Translate

Monday, December 31, 2018

خالد منتصر - ماذا فعل الإخوان بالسودان؟ (٣) - جريدة الوطن - 1/1 /2019

عندما تغتصب سلطة دينية الحكم وتعلن تطبيق الشريعة ستبحث فوراً عن التميز والتفرد فى قوانين سريعة التنفيذ ظاهرة المردود، فهذه الحكومة لو تحدثت عن الخطة والموازنة والتعليم وعلاج التضخم، ستصبح مثلها مثل أى حكومة علمانية أخرى، إذن الحل فى العقوبات السريعة بالجلد والرجم والبتر، التى تُترجَم -للأسف- على أنها هى الدين، وتكون النتيجة حصر الدين فى هذه المظاهر التى يدينها العالم ويتجاوزها الزمن بعد تغير مفهوم العقوبة وصدور مواثيق حقوق الإنسان، وهذا ما فعله نميرى فى السودان، ثم تبعه الملا عمر فى أفغانستان.
المأساة ليست فيما فعله نميرى فقط، ولكنها فى رد فعل التيار الإسلامى بجميع أطيافه حينذاك، بداية من المؤسسة الدينية الرسمية، وانتهاء بالمرشد العام، مروراً بالدعاة السلفيين، وحتى بمن نطلق عليهم التيار المعتدل!! من يرد قراءة تفاصيل أكثر، فعليه الاطلاع على مقالات فرج فودة فى ذلك الوقت، وها هو المفتى الشيخ عبداللطيف حمزة يقول عن حكم نميرى بالشريعة: «إننا جميعاً فى مصر، شعباً وحكومة، نرحب كل الترحيب بتطبيق الشريعة الإسلامية فى السودان الشقيق، ونحيى الزعيم المؤمن جعفر نميرى». أما المرشد العام الأسبق للإخوان، عمر التلمسانى، فيقول: «إن هذه الخطوة الذكية لن تمر بهدوء أو فى صمت عند الذين لا يريدون أن يروا نور الإسلام مشرقاً على ربوعه، وعلى القائد الحصيف أن يحذرهم ويكبح جماحهم، وألا يفسح لهم فى غيِّهم بحجة حرية الرأى والكلمة، فالحرية تكون فيما يضعه البشر لأنفسهم، أما شرع الله فلا نقاش فيه». وبالطبع سمع نميرى الكلام وأعدم محمود طه وغيَّب السودانيين وخدَّرهم، فخرجوا فى مظاهرات بعد شنق هذا المفكر الإسلامى هاتفين «لا إله إلا الله.. حاكم مسلم يا نميرى».
قال الشيخ عبدالحميد كشك، محيياً ومشجعاً نميرى ومطمئناً له: «إن الحملة التى يتعرض لها الرئيس نميرى بسبب تطبيقه للشريعة الإسلامية قد تعرّض لها من قبله سيد الأنبياء والمرسلين، وهل يضر السحاب نبح الكلاب؟»!!، اطمئن يا نميرى فقد تساوت الرؤوس وأصبح بداخلك قبس من النبوة منحه لك الشيخ كشك! وقال الشيخ الغزالى: «تطبيق الشريعة الإسلامية فى السودان كان إلهاماً جليلاً من الله للمسئولين فى السودان، إنهم بهذا المسلك وقفوا أمام الغزو الثقافى، وأحبطوا محاولات استعمارية خبيثة، وأعتقد أن السودان لا يهنأ بشىء كما يهنأ بهذه المرحلة النقية الطيبة التى جعلته يتخلص من وباء الأحكام الوضعية»، وهنأه الشيخ صلاح أبوإسماعيل قائلاً: «نميرى أعز الله به الحق، وأيد به الإسلام.. إلخ».
المدهش هو احتفاء جريدة «اللواء الإسلامى» الناطق الدينى للحزب الوطنى وقتها! كان المانشيت فى هذه الجريدة كوميدياً لا يصدقه طفل: «المسيحيون فى السودان يؤيدون تطبيق الشريعة الإسلامية»! وأسفل المانشيت كلمة للشيخ القرضاوى يقول فيها: «إن الرئيس السودانى يعمل على بناء الفرد الصالح، فهذا هو البناء الحقيقى، وهو حجر الأساس فى تطبيق الشريعة»، وشاركه الرأى الملاكم الأمريكى محمد على كلاى، الذى لا أعرف كيف اتصلت به الجريدة!! المهم وصف كلاى السودان بأنها «نموذج فريد يجب أن يُحتذى، لأن فيه خلاصاً للناس من التيه والشقاء»! وأشك فى أن كلاى نفسه يعرف معنى كلمة التيه!
لو أراد الأعداء تشويه صورة الإسلام، لما نجحوا مثلما نجح نميرى والملا عمر وبن لادن والزرقاوى، ولكن المشكلة ليست فى هؤلاء القادة بقدر ما هى فى أتباع ومريدى هؤلاء القادة، ممن يخدرهم شعار تطبيق الشريعة.

