستحق اهتمامنا ولو على حساب الدخل المادى؟!.

- هل هو «الاكتناز» خوفًا من المستقبل، وكأن المال هو فقط عماد الحياة، وما سنورثه لأولادنا، أم أننا مقتنعون أن الثروة الحقيقية ثروة قيم، وروح، ومبادئ، وتربية؟!.

- هل هو «تحقيق الذات»، الذى يحرك جهود الأم، ليكون لها وضعها فى المجتمع، أم أن «عطاء الذات» للأولاد هو الأكثر نفعًا ودوامًا؟!.

أولاً: أوصى الله بالوالدين:

وردت وصية إكرام الوالدين عدة مرات فى الكتاب المقدس ومنها:

- «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ، وَلِكَيْ يَكُونَ لَكَ خَيْرٌ علَى الأَرْضِ الَّتِى يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ»‏ (خروج 12:20) - (تثنية ٥:‏١٦)- (أفسس6: 2).

وفى سفر يشوع بن نون الإصحاح الثالث:

- «منْ أَكْرَمَ أَبَاهُ سُرَّ بِأَوْلاَدِهِ، وَفِى يَوْمِ صَلاَتِهِ يُسْتَجَابُ لَهُ».

- «َمَنِ احْتَرَمَ أُمَّهُ، فَهُوَ كَمُدَّخِرِ الْكُنُوز».

- «يَا بَنِيَّ، اِسْمَعُوا أَقْوَالَ أَبِيكُمْ، وَاعْمَلُوا بِهَا لِكَى تَخْلُصُوا».

ثانيًا: ماذا نحتاج من الوالدين؟

1- الحب: الإنسان هو الكائن الوحيد الذى لا يستطيع الاعتماد على نفسه، والانعزال تمامًا بدءًا من ولادته وحتى مماته. فنحن نعتمد على الوالدين، ليس فقط فى الطعام المادى الذى يغذى جسدنا، وإنما فى طعام أهم يغذى كياننا كله وهو الحب، فالإنسان كائن اجتماعى يريد أن يكون محبوبًا ومُحبًا.. فنحتاج إلى حضن دافئ هو صدرهما الحنون، مع الكلمات الحلوة واللمسات الرقيقة، والوجه البشوش.

2- الإيمان: يشبه الإيمان بالوديعة التى هى الشىء الثمين الذى يسلمه جيل بعد جيل، نتعرف منهما على الله وصفاته ووصاياه، وكيف نستطيع أن نحبه. فالآباء والأمهات يهتمون بأن يشجعوا أولادهم وبناتهم على الصلاة، وقراءة الكتب المقدسة، والذهاب إلى دور العبادة، فسنظل طوال حياتنا نشعر أننا مديونون لهما بهذا الأساس الروحى.

3- الفكر والخبرة: إن والدينا هما المصدر الأول الذى غذى أذهاننا بهذا الوعى، وهذه الحكمة، لقد ساعدونا فى إشباع قدراتنا: على التفكير، والتخيل، والتذكر، والبحث، والإبداع.

4- الرعاية الجسدية: عندما تنظر إلى جسدك الآن، فلتسأل نفسك من أين أتت الخلايا الأولى لجسمك؟!، أليست من أحشاء والدتك؟!، ومازال والدك يتعب ويكد ليقدم للأسرة الاحتياجات اللازمة.

ثالثًا: واجبنا نحو الوالدين:

1- الاحترام والإكرام: صورة مثالية لإكرام الأم فى حياة سليمان الملك عندما دخلت أمه عليه يقول الكتاب المقدس: «فَقَامَ الْمَلِكُ لِلِقَائِهَا وَسَجَدَ لَهَا وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَوَضَعَ كُرْسِيًّا لأُمِّ الْمَلِكِ فَجَلَسَتْ عَنْ يَمِينِهِ» (1ملوك 19:2). «مَنِ احْتَرَمَ أَبَاهُ طَالَتْ أَيَّامُهُ، وَمَنْ أَطَاعَ أَبَاهُ أَرَاحَ أُمَّهُ» (يشوع بن نون7:3). «ملعون من يستخف بأبيه أو أمه» (تثنية16:7). «من ضرب أباه وأمه يقتل.. ومن شتم أباه وامه يقتل قتلاً» (خر15:21،17).

2- الاعتناء بهما: حين يأتى وقت يحتاج فيه الوالدان إلى دعم أبنائهما خاصة فى السن المتقدمة، فقد أوصى السيد المسيح تلميذه يوحنا الحبيب بالاعتناء بوالدته السيدة العذراء: «هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟، حَتَّى هؤُلاَءِ يَنْسَيْنَ، وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ».

3- الطاعة والخضوع لهما: علينا أن نطيع الوالدين، فطاعتهما بركة لنا، وأوصى الكتاب المقدس: «أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِى الرَّبِّ لأَنَّ هذَا حَقٌّ» (أفسس6: 1).

4- الشكر والتقدير: على كل ما يفعلانه ويوصى الكتاب المقدس أن تفتخر بهما، فإن «فَخْرُ الْبَنِينَ آبَاؤُهُمْ» (الأمثال 6:17). «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمْ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا» (متى 4:15).

5- قبول التأديب والتوبيخ: محبة الأبناء للآباء لا تقاس فقط بمدى الخضوع والطاعة لأوامر وتوجيهات ونصائح. بل فى فرح بالتأديب لأن فيه: حبًا وخضوعًا لله، واقتناءً للحكمة وغنى ومجدًا.

- فى يوم تكريم الأم المثالية أثنى فخامة الرئيس السيسى على أهمية دور المرأة المصرية فى تكوين الأسرة وتنشئة الأولاد والمجتمع والوطن، وذكر فخامته: أن احترام المرأة وحمايتها وتمكينها واجب وطنى، والتزام سياسى، وليس منحة من الدولة، فالمرأة المصرية هى التى صنعت مجد هذا الوطن، لذلك أسند إليها وظائف لم تكن تشغلها من قبل، حفظ الله عائلاتنا وأسرنا ومجتمعاتنا ومصرنا الحبيبة.

Thursday, March 24, 2022

المشهد الأخير لـ«ألان ديلون» - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 23/3/2022

صدمة لكل عشاق واحد من أكثر الفنانين وسامة فى تاريخ السينما، وهو الممثل الفرنسى ألان ديلون، بعد تصريح ابنه أنتونى فى مقابلة تليفزيونية لقناة «آر تى إل» الفرنسية، والذى قال فيه إن والده طلب إنهاء آلامه ومعاناته مع المرض بالموت الرحيم فى سويسرا بعد تدهور حالته الصحية المستمر منذ 2019، بعد إصابته بجلطة دماغية، إضافة إلى آلام فى القلب يعانى منها منذ 2012، كما كشف الابن أن والدته الممثلة الفرنسية ناتالى ديلون طلبت الموت الرحيم أيضاً عقب اكتشافها إصابتها بمرض سرطان البنكرياس، إلا أنها توفيت قبلها عن عمر 79 عاماً.

وكان ألان ديلون قال فى تصريح صحفى عام 2018 إن الموت ليس من مخاوفه، لكنه لا يرغب بالرحيل مع الآلام، لذلك بدأ يشعر برغبة فى «مغادرة هذا العالم الفاسد»، حسب ما وصفه، لكنه لا يريد الموت بمفرده «بل مع كلبه» الذى أوصى بيطرياً ليحقنه بمادة خاصة، بحيث يلحق به.

الموت الرحيم «Euthanasia» هى كلمة مشتقة من اللغة اليونانية، وتعنى إنهاء حياة الإنسان عن قصد، قد يحدث ذلك عن طريق حقن الطبيب المريض بعقار مميت بهدف تخفيف ألمه ومعاناته، إذا كان مصاباً بمرض لا يُرجى شفاؤه، ويعانى باستمرار، ولا يوجد ما يخفف هذه المعاناة، وهو إجراء قانونى فى بلجيكا ولوكسمبورج وهولندا وسويسرا وبعض ولايات أمريكا مثل واشنطن، لكن لماذا اختار ألان ديلون سويسرا؟ لأنها بالفعل أشهر بلد تتنوع فيه وسائل الموت الرحيم، بل ويبدع فيها، ففى عام 2020، اختار نحو 1300 شخص إنهاء حياتهم بشكل إرادى فى سويسرا، من خلال اللجوء إلى خدمات أكبر مُنظَمَتين متخصصتين فى الانتحار بمساعدة الغير هى Exit و(Dignitas).

أشهر الطرق هناك للموت الاختيارى هى من خلال تناول مادة بنتوباربيتال الصوديوم السائلة، بعد تناول هذا العقار، ينام الشخص خلال دقيقتين إلى خمس دقائق، قبل أن يدخل فى غيبوبة عميقة، يتبعها الموت بعد فترة وجيزة، وقد يكون الممثل الفرنسى الوسيم هو من أوائل من سيستخدم كبسولة ساركو للموت الرحيم وهى أحدث اختراع فى سويسرا لهذه المهمة، جهاز «ساركو» عبارة عن كبسولة مصنوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، تسمح لمستخدمها الراغب فى الموت بتشغيلها من الداخل، ويمكن سحب هذه الآلة ووضعها فى المكان الذى يرغب الشخص المعنى بإنهاء حياته فيه، وقد يكون هذا فى بقعة هادئة فى الهواء الطلق، أو فى مبنى إحدى المنظمات التى تقدم المساعدة للأشخاص الراغبين بالانتحار.

لتشغيل هذه الكبسولة، يستلقى الشخص بداخلها، ويُطرح على الراغبين فى الموت عدد من الأسئلة، وعقب أجابتهم، يمكنهم الضغط على زر خاص موجود داخل الكبسولة لتفعيل آلية العمل فى الوقت الذى يناسبهم، هذه الكبسولة مُثبّتة على قاعدة ثلاثية الأبعاد تحتوى على عبوات النيتروجين السائل التى ينطلق منها الغاز إلى الكبسولة، مما يُقَلّل مستوى الأوكسجين بشكل سريع من 25% إلى أقل من 1%، وينتج عن ذلك شعور الشخص بنوع من الضبابية، كما قد يشعر ببعض النشوة قبل أن يفقد وعيه.