Saturday, December 29, 2018

خالد منتصر - ماذا فعل الإخوان بالسودان؟ (٢) - جريدة الوطن - 30/12/2018

قنبلة الدخان التى يطلقها حاكم الدولة الدينية هى عبارة «تطبيق الشريعة»، للتغطية على رغبته فى الاستحواذ على الحكم وترسيخ ديكتاتوريته، الحكم بالحق الإلهى بالطبع يمنح السطوة ويمنع المناقشة ويرسّخ الإذعان والخنوع، وقد فهم «نميرى» هذه الحيلة الماكرة، ومررها للسُذّج، فصفّقوا وحاولوا تفسير رغباته الديكتاتورية بأنها مرحلة تمهيد وقتية قبل حصد الرخاء الذى ستوفره بركة تطبيق الشريعة.
أمر الإمام نميرى بتعديل المادة 115 من الدستور، التى كانت تجيز محاكمة رئيس الجمهورية إذا اتّهمه ثلث أعضاء البرلمان، صارت المادة فى ظل الشريعة النميرية لا تجوز مساءلة رئيس الجمهورية أو محاكمته، أما المادة 128، التى كانت تقول إن رئيس مجلس الشعب ينتخبه أعضاء المجلس، فقد صارت بعد التعديل يعيّنه رئيس الجمهورية، أما المادة 178، فقد تم تعديلها إلى صيغة هلامية عجيبة ومدهشة، فقد كانت صيغتها قبل التعديل أن القضاء مستقل ومسئول أمام رئيس الجمهورية، وصارت بعد التعديل «القضاء مسئول مع رئيس الجمهورية أمام الله»!!، ولو سألنا عن الآلية التى سيُحاسب بها القضاء والرئيس دنيوياً أمام الله، فلن يمنحنا أحد إجابة شافية، وعلى الشعب أن ينتظر إلى يوم القيامة.
أما المادة 220 فهى الطامة الكبرى، نقض البيعة للإمام خيانة عظمى!!، عُدنا إلى عبارات البيعة التى تعنى فى المفهوم النميرى للشريعة الخضوع التام وإلغاء العقل.. مجرد المناقشة أو حتى الاستفسار من الممكن أن يفسر نقضاً للبيعة وخروجاً على ولى الأمر، سيصبح المعارض لقبه الجديد طبقاً للشريعة، هو الخارج المارق الناقض للبيعة، الذى شق عصا الطاعة لولى الأمر.
دخل المفكر الراحل فرج فودة فى كتابه «قبل السقوط» معركة مع مؤيدى حكم «النميرى» الذين فرحوا به لمجرد إعلانه تطبيق الشريعة دون وعى أو تحليل أو رؤية لما وراء استغلال هذه العبارة، وكان إعدام المفكر الإسلامى محمود طه بإمضاء الإمام النميرى، وفيلسوفه التنظيرى الترابى، هو فصل الخطاب فى كشف القناع الذى يرتديه هذا النظام، ورغم ذلك لم تهتز شعرة للمؤيدين وقتها لـ«نميرى» هنا فى مصر، لم يفهموا، أو بالأصح فهموا وأغفلوا عامدين متعمدين حتى يبقى لعبارة «تطبيق الشريعة» بريقها الخلاب. مفكر إسلامى يُعدم من أجل فكره بتهمة الردة!
شىء لم يحدث فى تاريخ الدولة الحديثة على الكرة الأرضية، تم إعدام هذا المجدد، لأنه قال عن الحجاب والجهاد وعزل المرأة إنها ليست أصولاً إسلامية، أعدم لأنه قال بشجاعة نادرة أمام المحكمة دون محاولة اعتذار، وهو يعرف أن مصيره حتماً إلى المشنقة: «أنا أعلنت رأيى مراراً فى قوانين سبتمبر 1983، من أنها مخالفة للشريعة والإسلام.. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفرت عنه.. يُضاف إلى ذلك أنها وضعت واستغلت، لإرهاب الشعب، وسوقه إلى الاستكانة عن طريق إذلاله.. ثم إنها هددت وحدة البلاد».
تخيلوا نظاماً بهذه البشاعة يعدم رجلاً كهلاً لا يملك غير قلمه بهذا القدر من الغدر والجبن والخسة، يؤيده الإخوان فى مصر، تعالوا نقرأ ماذا قال أحفاد حسن البنا وسيد قطب؟

د. وسيم السيسى يكتب: الصحة العقلية فى مصر القديمة ٢٩/ ١٢/ ٢٠١٨ - المصرى اليوم

بدعوة كريمة من أ.د. مصطفى شاهين، رئيس قسم الأمراض النفسية بكلية الطب جامعة القاهرة، لإلقاء محاضرة عن: mental health ancient egypt أو الصحة العقلية فى مصر القديمة.
قلت لهم إن مصر القديمة اعتمدت على ثلاث للصحة العقلية: أ- الصحة الجسمانية ب- الصحة النفسية ج- صحة المجتمع.
أما عن الصحة الجسمانية، فقد كانت مصر تنصح بأن نأكل من ثمار بلادنا لأن أجسامنا جاءت من تربتها حتى يتوافق طعامنا مع أجسادنا ولا نأكل من ثمار البلاد الأجنبية.
أما عن الصرف الصحى، فقد كان هيرودوت يعجب ويقول: عجبت للمصريين! يتناولون طعامهم بالخارج، ويقضون حاجتهم بالداخل! فقد كان العالم كله يقضى حاجته بالخارج، أما فى مصر فقد كانت مواسير الصرف الصحى تمتد أربعمائة متر من المنزل إلى البيارات، وكان قُطر الماسورة نصف متر.
كانت مصر تهاجم السمنة وترى أنها دليل الترهل والكسل، ويعلق العقاد: انظر إلى نفرتارى أو نفرتيتى، تكاد الواحدة منهما تطير من فرط الخفة والرشاقة!.
كانت مصر إذا مرض النيل مرضت وإذا صح النيل صحت، لذا كان المصرى يشهد أمام محكمة العدل الإلهية: لم ألوث مياه النيل.
أما عن الصحة النفسية، فقد آمنت مصر بالإله الواحد، فكان الإيمان، وبعمل الخير فكان الحب، وبالفرح فكانت الأعياد والموسيقى والرقص والغناء، وكان هناك عيد اسمه عيد طهارة القلوب، تذهب الأسرة المتخاصمة مع أسرة أخرى بفطيرة طهارة القلوب المزينة بالفواكه والزهور، حتى تصفو القلوب، كانت الوفرة والكرم والعطاء من أسباب الصحة النفسية عند أجدادنا العظماء.
أما عن صحة المجتمع، فقد عرفت مصر أن القانون وسيادته هو الأمن والأمان، وبالتالى الصحة العقلية لأى مواطن، فكان القانون فى مصر عالمياً فى مراميه، عادلاً فى أحكامه، صافياً فى مواده، حضارياً فى مبادئه، فكان دهشة للمؤرخين لأنه قام على العدالة وقانون الأخلاق، فكانت العدالة بين الحاكم والمحكوم، كما كانت العدالة الاجتماعية، فالكل أمام القانون سواء، «د.محمود السقا».
كانت المرأة توصف بأنها صانعة النساء والرجال، كما كانت توصف بأنها شريكة الإله فى الخلق، هو يأمر وهى تقوم بالتنفيذ.
كانت المرأة مساوية للرجل فى الميراث، بل كانت الابنة هى التى تقوم بتقسيم الميراث إذا مات الأب، بل كان لها حق الخلع إذا طلبت من المحكمة ذلك.
كان من ثمار الصحة العقلية فى مصر القديمة الإبداع، فكانوا أول من أجرى عمليات التربنة والمياه البيضاء، كما كانت عبقرية البناء، والدراية بدقائق الجسم البشرى، كما عرفوا علاج الصداع النصفى والاكتئاب بسمك الرعاد eel fish، الذى يعطى شحنة كهربائية لرأس المريض، وهذا هو ما تفعلونه الآن! أى جلسات الكهرباء التى عرفها أجدادنا منذ خمسة آلاف سنة!. هذا كله أعطانا الشعور بالتفوق وليس الاستعلاء، مما جعل أحد الكهنة يقول لصولون الذى علمناه القانون بعد أن طبطب على كتفه:
أنتــم الــيونانيين أطــــفال بالنسبة لنا.