أمير الوسامة فى العالم أثار غيرة الرجال فى حياته، فهل سيثير الجدل فى مماته؟

Wednesday, March 23, 2022

يعشقون الشقراء ويتغزلون فى السمراء! - طارق الشناوي - المصري اليوم - 23/3/2022

 (قالوا البياض أحلى ولا السمار أحلى؟/ قلت اللى شارينى جوه العيون يحلى)، نظرة (برجماتية) نفعية عبرت عنها كلمات أبو السعود الإبيارى وموسيقى محمد عبد الوهاب بصوت سعاد مكاوى، وقفت الأغنية على الحياد، فى انتظار أن ترمى المرأة أولًا (بياضها)، المقصود هذه المرة ليس لون بشرتها، ولكن تُفصح عن مشاعرها، تُشكل هذه الأغنية الاستثناء، لأننا فى أغلب أغانينا نتغزل فى السمراء، وكأننا ننفى عن أنفسنا التعلق بالشقراء، مثلًا غنى عبد الحليم حافظ قصيدة (سمراء يا حلم الطفولة)، ثم (أسمر يا اسمرانى) التى غنتها أيضًا فايزة أحمد.. وقالت نجاة (سمارة سمارة)، وصباح الشقراء دافعت عن الرجل قائلة (أسمر أسمر طيب ماله)، ومحمد قنديل تغزل فى (أبو سمرة السكرة)، ولم يكتف بهذا القدر.

بل وجه أيضًا هذا النداء (جميل وأسمر/ بيتمخطر)، وشادية (آه يا أسمرانى اللون) قال مؤلف الأغنية عبد الرحمن الأبنودى إنه كان يقصد التغزل فى الأسمر جمال عبد الناصر، بينما شريفة فاضل ذكرت أنها كانت تقصد أنور السادات عندما قالت (أسمر يا سمارة يا أبو دم خفيف)، هذه الأغنيات وغيرها تحمل فى عمقها اعتذارًا، لأنها تعبر عن إحساس كامن بالذنب تجاه السمر، دائمًا النجمات الأكثر بريقًا وإشعاعًا واللائى تتهافت عليهن السينما هن أصحاب البشرة البيضاء، يبدو وكأننا نحب البيضاء ونهيم عشقًا بها سرًا، ثم نغنى للسمراء علنا قبل أن تفضحنا عيوننا، أحيانًا نطلق على من يميلون للون القمحى لقب أسمر، هكذا قالوا عن مديحة يسرى فى الأربعينيات (النجمة السمراء).

كان لقب الأسمر محببًا للفنانين وأطلقوه أيضًا على عبد الحليم حافظ (العندليب الأسمر) لا مديحة ولا عبد الحليم لهما علاقة قربى أو نسب باللون الأسمر!!.

نتذكر مثلًا كيف أن أحمد زكى- أول نجم أسمر حقيقى فى السينما- لاقى صعوبات فى أن يجد لنفسه مساحة على الخريطة السينمائية، تم استبداله فى اللحظات الأخيرة بنور الشريف فى فيلم (الكرنك) بسبب لون بشرته لأن أحد كبار المنتجين (رمسيس نجيب) قال كيف يحب هذا الأسمر سعاد حسنى وتبادله سعاد الحب؟، إنه لا يصلح إلا لأداء دور الجرسون!!.. وحكى لى المخرج عاطف سالم كيف أنه فرض اسم أحمد زكى على الموزعين فى فيلمه (النمر الأسود)، لأنه كان من المستحيل أن يسند البطولة لنجم أبيض وعنوان الفيلم (النمر الأسود)!!. ولادة أحمد زكى الفنية تعانقت مع جيل من المخرجين أمثال عاطف الطيب ومحمد خان وخيرى بشارة وداود عبد السيد هؤلاء أرادوا أن يتمردوا على الملامح التقليدية للنجم، فكان رهانهم على أحمد زكى.

أما على الشاشة الصغيرة، ستكتشف أن حظ المذيعة السمراء قليل جدًا، بل جدًا جدًا، وأضف ما شئت من جدًا، المذيعة أوبرا وينفرى لو تواجدت عندنا لواجهت تعنتًا وتجاهلًا، ربما فى الغناء وجدنا توازنًا لونيًا حققه محمد منير، ثم شيرين، محمد منير على مدى يتجاوز 40 عامًا يواصل نجاحه الأسطورى، ولا أحد يستطيع أن يلاحقه من جيله ولا من الأجيال التالية، شيرين هى الأغلى فى السوق الغنائية، فهى الأقرب لقلوب الناس فى مصر والعالم العربى.

علينا أن ندرك أن هناك من ينحاز إلى اللون الأبيض فى العالم كله، ونجمات هوليوود أمثال السمراء هال بيرى- الحاصلة على الأوسكار- صرحت بتلك العنصرية، ولو قارنت مساحة تواجدها بما حققته مثلًا الشقراء نيكول كيدمان لاكتشفت الفارق الشاسع بينهما، وهو بالمناسبة لا يعبر عن فارق فى الموهبة، ولكن فى تقبل الجمهور لهما، وقانا الله وإياكم شر عنصرية اللون!!.


Tuesday, March 22, 2022

أمى - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 22/3/2022

 عندما توفيت أمى سعاد فى سن السادسة والعشرين، وأنا ما زلت طفلاً فى المدرسة الابتدائية، قلّبت فى أدراجها بفضول طفل لا يصدق أن أمه قد رحلت، جذبتها جميعاً حتى أسقطتها وتناثر كل ما فيها بعشوائية على أرض الغرفة، بحثاً عن بقايا رائحة عطر أو فتات ذكرى أو قصاصة تحمل ظل توقيع باهت لم يطمسه الزمن، وجدت ملفاً مكتوباً عليه معهد القلب وحالة المريضة MITRAL STENOSIS، بحثت فى قاموسى المدرسى عن الترجمة، وجدت معناها ضيقاً فى الصمام الميترالى!، ظلت هذه الكلمات ترن فى أذنى حتى دخلت كلية الطب وعرفت أن هذا الضيق نتيجة لروماتيزم القلب الذى دخل متحف التاريخ فى الدول المتحضّرة، ولكنه للأسف كان ينهش قلوب أطفالنا فى مصر المحروسة.

عندما زُرت معهد القلب القومى، كان أول ما شاهدته وسألت عنه هو ماذا يفعل مريض ضيق الصمام الميترالى فى المعهد، وكم عدد ضحاياه الذين لحقوا بأمى التى ظلت ست ساعات داخل غرفة العمليات لتغيير صمام؟ ثم انتهت الجراحة بمضاعفات جلطة، ثم مرت فترة ورحلت أمى العزيزة، التى لم يكن يستطيع ترجمة كلماتها المدغومة وحروفها المتعثرة بسبب الجلطة إلا طفل فى التاسعة من عمره يكتم دموعه لكى يوهمها بأنها مفهومة ومعبرة وواضحة، كنت أتحمل عبء هذه الترجمة الفورية وأنا أدعو لها بالشفاء، ولكنى ودعتها وهى فى ريعان الشباب، وجدت مرضى الصمام الميترالى يجلسون ربع ساعة لتوسيع الصمام ثم يغادرون المعهد فى تمام العافية والحمد لله، وجدت نفسى أهمس لمن حولى ممن لا يعرفون القصة، وبلا وعى، أين أنت يا أمى الحبيبة الآن؟!، العلم يتقدم ويطبطب على جراح البشر بيده الحانية، مثلما قالوا لى فى معهد الكبد لو كان عبدالحليم عايش دلوقتى كان عمل زرع كبد وأنقذناه، لكن الأعمار بيد الله!، تمنيت لو تحقق الكلام نفسه على أمى الحنون لكى أنعم بحضنها الدافئ فى زمن بخيل ضنين يوزّع فيه الحب بالقطارة والكراهية بالقنطار!

فى عيدك يا أمى أتذكر قصيدة نزار:

عرفت نساء أوروبا.. عرفت عواطف الأسمنت والخشب عرفت حضارة التعب.. وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر ولم أعثر.. على امرأةٍ تمشط شعرى الأشقر وتحمل فى حقيبتها.. إلى عرائس السكر وتكسونى إذا أعرى وتنشلنى إذا أعثر أيا أمى.. أيا أمى.. أنا الولد الذى أبحر ولا زالت بخاطره تعيش عروسة السكر فكيف.. فكيف يا أمى غدوت أباً.. ولم أكبر؟

وقصيدة البردونى:

آه «يا أمّى» وأشواك الأسى.. تلهب الأوجاع فى قلبى المذاب/ فيك ودّعت شبابى والصبا.. وانطوت خلفى حلاوات التصابى/ كيف أنساك وذكراك على.. سفر أيّامى كتاب فى كتاب/ إنّ ذكراك ورائى وعلى وجهتى، حيث مجيئى وذهابى/ كم تذكّرت يديك وهما فى يدى أو فى طعامى وشرابى/ كان يضنيك نحولى وإذا مسّنى البرد فزنداك ثيابى/ وإذا أبكانى الجوع ولم تملكى شيئاً سوى الوعد الكذّاب/ هدهدت كفاك رأسى مثلما هدهد الفجر رياحين الرّوابى.


Sunday, March 20, 2022

كن مرنًا! - الأنبا موسى - المصري اليوم - 20/3/2022

 كلمة «مرونة» كلمة واسعة المعانى، فإن أردنا أن نعرفها نقول إن المرونة تعنى الآتى:

1- قدرة الشخص على التكيف مع المحيط البيئى الواقع فيه.

2- قدرة الشخص على التأقلم على ظروف الحياة المختلفة.

3- قدرة الفرد على تقبل التغيير فى حياته.

4- قدرة الشخص فى قبول الآخر، أيًّا كان ومهما كان! ودائمًا ننصح الشباب بقولنا: «زامل الكل وصادق من يبنيك».

5- تقبل النقد والتعلم من الأخطاء، فلا يوجد إنسان فى العالم يخلو من العيوب.

6- المرونة هى ألا نتحدى العاصفة، بل نمر من تحتها.

7- قدرة الفرد على تحقيق أهدافه بطرق مختلفة غير الطرق المألوف عليها، المهم أن تكون سليمة!.

8- المرونة لا تعنى التخلى عن المبادئ، ولكن المرونة القوية تجعلنا ملتزمين بأهدافنا ومبادئنا، ولكن مرنين فى طريقة وأسلوب الوصول إليها.