خالد منتصر - ماذا فعل الإخوان بالسودان؟ (١) - جريدة الوطن - 29/12/2018

الدولة الدينية دولة فاشية بالضرورة، لأنها تحكم بالحق الإلهى، وتضع الحلال والحرام مكان الصح والخطأ، ويحكمها خليفة هو ظل الله على الأرض، ومعه أهل الحل والعقد ممن يبررون له حكمه الجائر بالفتاوى والتخريجات الفقهية. هى دولة فاشية لأن فلسفتها وجوهرها فاشى وعنصرى، لأنه ينفى الآخر أو على الأقل يجعله أدنى مرتبة، هى دولة مصطلحاتها مفخخة: حرية التعبير تنقلب ردة، من يقدم رأياً معارضاً هو منكر لما هو معلوم من الدين بالضرورة، المتظاهر يعصى أولى الأمر ويفارق الجماعة ويخرج عن الملة، المخالف كافر فاسق زنديق ملحد... إلخ. يصير الوطن ساحة دموية لمن نصَّبوا أنفسهم وكلاء الله على الأرض، ويصير المواطنون رعية عليهم أن يعيشوا بالتقية.
ومع شعوبنا المغيَّبة المخدَّرة يكفى أن ترفع شعار تطبيق الشريعة الإسلامية لتجد نفسك بطلاً محمولاً على الأكتاف، وزعيماً تستمد قوتك من شعب محبط ومواطن مزيف الوعى وشعار مطاط «أول سايز» تستطيع أن تحوله إلى قناع يخفى ديكتاتوريتك ودمويتك. وهذا ما فعله النميرى حين أعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية فى سبتمبر 1983، وتحول بفضلها من الرئيس النميرى إلى الإمام النميرى!
الذكرى تنفع المؤمنين، وقد آن الأوان لفضح رافعى هذا الشعار الذى يراد به باطل والذى لوَّث أصحابه ثوب الدين الأبيض بدم الجثث التى شُنقت والأيادى التى بُترت والنساء اللاتى جُلدن وهم متلفحون بالدين الذى خُلق لسعادة وصلاح البشر، وليس لتقطيع أوصالهم والضحك على ذقونهم كما فعل الإمام النميرى الذى ارتدى قناع الدين كستار لجرائمه البشعة.
عندما تحكم الدولة الدينية يقع حكامها فى إشكالية مرعبة، فالتقدم الاقتصادى والإصلاح والرفاهية أشياء تحتاج إلى وقت طويل ولن تمنح هذا الحكم تميزاً خاصاً، وهم مستعجلون، ما العمل إذن؟ تستدعى الدولة الدينية بسرعة من جراب الفقه بعض الطقوس الشكلية الدرامية العنيفة لكى تصرخ: نحن مختلفون عمن سبقونا. وتبدأ المسألة بالحدود والرجم والنقاب وتحديد طول اللحية وإعدام المرتدين مثلما حدث فى السودان مع المفكر الإسلامى محمود طه (80 عاماً) عندما تم إعدامه فى 20 يناير 1985، جزاء لاعتراضه على أسلوب تطبيق الشريعة النميرية. يصفق المؤيدون بالطبع ويهللون، ولكن الصدمة تأتى عندما يفيق هؤلاء المهللون (وهم لا يفيقون) على أن المسألة لا تتقدم خطوة عن هذه الاحتفالات بجثث المشانق وطقوس الملابس! وأنها لا تتعدى رغبة دفينة عند الحاكم فى الاختباء خلف الدين لتحقيق أهدافه ومطامعه الأنانية الخاصة جداً!! وهذا ما حدث بالضبط فى حكم النميرى بالشريعة الذى هلل له الإخوان المسلمون المصريون وقتها وكأنه غزوة بدر!
هل تعرفون ما هى أول مادة طلب تغييرها إمام المسلمين جعفر النميرى فى 10 يونيو 1984 ضمن طلباته بتعديل بنود الدستور؟
بعد أن كانت المدة الرئاسية ست سنوات طلب النميرى، الإمام الخليفة المنتظر، أن تعدل كالتالى: «دورة الرئاسة تبدأ من تاريخ البيعة، ولا تكون محددة بمدة زمنية معينة»!!.
إنها قمة الورع والزهد، ولكن هل كانت تلك المادة هى الوحيدة من بين تعديلات وتطبيقات الشريعة الإسلامية النميرية التى أسكرت الإخوان وقتها؟

Friday, December 28, 2018

فاطمة ناعوت تكتب: الدينُ لله... والوطنُ لمن يحبُّ الوطنَ ٢٧/ ١٢/ ٢٠١٨ - المصرى اليوم