ودائمًا يقولون لنا: «لا تكن يابسًا فتنكسر، ولا تكن لينًا فتُعصر!»، فحين يكون الإنسان (يابسًا)، متصلبًا، متحجرًا، ويواجه ضغوط الحياة، سينكسر حتمًا!! وحين يكون (لينًا)، متساهلًا، متهاونًا، يعصره الناس، وتطحنه الأحداث!!

ويتحدث علماء النفس عن نوعين من المرونة:

1- المرونة الضعيفة (Week Flexibility): ومعناها «معاهم معاهم، وعليهم عليهم».. أو «التلون» مثل «الحرباء»! فهى تأخذ اللون الأخضر حينما تسير فى أرض مزروعة، واللون الأصفر حينما تسير فى أرض صحراوية، وذلك كنوع من الاختفاء حتى لا يؤذيها أحد!.

نرى ذلك فى «الحرباء» الضعيفة التى أعطاها الله هذه القدرة حماية لها.. ولكنه لا يجوز فى الإنسان المخلوق بحسب صورة الله، والذى أعطاه الله:

1- روحًا: تشبع به، وتتصل بالخلود والسمائيات.

2- وعقلًا: قادرًا على التفكير والتحليل والاستنتاج.

3- بالإضافة إلى الجسد الذى يتحرك.

4- والنفس التى تحتوى على: أ- المشاعر ب- الغرائز ج- العواطف.

- المرونة الضعيفة تشبه «السمكة الميتة» أو حتى «الحوت الضخم الميت»، الذى يسير مسرعًا مع التيار باستمرار، إلى أن يطرحه التيار على الشاطئ وينتهى تمامًا!.

- أما المرونة القوية فهى كالسمكة الحية التى تسبح مع التيار حين تريد، وضد التيار حين تشاء!

2- المرونة القوية (strong Flexibility): والمقصود بها أن يكون الإنسان قويًا، وحيًا قادرًا على التفكير والفرز والاختيار، وهكذا يختار أن يسير مع «التيار» حين يكون مناسبًا وبنّاءً، أو «ضد» التيار حين يكون غير مناسب وهدامًا!. والأمر هنا قد يكون:

أ- الأشخاص: حين نختار زميلًا للصداقة ونرفض آخر.. دون أن نقاطعه أو نخسره، ولكن نبقيه فى حدود «الزميل وليس الصديق».

ب- البرامج: على الإنترنت أو مواقع التواصل الاجتماعى أو التليفزيون.. هذا يبنى ويفيد، وذاك يضر ويؤذى.

ج- خطوط الحياة: أى التوجيهات التى تراها نافعة، وتلك التى تراها هدامة!

هناك شاب يقضى وقته أمام: «الفيسبوك» أو حجرات الدردشة أو الأفلام الإباحية، أو مواقع لقاءات معثرة ومتعبة.. نعم هو حرّ فى نفسيته، واجتماعياته، وحتى صحته الجسدية، ولكنه يضر نفسه، لذلك عليه أن يجتهد فى أن:

أ- يملك روحًا شبعانة بنعمة الله: «اَلنَّفْسُ الشَّبْعَانَةُ تَدُوسُ الْعَسَلَ، وَلِلنَّفْسِ الْجَائِعَةِ كُلُّ مُرّ حُلْوٌ». (أمثال 7:27)، والروح تشبع من خلال: قراءة الكتب المقدسة، والصلاة، والنشاط البنّاء، والثقافة السليمة، التى تعمل على ملء الفراغ الإنسانى الداخلى، والذى لا تشبعه مادة، ولا خطيئة، ولا العالم كله، بل يشبعه الله غير المحدود!

ب- يملك ذهنًا مستنيرًا: وهذا ما يسميه المفكرون «العقل النقدى» (critical mind) أى الذهن القادر على أن يفرز الغث من السمين! حينما يقرأ كتابًا.. أو يشاهد برنامجًا.. أو يستمع إلى صديق.. أو تعرض عليه فكرة.. فيصبح قادرًا بنعمة الله ونوره الداخلى أن يميز بين الإيجابى والسلبى، وبين البنّاء والهدّام، والمشكلة

ليست فى «التمييز» فقط، ولكن فى «التنفيذ» أيضًا. أى حين أشتاق إلى شىء هدام «أستطيع» أن أرفض ولا أسقط فيه، وحين أرى أمرًا آخر أنه «بنّاء» أستطيع أن أمارسه وألتزم به: مثل حياة الطهارة، أو ضبط النفس والحواس، أو ممارسة أنشطة بناءة متنوعة.

- لذلك يجب أن نقتنى المرونة القوية، التى تعطينا إمكانية السير مع التيار (حين تكون الأمور سليمة)، وضد التيار (فى الأمور الخاطئة)، فالمرونة الضعيفة هى طريق الضياع فى الدنيا والآخرة، بينما انفتاح الإنسان بالحب على الآخرين لا يعنى بالضرورة عدم وجود ضوابط للعلاقة، فكل ما هو مباح بصفة مطلقة يفقد قيمته ومعناه؛ لذا يجب أن تكون العلاقة مع الآخرين ذات أبعاد مناسبة حسب طبيعة العلاقة، وإلا لن تظل هذه العلاقة سليمة.