منذ بَدْءِ «اعتصام المثقفين»، الذى رابضَ فى مبنى وزارة الثقافة فى شارع «شجر الدرّ» بالزمالك، حين قرّر المثقفون فى مصرَ الانتفاضَ ضدَّ الاحتلال الإخوانيّ فى أوائل يونيو ٢٠١٣، وانتهى بثورتنا الشريفة فى ٣٠ يونيو، ظللتُ أختتمُ جميعَ مقالاتى طوال ذلك الشهر، هنا فى زاويتى بجريدة «المصرى اليوم» بعبارة ثابته لا تتغير، هى: (موعدُنا ٣٠ يونيو). وكان الموعدُ وكان التحرُّرُ من براثن الشيطان. ومنذ اليومَ، سوف أختتم جميعَ مقالاتى بعبارة أخرى، ثابتة لا تتغير كذلك، وهى: (والوطنُ لمَن يُحبُّ الوطنَ). ولهذه العبارة حكايةٌ، سأحكيها اليومَ للمرة الأولى والأخيرة، حتى تكونَ التقدمة للعبارة التى سوف تُذيِّلُ جميعَ مقالاتى منذ اليوم، وحتى أجل يعلمه الُله، نغدو فيه إنسانيين أكثر، ووطنيين وناضجين أكثرَ، كما يليقُ بنا كمصريين، وكما يليقُ باسم مصرَ العريق.
مع إشراقة عام ٢٠١٩، سنحتفلُ بمرور قرن من الزمان على بزوغ أشهَر شعارٍ مصريّ انطلقَ مع أشهَر ثورة مصرية اشتعلت فى القرن الماضى. ثورةُ شعبٍ عظيم قرّر أن يكونَ يدًا واحدة رافضةً فى وجه المحتلّ الإنجليزى. وكان الشعبُ مثقفًا، فكانتِ الثورةُ مثقفةً، فأفرزتْ شعارًا مثقفا. ولم تنته الثورةُ إلا مع إعلان دستور مصريّ خالص، وبرلمان مصريّ عام ١٩٢٣. وأما الشِّعارُ الشهيرُ فكان: «الدينُ لله، والوطنُ للجميع». وهى الرسالةُ الموجزةُ التى تحملُ قيمَ المجتمع المدنى الصِّحيّ الذى تحتضنُ فيه الدولةُ كلَّ أبنائها دون النظر إلى عقائدهم. وحين تسنُّ قوانينَها وتشريعاتِها، يقفُ القانونُ على مسافةٍ متساوية من جميع أديان أبنائها، ذاك أن: «الدينَ كلَّه لله، والوطنَ كلَّه لبنيه».
تعلّمتُ تلك العبارةَ البليغة، فى كتاب التاريخ. وكنتُ أردّدها وأنا صَبيةٌ صغيرةٌ على مقاعد الدرس. ولكنْ، حين تفتحت مداركى، رحتُ أتساءلُ: «ما معنى كلمة (الجميع)؟» «الجميعُ» كلمة «شمولية». تضمُّ بين جناحيها الصالحَ والطالح! المخلصَ والخائن! تضمُّ الجنديَّ الذى تُهرَقُ دماؤه على تراب الجبهة ذودًا عن شرف بلاده، مثلما تضمُّ الجاسوسَ الذى يبيعُ وطنَه للعدوّ! فهل ذاك عدلٌ؟! (الجميعُ) تلك تضمُّ العاملَ فى مصنعه يبنى مجدَ بلاده، مثلما تضمُّ الموظف الفاسدَ الذى يهدرُ أموال بلاده أو يتكسّب من وظيفته بغير حقّ! فهل ذاك عدلٌ؟! (الجميعُ) تلك تضمُّ بين جناحيها الفلاحَ الذى تُلوِّحُ الشمسُ جبينَه وهو يُطعمُ الثمرَ لأشقائه فى الوطن، مثلما تضمُّ الإرهابيَّ الذى يُفجّرُ مسجدًا أو كنيسة أو مدرسة. فأيُّ عدلٍ؟! هنا أيقنتُ أن الشعارَ البديعَ بحاجة إلى تعديل طفيف حتى تكتملَ لوحةُ بانوراما الشعب المصرى الجميل. لابد أن يكون شعارُ مصرَ الراهنَ على النحو التالى: «الدينُ لله، والوطنُ لمنَ يُحبُّ الوطنَ». فالفيزيائيُّ الذى يبتكرُ جهازًا يحصدُ الطاقةَ من أشعة الشمس، فيوفّر على بلادى أموالا باهظةً، هو الأولى بالوطن ممن يهدرُ الطاقةَ دون وعى لأن لديه فائضًا من المال.
 والطبيبُ الذى يجوب النجوع ليعالج الفقراء فى بلادى بأجر رمزيّ، أولى بالوطن من رجل أعمال يستثمرُ أمواله خارج وطنه، فيُضيّعُ بعض الخير وبعض الرجاء. ورجلُ الأعمال الذى يبنى مصانعَ تفتح بيوتَ عمال ومهندسين، وتنتجُ ما يُفيد الوطن، أرقى وأولى بالوطن من رجل يجلس على شاشات الفضائيات يُكفّرُ الناسَ ويتاجر فى عقائدهم، فيوغرُ صدورَ الناس ضدّ الناس، فيكره الجارُ جارَه إذْ اكتشف «فجأةً» أنه مسيحيٌّ، وتهجرُ الصبيةُ صديقتَها لأن الشيخَ أفتى بألا تصاحبَ إلا محجبةً! وموسيقيٌّ يبتكرُ قطعةً من الشَّدو ترتقى بذائقة الناس، أولى بالوطن من رجلٍ يُكسّر قضبانَ السكك الحديدية ليبيع فولاذَها للعابرين. ومُعلّمٌ يتقنُ تعليم تلاميذه أصولَ اللغة وأسرارَها، أولى بالوطن من ذميمٍ يتحرّشُ بالصبايا فى الحافلات والطرقات. وحارسٌ يقف على باب كنيسة يدفع بصدره المكشوف شظايا حزام ناسفٍ، كيف يتساوى مع تاجر يبيع الخَدَرَ لأطفال لا يدرون من أمرهم شيئًا؟! والفارسُ الذى وقفَ فى وجه العالم لينقذَ شعبَه من فاشية إرهابية كان لا فكاكَ منها لولا أنْ لا سمَحَ اللهُ، كيف يتساوى بجاسوس كان ينتوى أن يجعل من مصرَ العظيمةَ إمارةً تابعةً لا تملكُ زمامَ أمرِها؟!
هل يستوى الطِيْبُ والدَّنس، الراقى والرقيع، الجميلُ والقبيح؟ لهذا أعلنُ اليومَ إيمانى بأن الدينَ كلَّه للهِ العليّ العظيم، ولكن الوطنَ، فقط لمَن يحبّون الوطن. 

خالد منتصر - غادروا عتبة النقاش إلى ساحة النقد لتنعموا بالحداثة - جريدة الوطن - 27/12/2018

«تدمير المعرفة الخاطئة وتفكيكها خطوة مهمة قبل تأسيس المعرفة الصحيحة».. تلك مقولة الفيلسوف الفرنسى جوستون باشلار، التى نبهنا إليها د.محمد أركون فى كتابه «قضايا فى نقد العقل الدينى»، إذن لن تتأسس معرفة ومفهوم الحداثة إلا على أنقاض المعارف والمفاهيم وطرق الفكر القديمة، لا تستخدم نفس الأعمدة القديمة لتشييد مبنى الحداثة عليها، ذلك لأن تصميم العمارة الحداثية مختلف، لن تستطيع تحمله الأعمدة القديمة وأيضاً لن تناسب شكله الجديد، إنها تناسب تربة الماضى ومناخ الماضى وسكان الماضى، والخلاصة هى أن أى محاولة ترقيع أو تلفيق أو ترميم هى محاولة محكوم عليها بالفشل، ولو حاولت بناء الحداثة بخلطة القديم حتماً سينهار البناء.
نحن فى الدول والمجتمعات الإسلامية نلهو بمكتشفات ومخترعات الحداثة ولا ننظر أو نعطى أنفسنا فرصة لنتدبر ما وراء تلك المكتشفات والمخترعات، وكما قال عبدالكريم سروش فى كتابه «التراث والعلمانية»: «إننا ننظر إلى ثمار الحداثة لا إلى جذورها».
وإذا عرَّفنا العالم الحديث بمجرد أنه المكان الذى يحتوى على الكهرباء والإنترنت والكمبيوتر...الخ، فنحن نستخدم تعريفات ساذجة، ونتهرب من طرح السؤال الأهم: «لماذا لم يتوصل هذا العقل القديم إلى تلك المنجزات الجديدة؟».
ليس مجرد تراكم المعارف، لكن هناك ثورة وفورة وحداً فاصلاً واضحاً ما بين عصرين جعل إيقاع ظهور وتطور تلك المنجزات والاكتشافات أسرع، بحيث بتنا نلهث فى تعقبها وإحصائها، كنا قديماً نظل مئات السنوات محتفظين بالاختراع أو الاكتشاف ثابتاً راسخاً حتى يصبح جزءاً عضوياً فينا كنواة الخلية، المحراث ظل ملتصقاً بنا آلاف السنين حتى ظننا فيه الخلود، وتطوره إلى ما بعده من أجهزة أخذ وقتاً طويلاً يحسب بالقرون، والأهم هو اقتناعنا وقبولنا ودرجة تخيلنا لهذا التطور والتغيير، إنه قبول بالأمر الواقع واقتناع بأن تغييره صعب، لماذا التغيير إذا كنا مستريحين لهذا المنجز؟، هذا هو المهم، التغيير الأهم ليس فى اختصار وقت التغيير والتطوير فقط، ولكن فى جسارة طرح السؤال وشجاعة التمنى المحلق والحلم المتجاوز.
مثل آخر مختلف عن المحراث، وأحدث نوعاً ما، وهو الآلة الكاتبة، لكن فكر فى كيف ظلت تلك الآلة مئات السنين نغير فقط فيها الشكل والرتوش، احتاجت أجيالاً، لكن قارئى العزيز ابحث فى أدراجك عن مئات «الفلوبى ديسك» هذا المربع العجيب، وانظر إلى تاريخه، ثم انظر إلى «السى دى» والـ«دى فى دى» والفلاشة، كل هذا لم يستغرق عشر سنوات من حياتك، كذلك من الكمبيوتر الذى يحتل حجرة كاملة ثم الكمبيوتر الذى يحتل المكتب ثم إلى اللاب توب، ثم إلى التاب، ثم إلى الـ«سمارت فون»... الخ، بالكاد عشرين أو ثلاثين عاماً، لكنك متقبل وغير منزعج بل لديك وسواس التغيير والتطوير، لأنك صرت تملك تلك الجسارة الحداثية، لكنها فى مجتمعاتنا الإسلامية جسارة الاستهلاك لا جسارة السؤال والعقل والاكتشاف.
لماذا لم يحدث للقدماء ذلك؟، ماهو الضيف الذى حل على عالمنا بعصاه السحرية وهدايا بابا نويله التى لا تنفد فجعله عالماً حديثاً حداثياً؟
إنه العلم التجريبى، والمهم قبل العلم فكرته الجديدة أو منهجه أو فلسفته، العلم قديماً كان غائياً، التفسير كان على أساس الغاية، عندما أردنا تفسير سقوط الحجر من أعلى إلى أسفل، قلنا إن كل شىء يبتعد عن أصله يريد العودة إليه، تفسير أدبى بلاغى نفرض فيه قناعاتنا ومشاعرنا وتخميناتنا وكأننا نصف حنين عاشق إلى معشوقته أو جنين إلى رحم أمه، الآن الحجر يعود إلى الأرض ليس لأنها أمه وأصله ولكن بسبب قانون الجاذبية، إذن هى حركة جبرية قسرية لها قوانين، ليست قصيدة شعر، إنها معادلات معمل، مهما خاصمت هذه التفاسير والقوانين العلمية وجدانك أو تعارضت مع بديهياتك وألفتك مع الأشياء فإنها ستظل حقائق علمية، أنت طبقاً لمقاييس حواسك وحدود خيالك وحرقة رغباتك تمشى على الأرض متأكداً من أنها مسطحة، يأتى العلم ليطيح بتلك القناعات والبديهيات غير محترم لأحاسيسك ومهملاً لحواسك، ليصدمك بأنها ليست مسطحة وأنها تدور، إذن فالعلم يقول لك «آسف طظ فى حواسك، وسأمضى فى طريقى غير عابئ بصرخات انهزام قناعاتك، ذلك لسبب مهم هو تحقيق سعادتك».
سيأتينى الرد الجاهز، نحن نعرف كل ذلك وندركه جيداً، نحن غارقون فى نقاشات التجديد، أليست تلك رغبة فى تحقيق الحداثة؟
هنا لا بد من وقفة للحديث عن فض اشتباك وتصحيح خلط ما بين النقاش والنقد، فالنقد هو نقد ما تحت السطح والتربة وليس ما هو فوق الأرض وعلى الهامش، نقد المبنى والجذر لا الجدار والفرع، وكما يوضح عبدالكريم سروش فى «التراث والعلمانية»، ص 46: «أهم مرتكزات العالم الحديث هو امتداد النقد إلى حيث الجذور وتعرية الأصول وكشف القبليات ومواجهتها وتسليط الأضواء عليها، وإلا فإذا تحاور شخصان تجمعهما آلاف القَبْليات والمفروضات المشتركة، ولا يفكر واحد منهما فى توجيه النقد إليها وغربلتها، فإن هذا الحوار لا يسمى حواراً نقدياً»، إذا حاورت على سبيل المثال شخصاً من نفس الأرضية المشتركة وهى أن مفهوم العنعنة لا شك فيه ثم نتجادل فقط فى صحة هذا الحديث أو خطأ ذلك الحديث، فنحن لسنا فى حالة نقد، لأن مفهوم العنعنة نفسه من الممكن أن يتخلخل من خلال طرح أسئلة أكثر جذرية مثل قوة الذاكرة الحافظة الفوتوغرافية التى تستطيع نقل الحديث بالحرف وعدم وجود هامش خطأ، هل مثل تلك الذاكرة موجودة وحقيقية ومستمرة على مدار تلك السنوات؟، وهل هناك إمكانية أصلاً فى مجتمع شفاهى لتناقل مثل تلك الأخبار بتلك الدقة؟، وأيضاً مسألة الصحابة العدول الذين لا يمكن أن يتطرق إلى كلامهم ذرة شائبة، هل هذا طبيعى وإنسانى فى ظل قراءتنا التاريخية لحروبهم وصراعاتهم بل وتلاسنهم الذى وصل إلى حد السب والتحريض؟!
أشياء وقضايا كثيرة تندرج تحت باب النقد للجذر والمبنى تهرب وتفر وتضيع منا ونتخيل أننا نمارس النقد بينما نحن نخدش السطح فقط متخيلين أننا سنصل إلى أعماق المناجم، والعلم يجعل لنقدنا هذا معنى، ويضعه فى إطار يحركنا للأمام، لأننا وقتها سننشغل بسؤال «HOW» كيف، وليس «WHY» لماذا، وهذه عبقرية نيوتن وجاليليو وهداياهم الكونية المثيرة التى منحوها إلى الإنسانية، لم ينشغل العالم بسؤال لماذا يسقط الحجر وهل هو يحن للأرض أم هو فى حالة كراهية، ولكنه انشغل بـ«كيف» حتى يستطيع صياغة قوانين، لم يتملكه وسواس أن الكتاب المقدس قال «إن المسكونة لا تتزعزع»، فذهب ليلتمس الأعذار ويتسول المبررات ويلوى عنق النصوص ليلفق إعجازاً هنا أو معجزة هناك ليزغزغ ويدغدغ بها الدهماء، لكن كانت أمامه مظاهر وظواهر وحقائق من خلال تليسكوب، قادته وأدت به إلى اكتشاف حركة دوران الأرض وأنها ليست الثابت الذى يدور حوله الكون.
إن ظللنا نخشى النقد ونحبس ونقتل النقاد ستتحول بلادنا إلى أنقاض.

Thursday, December 27, 2018

خالد منتصر - رسالة إلى «بشرى» من الجميل أحمد رزة - جريدة الوطن - 27/12/2018

أحمل للفنانة بشرى تقديراً وإعزازاً خاصاً، لأنها ابنة مناضل حقيقى ومثقف بجد، الرائع الراحل أحمد عبدالله رزة، لذلك كانت صدمتى كبيرة حين شاهدت هذا الكليب المتواضع الباهت الذى ينتمى للردح الغنائى والتلسين الفنى والتنبيط الموسيقى أكثر من انتمائه إلى الإبداع الحقيقى، بالطبع لا أطلب من «بشرى» أن تخرج فى مظاهرات أو تخالط الغلابة فى الأحياء الشعبية كما كان يفعل والدها العظيم، الذى اختطفه الموت وهو فى السادسة والخمسين من عمره، لكن أطلب منها أن تكون حياته نبراساً ودليلاً وهادياً لها، تستوعب دلالات ورسائل تلك الحياة، لا أنتظر منها أن تكون «فوتوكوبى»، وليس مطلوباً منها ذلك، ولو كان والدها حياً لرفض أن تكون مجرد نسخة منه، فهو كان عاشقاً للحرية، لكن كنت أنتظر منها فناً يصب فى نفس الاتجاه التنويرى الإبداعى الذى كان يحارب من أجله الأب، لا أتصور أنه كان سيرضى عن كليب عنصرى يحتقر اللون الأسود، يغنى لقضية تافهة، ويغازل مشاعر وعظ سلفية عن القبر والكفن.... إلخ فى باكيدج ردىء لا يتناسب مع طموح فنانة مثقفة تحمل اسم أحمد عبدالله رزة، هذا الرجل لمن لا يعرفه شكّل وجدان وعقل جيلى، الذى كان يتحسّس خطواته الأولى فى الجامعة، ويسمع عن خريج سياسة واقتصاد خطيب الجامعة المفوه أحمد عبدالله الذى انتزع شهادته من بين أنياب أسد كمبردج، عرفناه من خلال قصيدة أحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام، عندما كنا نهتف معه ونحن صغار للمحبوسين «أنا شُفت شباب الجامعة الزين أحمد وبهاء والكردى وزين».. عرفنا بعدها أن أحمد هو أحمد عبدالله رزة، الذى كان اسمه عند الرئيس السادات «الطالب المشاغب أبوكوفية حمرا»، مرجع الحركة الطلابية فى مصر من خلال كتابه الفريد عن الطلبة والسياسة.
تعريف المثقف العضوى الملتحم بالناس الذى لا تنفصل تفاصيل حياته عن مفردات فكره، ينطبق على ندرة من النخبة المصرية على رأسها هذا الرجل العظيم، فقد أسس مركز الجيل للدراسات بقروشه القليلة، لم يختَر حى الزمالك أو جاردن سيتى، وإنما اختار حى عين الصيرة.
حارب ضد عمالة الأطفال وقهرهم وسوق النخاسة فى أرواحهم وسرقة عرقهم والسمسرة فيهم.
كتب عن معاناة أطفال المدابغ، لم يكن مجرد متعاطف معهم.
بل صاحب قضية حقيقية.
لا أطلب من الفنان أن يكون جيفارا، ولا أريده انتحارياً، ولا أراجعه فى حقه فى أن يكون ثرياً، ولا أرفض بحثه عن النجومية أو الشهرة أو التريند، هذا من حق الفنان تماماً، لكنه لا بد أن يدرك مسئوليته تماماً فى مجتمع مغيب كاد يفقد عقله، أنا لست ضد البهجة والسعادة والنغم الراقص، لكننى ضد أن تتحول أدوات الفن لـ«مطاوى قرن غزال» لفظية وسنج لحنية، أنا حزين فعلاً على أن تتحول تلك الفنانة الرقيقة الجميلة المثقفة إلى مخلب فى معركة وهمية مفتعلة، الفرق بين الأب والابنة فرق توقيت ثقافى، زمن نجم والشيخ إمام وزمن حموبيكا، أربأ بالفنانة بشرى أن تكون جملة لا محل لها من الإعراب فى مجلد مطربى المهرجانات، لقد لمست إشرافها على مهرجان الجونة وحرصها على أن يخرج بشكل فنى جميل وراقٍ، وتأكدت أن هناك ذوقاً إبداعياً رفيعاً يشكل وجدانها، كنت أنتظر من بشرى أحمد عبدالله رزة ما يذكرنى بروح هذا الفارس النبيل الذى هو حتماً يطل علينا الآن، وفى عينيه غلالة من دمع الشجن.