- فلنهرب من القوالب الجامدة أو التقسيمات الثابتة كأساس، ففى كل يوم تطرح علينا الحياة أطروحات وأشكالًا مختلفة للعلاقات بين البشر، علينا أن نتفاعل معها لأن صور العلاقات يمكن أن تتغير، ولكن دون أن تتأثر المحبة. لذلك لا بد من «المرونة القوية» ومحبة الجميع على الرغم من أى اختلاف بيننا فى أساليب التفكير أو الحياة. ولربنا كل المجد إلى الأبد آمين.

الموبايل ضاع - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 19/3/2022

 كم النكد والهلع والحزن والرعب الذى ظهر على ملامح صديقى ورعشة صوته وانتفاضة جسده بل وفيضان دموعه، كل هذا منحنى إحساساً بأنه فقد أمه أو ابنه، كانت المفاجأة أن صديقى قد فقد الموبايل!! كاد صديقى يلطم، لكنى بعد تفكير هادئ أدركت أن هذا الهلع سيوجد عندنا جميعاً عندما نواجه تلك اللحظة المرعبة، نجح العصر الحديث ونجحت إمبراطوريات صناعة الاتصالات أن تجعل الإنسان خادماً للموبايل وليس العكس، يستخدم بضم الياء أكثر مما يستخدم! ضياع الموبايل فى هذا الزمن الذى صرنا عبيداً فيه للموبايل كارثة، صار فقداً للذات وليس لموبايل، صرنا نكتب عليه أرقامنا السرية وعليه كل صورنا وكتاباتنا ومواعيدنا وأسرارنا وحماقاتنا.. إلخ، وكما أن هناك الجهاز العصبى والهضمى والدورى والتنفسى لا بد أن نضم الجهاز الموبايلى الخلوى كجهاز إضافى داخل أجسادنا فلقد صار جزءاً من النسيج والهوية.

قيسوا النكد والهم بعد ضياع الموبايل وأنتم تعرفون كم صار سيداً لنا وعلينا، إحساسك وأنت نازل ثم ركبت العربية أو الأوبر أو الأوتوبيس ثم تحسست جيبك فلم تجد الموبايل، إحساس هلع ولف وارجع تانى وعودة للبيت لتبحث عنه كالمجنون! لو أنت كبير فى السن ستحاول أن تطمئن نفسك بأنك عشت أكثر من نصف عمرك بدون موبايل معتمداً على التليفون الأرضى الذى كان يجمع بعد ساعتين وأحياناً يدخل فى السماعة معك معلق كرة القدم أو معلم القهوة!! وكنت عايش ومبسوط ومنشكح كمان، لكن كل هذا الإقناع بدون طائل وبلا فائدة، أما إذا كنت شاباً أو مراهقاً فهذا التخيل وتلك الطريقة الإقناعية لا مكان لها فى ذاكرتك وعقلك نهائياً، فأنت قد ولدت مقتنعاً بأن من ضمن أساسيات الحياة الأوكسجين والموبايل، لذلك بطل هذا الزمن الذى يماثل أبطال الإغريق هو الشخص الذى ما زال مصراً على ألا يحمل موبايل!! هذا يجب أن يحصل على نوبل وأن ينحت له تمثال فى متحف مدام توسو، كنت فى غاية الاندهاش عندما تقول لى د. نوال السعداوى اطلبنى على الأرضى أنا لا أستخدم الموبايل، وكذلك الروائى صنع الله إبراهيم الذى لا أعرف هل تخلى عن مسألة الارتباط بالتليفون الأرضى أم لا؟ صارت الزوجة تتفاخر بأنها تستطيع أن تأنى بزوجها وأخباره من أى مكان حتى ولو كان فى الحمام بيت الراحة!! وصار نوع الموبايل والشبق لتغيير موديلاته كل سنة هستيريا تعالٍ طبقى وصراخ لتضخم الهوية ووسيلة من وسائل التحقق، صار ضياع موبايلك موازياً لحريق بيتك وضياع أوراق هويتك وشهادات ميلادك وتخرجك بل أشد قسوة، إذا سرق موبايلك حرامى بموتوسيكل تصعد فجأة إلى رأسك وتغلى كل مشاعر الزومبى وغرائز إنسان الغاب الذى يريد أكل الحرامى بأسنانه من شدة الغضب!! قل حياتى ضاعت ولا تقل موبايلى ضاع.


Thursday, March 17, 2022

طب المستقبل - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 16/3/2022

 ماذا نحن فاعلون فى مجال الطب والتطورات التكنولوجية الهائلة حولنا تجعل مستقبل الطب والرعاية الصحية معتمدة تماماً على الأجهزة والفيزياء والهندسة؟

نحس كأننا نعيش فى فيلم خيال علمى، الابتكارات الطبية المستقبلية مدهشة وتتجاوز تصوراتنا، وهذه هى بعض تلك المستقبليات، أولاً سيدرس الجيل المستقبلى للأطباء التشريح البشرى بدون فتح الأعضاء، بالهولوجرام، هناك Google Lens وهى من الابتكارات الطبية المستقبلية المذهلة، عدسة الاتصال الرقمية متعددة الاستشعار، هى لمساعدة الأشخاص الذين يعانون من مرض السكرى، لن يتعين على المرضى أن يثقبوا أصابعهم بإبرة أو استخدام جهاز قياس الجلوكوز باستمرار، ستقوم عدسة جوجل للاتصال بالوظيفة من خلال قياس مستويات الجلوكوز فى الدم باستمرار من خلال الدموع.

هناك ثورة الطباعة الطبية ثلاثية الأبعاد، تستخدم المستشفيات الآن الطابعات ثلاثية الأبعاد للمواد البلاستيكية الصغيرة، لكن التكنولوجيا تجدد نفسها فى مجالات مثل صناعة أعضاء وزرعها!! هناك الأدوية المطبوعة ثلاثية الأبعاد وهى من الابتكارات الطبية المستقبلية التى قد تعيد تشكيل حياتنا، جزيئات بيولوجية يتم استخدامها من خلال Bioperinterيشكل باترون الدواء طبقاً لكل شخص ويجعل الجسم يمتص الكبسولة أسرع، مع بعض الأمراض مثل الصرع أو السكتة الدماغية، هذه السرعة أمر بالغ الأهمية، تتم الآن دراسة BioPrinting 3D بنشاط فى الطب التجديدى لحل نقص زرع الأعضاء، يجد العلماء طرقاً لطباعة المواد والخلايا الحيوية، والتى يمكن بعد ذلك استخدامها لإنشاء الأنسجة الحية وليس الأعضاء فقط، هناك جراحة السكين الذكية التى ستُحدث ثورة فى عالم جراحة الأورام، لتجنب ترك منطقة سرطانية، يحتاج الجراحون أيضاً إلى إزالة الأنسجة القريبة مع أداة IKNIFE الجديدة التى تم اختبارها بواسطة Imperial College London، فإن خطر ترك أى خلايا سرطانية فى المريض سيتم تقليلها، تقوم عمليات مسح الأداة وتحدد بسرعة المناطق الباطنية، ولا تترك أى فرصة لإعادة النمو من الخلايا السرطانية المتبقية.

هناك تكنولوجيا التصوير بالأشعة لتشخيص أفضل، هناك ثورة فى التجارب السريرية الأسرع بدلاً من التجارب السريرية الطويلة والمكلفة اليوم، فإن تقنية هارفارد للأعضاء التى تمثل نماذج من الخلايا البشرية.

سيمكن اختبار الأدوية بشكل أسرع وأكثر دقة. علاوة على ذلك، ستساعد التكنولوجيا فى القضاء تماماً على اختبار الحيوانات، عالم الروبوتات لم يعد من الخيال العلمى، هناك روبوتات قادرة على حمل نحو 450 كجم من السلع والمواد واللوازم السريرية فى المستشفى، وهناك ريبا، ممرضة الروبوت الودودة التى ترفع المرضى داخل وخارج الأسرَّة وعلى الكراسى المتحركة، وهناك بالطبع الجراح الروبوت.

هناك تقدم آخر فى ملكية البيانات، عندما تتعرض لفقد ملفك الطبى، أو إساءة تفسيره تحس بالكارثة ومع ذلك لأن بياناتك الصحية مملوكة للمستشفيات والمؤسسات والمختبرات.

فى المستقبل، سيتوفر كل شىء ببساطة للجميع بفضل استخدام أجهزة الاستشعار الصحية والأجهزة التشخيصية المحمولة، من المؤكد أن هذا النهج سيحقق راحة البال وتحسين كفاءة الرعاية الصحية الشاملة.

مجرد صورة وجود جميع ملفاتك الطبية المخزنة فى مكان واحد وتكون قادراً على الوصول إليها ومشاركتها فى أى وقت، تلك ثورة فى حد ذاتها.


Sunday, March 13, 2022

خليك هادى.. هل هذا ممكن؟! - الأنبا موسى - - المصري اليوم - 13/3/2022

 الهدوء له علاقة بالمحبة، فالإنسان المحب يكون هادئًا فى علاقته مع الآخر. لا يثور عليه، ولا يغضب ولا ينفعل. والعالم يحتاج إلى المحبة والهدوء، لكى يحل مشاكله. يحلها بالتصالح وليس بالتصادم والتصارع. ففى الهدوء وبالهدوء يمكن أن يتلاقى الناس مهما اختلفت أفكارهم، ليحلوا مشاكلهم فى هدوء بالحوار المشبع بالحب. أما إن اختفى الهدوء، فإن الحب يختفى معه. إذ لا تبقى المحبة مع الحروب والعنف والصخب والضوضاء.

أولًا: خليك هادى!!

كيف؟! الأتوبيسات تصرخ ساريناتها!! والسيارات كلاكساتها!! والتكاتك تتحرك أحيانًا بدون أى ضوابط، والناس يعترضون فى وجوه بعضهم البعض!! ويتحركون بعنف!! ألا ترى هذا التكدس الرهيب؟! ألا تعرف أننا كنا سنة 1952 عشرين مليونًا.. وصرنا الآن أكثر من 100 مليون؟!

1- العنف هو سيد الموقف!! 2- العنف على مستوى البلد!!

3- وعلى مستوى المنطقة!!

4- وعلى مستوى العالم!!

ثم تقول لى خليك هادئ!.. فما الحل؟!

ثانيًا: تعالى.. نتفاهم.. ممكن؟!

العنف أخى الحبيب وأختى المباركة، لا ينشأ فى اليد أو القدم أو كلاكس السيارة!!

العنف يبدأ فى الفكر!! فى المخ!! فى الأعصاب!!