Tuesday, December 25, 2018

خالد منتصر - فى عيد النصر.. هل ننتصر للعقل بعودة تمثال ديليسيبس؟ - جريدة الوطن - 25/12/2018

فى عيد نصر بورسعيد، أطل الآن على مشهد بديع من أجمل المناظر الطبيعية، البحر والسفن تتهادى، استعداداً للمرور من القناة، تكسر المشهد وتجعله نشازاً قاعدة عارية بلا تمثال!!، القاعدة جميلة تخبرنا بأنه ثمة تمثال بديع كان يقف عليها، إنه تمثال ديليسيبس الذى رفعوه من المكان بعد 1956، احتجاجاً على اشتراك فرنسا فى العدوان الثلاثى، ثم أخذ الأمر أبعاداً أخرى من قبيل إزالة رمز الاستعمار والعبودية وسُخرة الفلاحين.. إلخ، تغير كل شىء فى مصر وتبدّل، إلا أن موضوع عودة ديليسيبس على قاعدته صار من المحرمات، ومن قبيل الكفر والزندقة وقضية شائكة دونها الرقاب!!، من الناحية الفنية، التمثال الذى يرقد فى الترسانة تحفة ومنحوتة جمالية رائعة ستمنح المكان منظوراً بديعاً ومشهداً فريداً قلما يتكرّر فى مصر، يمسح من ذاكرتنا المنحوتات القبيحة التى جادت بها قريحة نحاتى زمن العشوائيات، والتى تجعل الفراعنة الذين علموا فن النحت للعالم ينتفضون فى قبورهم حزناً على أحفادهم، أما تاريخياً فنحن بالطبع نحترم انفعال وغضب ثوار بورسعيد المشروع وقتها الذى جعلهم يخرجون البخار المكتوم فى شكل إزالة ومحاولة تحطيم التمثال الذى ترجموه فورياً إلى رمز الاستعمار، وأحياناً الفعل الانفعالى الثورى يكون مخاصماً للمنطق، وبعد مرور السنين يتضح أنه كان أداء أوفر، لأننا لو تكلمنا منطقياً وبهدوء هناك عدة ردود على الشعارات، التى يرفعها المنادون بعدم عودة تمثال ديليسيبس إلا على جثثهم، وكأنهم فى معركة ستالينجراد!!، فالمنطق يقول لمن يتّهمون ديليسيبس بأنه أهدر حياة عشرات الآلاف من المصريين الذين دُفنوا أثناء الحفر، كان الأولى بكم أن تهدموا تماثيل من أصدر الأمر وسمح لديليسيبس بهذا، وهو «سعيد» ثم «إسماعيل»، لكن الخديو إسماعيل على سبيل المثال له أكثر من تمثال، والسؤال هل ديليسيبس هو المهندس صاحب فكرة القناة، أم أنه بائع بطاطا على شط القناة؟!
هو صاحب الفكرة، وهى حقيقة تاريخية لا يستطيع إنكارها جاحد، وإذا لم نكن قد نسينا الإساءة إلى فرنسا على اشتراكها فى عدوان 56، فلماذا نشترى منها «الرافال» الآن؟!، وهى أصبحت وما زالت أكبر دولة أوروبية مساندة لنا الآن، وأعتقد أن دور أحد مواطنيها، وهو ديليسيبس فى حياتنا أهم من دور سيمون بوليفار الذى يقف تمثاله شامخاً بجانب أهم ميدان فى مصر!!، العلاقات بين الدول لا تحكمها شعارات الحنجورى الانفعالية، ولا يعقل أن تكون الجزائر التى مات منها مليون على يد الفرنسيين أكثر مرونة مع فرنسا من المصريين الذين لم يمت منهم واحد على ألف من هذا العدد فى العدوان الثلاثى، أو حتى فى الحملة الفرنسية التى مثلما احتلتنا، كانت علامة فارقة فى حياتنا العقلية والفكرية وبداية عصر التنوير بعد الظلام العثمانى!!
تحطيم التماثيل التى تسكن الميادين لا يبنى أوطاناً، لكن يبنيها تحطيم أصنام الخرافة والجهل الذى يسكن العقول، والحقائق التاريخية لا يطمسها صراخ أو دهانات بوية أو رفع تمثال من قاعدته أو تحطيمه بمعول، فلنفكر بالمنطق والعقل حتى نرسل رسالة إلى الجميع بأننا شعب منطق وفكر وعقلانية، ولنضع على الجانب الآخر من الشارع، ومطلاً على القناة أيضاً، تمثالاً عملاقاً منحوتاً بفن وإبداع لفلاح مصرى شامخ يشير أيضاً إلى القناة، ولنكف عن مغازلة الناس بشعارات صارت فى متحف التاريخ، وليعُد ديليسيبس إلى قاعدته، ليس تمجيداً لديليسيبس، ولكن تمجيداً للمنطق والعقل ولاحترام التاريخ، احتفالنا بانتصار بورسعيد هو أن نحتفل بعودة العقل وعودة التمثال الذى لا يعنى عودة الاحتلال.

Sunday, December 23, 2018

الدين والدولة فى مصر بقلم د. عماد جاد ٢٣/ ١٢/ ٢٠١٨ - المصرى اليوم

كثر الحديث مؤخرا عن جرائم ازدراء الأديان، وبات هناك متخصصون من داخل تيار الإسلام السياسى ومن التيار السلفى وراغبى الشهرة السريعة من خارج هذين التيارين، فى ملاحقة الكتاب، الباحثين والمفكرين مشرعين سيف «الازدراء»، مستغلين مجالا عاما جرى تديينه منذ مطلع السبعينيات ودخلت الدولة عبر مؤسساتها فى عملية مزايدة مع جماعات الإسلام السياسى والتيار السلفى على «الدين»، ومن الأكثر تدينا وهو الأمر المستمر حتى يومنا هذا فمن نصر حامد أبو زيد إلى إسلام بحيرى وفاطمة ناعوت القائمة تطول. وفى الوقت الذى يحاول فيه رئيس الجمهورية جاهدا الدفع باتجاه «مدنية» المجال العام وتحديث الخطاب الدينى وتأسيس منهج جديد فى علاقة الدين بالدولة، فإن الميراث الثقيل ومقاومة أصحاب المصالح فى المؤسسات الدينية وتمسك بعض أركان الدولة بتوظيف الدين فى المجال العام وفى السياسة يعطل حركة النخبة والمجتمع باتجاه تنقية وظائف الدولة بكل ما هو مقحم عليها.
السياسة لعبة توازنات وتحالفات لا تخلو من المناورة والخداع، فقديما قال فلاسفة اليونان (أرسطو وأفلاطون) إن السياسة ليست مجال عمل الرجل الفاضل، ومن بعدهم جاء مكيافللى ليضع نصائحة للحاكم فى كتاب «الأمير» وجميعها نصائح باستخدام الخداع والغش والمناورة والمبادرة بالقضاء على الخصم وغير ذلك من نصائح لا تزال صالحة لعالم السياسة. إذا لا مجال للحديث عن قواعد أخلاقية للعمل السياسى، فهذا كلام إما نابع عن جهل أو خداع، فلا مجال للمزج بين الدين والسياسة، فالدين مقدس وثابت والسياسة تتسم بالانتهازية والتغير، والإصرار على المزج بينهما فيه ضرر شديد للاثنين، ففى المزج بين الدين والسياسة مساس بقداسة الدين وإساءة له، وفيه أيضا تكبيل للسياسة من أن تعمل وفق قواعدها المتعارف عليها، قد يرد البعض من أنصار هذا الخلط بأنهم يسعون لابتداع نموذج يمزج بين الدين والسياسة فيطهر الأخيرة ويضع قواعد أخلاقية لها، والسؤال هنا، أعطنى تجربة واحدة فى العالم منذ التاريخ المسجل نجح الدين، أى دين، فى بناء نظام سياسى أخلاقى أو تمكن من تطهير السياسة والساسة، فى المقابل فإن كافة تجارب المزج بين الدين والسياسة أضرت بالدين وهزت صورته أمام الشعب، حدث ذلك فى أوروبا فى العصور الوسطى، وحدث فى العالم الإسلامى ويحدث اليوم فى مصر فقد تسببت تجربة الإخوان والسلفيين بعد الخامس والعشرين من يناير فى بروز ظاهرة الإلحاد فى مصر على نطاق أوسع مما قد يتصور البعض، والإصرار على مواصلة المزج أو الخلط بين الدين والسياسة سوف يؤدى إلى اتساع نطاق هذه الظاهرة ويدفع بمجتمعاتنا إلى السير فى طريق سبق وسارت فيه المجتمعات الأوروبية التى اتخذت قرارها بالفصل ليس فقط بين الدين والدولة، الدين والسياسة بل بين الدين والمجال العام.
بعد صراع مرير بين رجال السياسة ورجال الدين، بين الملوك والأمراء والكنيسة، وبعد حروب دموية دامت سبعة عقود كاملة، نجحت أوروبا فى الوصول إلى المعادلة الذهبية التى حققت لدولها ومجتمعاتها النهوض والتقدم والاستقرار وهى معادلة الفصل بين الدين والسياسة، بين الكنيسة والدولة، وباتت قاعدة ذهبية وشرطا مسبقا لازما لأى نمو، تطور واستقرار. اليوم يوجد لدينا من يريد إعادة التجربة من جديد، يقول بأن لديه خصوصية تجعل النتائج المترتبة على هذا الخلط مختلفة أو مغايرة عما جرى فى أوروبا، ويطلب منا منحه الفرصة، يقول ذلك وتجاربه حولنا أتت بنتائج أكثر كارثية مما تحقق فى أوروبا، انظر إلى أفغانستان، إيران، السودان والصومال، انظر أيضا إلى حال البلاد التى يتصارع أهلها على هذه المعادلة ( سوريا، ليبيا، اليمن والعراق). لكل هؤلاء نقول للدولة وظائف حددتها تجارب البشر، ولها أدوار تتسع وتضيق حسب خبرة الشعوب وتجارب البشر منها حفظ الأمن والاستقرار، توفير احتياجات الفئات الضعيفة فى المجتمع، تنظيم حياة المواطنين، إدارة بعض مجالات الاقتصاد، العمل على تحقيق الرفاهية وغيرها من الوظائف المرتبطة بحياة البشر على الأرض، وليس من بين وظائف الدولة أن تساعد المواطن على دخول الجنة، من وظائفها أن تعمل على إسعاد مواطنيها على الأرض وأن تعمل على أن يكونوا مواطنين صالحين، لكن أبدا لم ولن يكون من بين هذه الوظائف «إدخال المواطن الجنة» حسب رؤيتها أو تحديد خياراته الدينية، فتلك مسألة تخص الشخص ذاته من حقه أن يؤمن بما يشاء ومن حقه كذلك ألا يؤمن بما يؤمن به الآخرون، ويعتقد فيما يشاء وقتما شاء، والله سوف يحاسب الجميع على أفكارهم وسلوكياتهم. نحن نحتاج شجاعة الاعتراف بهذه المعادلة، فالدولة كيان اعتبارى لا دين له، تحتضن مواطنيها وفق قاعدة المواطنة وعلى أساس المساواة فى الحقوق والواجبات، تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والعقائد، فالدولة الديمقراطية هى التى تفصل ما بين الدين والسياسة ولا يخلط بينهما سوى نظم الحكم القمعية السلطوية والتى يحصل فيها رجال الدين على «ذهب المعز»، الكلمة الأخيرة لا تقدم ولا تحضر دون ديمقراطية ولا ديمقراطية دون فصل الدين عن الدولة.


كيف أنتمى إلى مصر؟ بقلم الأنبا موسى ٢٣/ ١٢/ ٢٠١٨ - المصرى اليوم

أولاً: الانتماء احتياج إنسانى
الانتماء احتياج أساسى للإنسان، لا سيما فى فترة الشباب التى فيها تتكون ملامح الشخصية وتتحدد توجهات الشباب المستقبلية، ولكن المؤسف أن البعض يتصور الانتماء نوعاً من «الصفقات»، التى فيها يتغلب الأخذ على العطاء... فيصير الانتماء إضافة إلى الذات، وقيمة أنانية فردية أو طائفية أو حتى جماعية، لهذا يقول بعض الشباب: كيف أنتمى إلى مصر وأنا لا أنال كل حقوقى، ولا أجد فرصة عمل جيدة، ولا فرصة سكن، ولا فرصة زواج؟!.
الحقيقة أن هذا التفكير غير سليم، فالانتماء أساساً «احتياج إنسانى» متعدد الزوايا، وهو مكسب بحد ذاته.. كيف؟
فعلاً، فهو جزء أساسى من الطبيعة الإنسانية، وهو احتياج متعدد الزوايا لأنه:
١- الانتماء احتياج إنسانى:
فإن كان الجهاز النفسى للإنسان: غرائز واحتياجات نفسية موروثة، مع عواطف وعادات واتجاهات مكتسبة، يكون الانتماء إحدى الحاجات النفسية الأساسية التى بدونها لا تستقيم النفس ولا يسعد الإنسان. وكما يحتاج الإنسان نفسياً إلى الأمن، والحب، والتقدير، والنجاح، والتفرد، والمرجعية، يحتاج إلى الانتماء. يستحيل أن