وبعد ذلك ينتقل إلى اليد.. وهنا أتذكر المثل الصينى القديم:

1- ازرع فكرًا.. تحصد عملًا.

2- ازرع عملًا.. تحصد عادة.

3- ازرع عادة.. تحصد خُلقًا.

4- ازرع خُلقًا.. تحصد مصيرًا.

ثالثًا: البداية هى فى الفكر!!

أ- الفكرة التى جاءت إلى ذهن الشيطان، أن «يصير مثل الله، وأن يضع كرسيه فوق كرسى العالى»

(إشعياء 14،13:14)، هى التى جعلته يتمرد ثم يسقط ثم يُسقِط الآخرين!!

ب- والفكرة التى طرحتها الحية على أمنا حواء، إذ أغوتها بأن تصير هى وآدم عارفين الخير والشر مثل الله، وأن الله أراد أن يحرمهما من هذا الأمر المهم. هذه الفكرة هى التى حركت الحواس (فنظرت إلى الشجرة)، والنفس (فرأتها شهية)، واليد (فاقتطفت وأكلت) وإشراك الآخرين (فأعطت آدم). سلسلة بدأت بفكرة!

ج- والتوبة أيضًا تبدأ بفكرة.. فى مثل الابن الضال: حين جلس الابن الضال مع نفسه، وأخذ يفكر كيف أنه فى طريق الهلاك جوعًا. بينما الأجراء فى بيت أبيه «يَفْضُلُ عَنْهُم الْخُبْزُ» (لوقا 13:15)، فكر فى نفسه، «فتاب» أى رجع إلى رشده (تاب = صحا، فالتوبة هى صحوة فكر).. وتاب وعاد إلى أمجاده الأولى!

رابعًا: الفكر ما بين الإنسان والحيوان

فالفرق بين الإنسان والحيوان أن الحيوان = جسد + نفس. والإنسان = جسد + نفس + عقل + روح. والعقل والروح هما معًا فى «الروح العاقلة» التى نفخها الرب فى أنف آدم، فصار نفسًا حية أى صار عاقلًا روحانيًا، يفكر ويدرس ويستنتج، لأنه يتصل «بالماورائيات».

1- ماذا وراء الكون؟ ومن؟

2- ماذا بعد الموت؟

3- ماذا وراء المادة؟

4- ماذا وراء الزمن؟

هذه التساؤلات هى من «الروح العاقلة» التى يختلف بها الإنسان عن الحيوان.

إذن الفجوة كبيرة بين الإنسان والحيوان!! وليس كما يتصور «دارون»!! لقد توقف أمام فجوتين غاية فى الأهمية، وهما:

1- كيف جاءت الخلية الأولى الحية؟!

2- كيف جاء الإنسان مختلفًا بصورة جذرية عن القردة؟!

الإجابة: أن الله هو الذى أوجد الحياة، فلابد للحياة من كائن عاقل حى غير محدود، لكى يخلق هذه الحياة بأنواعها المختلفة! أما التشابه بين الإنسان والقرد فهو دليل «الصانع الواحد» الذى خلق كليهما، فأعطى القرد جسدًا + نفسًا (عزيزية)، وأعطى الإنسان فوق الجسد والنفس روحًا عاقلة!

خامسًا: الاهتمام بالروح هو الحل!!

هذا هو المفتاح!! فهدوء الفكر ينبع من هدوء الروح!! وهدوء الروح ينبع من نعمة الله!! ويقول سليمان الحكيم فى سفر الأمثال: «هُدُوءُ اللِّسَانِ شَجَرَةُ حَيَاةٍ» (أمثال4:15).

ونعمة الله نأخذها مما يلى:

1- توبة: تعيدنا إلى حضن الله المحب، وننال بها الغفران والتطهير من الخطايا التى تتعب الضمير، والتى تعطى الإنسان الإحساس بالذنب «Sense of guilt» وهو أهم دافع للتوتر، وبداية الطريق إلى العنف.. ناهيك عن حركات الشهوة والغيرة والحسد التى تحرك الإنسان نحو الكراهية، وهى الطريق إلى العنف.

2- شبع روحى: أى أن تملأ روح الله قلب الإنسان، فلا يكتفى سلبيًا بترك الخطايا.. بل يمتلئ من محبة الله.. وهنا تتدقق فيه ثمار الروح القدس التى هى: «مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وداعة تعفف» (غلاطية 22:5).

هل تتصور أن إنسانًا فيه هذه الثمار يمكن أن يكون عنيفًا؟!.. مستحيل طبعًا!! وإن انفعل بأخطاء يسرع بالتوبة والاعتذار، فتنتهى الخصومات والمنازعات بسرعة.

3- حياة إيجابية باذلة: المحبة تجعل الإنسان صانع سلامًا «طُوبَى لِصَانِعِى السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ» (متى 9:5)، والمحبة تجعلنا «نحب بعضنا بعضًا من قلب طاهر وبشدة» (1بطرس 22:1)، يقول السيد المسيح: «إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ.. لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ» (رومية 20:12-21). والمحبة تجعلنا لا نغضب فوصية الرب لنا: «أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ» (رومية 19:12)، ولا تجعلنا ننتقم لأنفسنا، بل نترك الأمر للحاكم العادل، ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

أسقف الشباب العام

بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية.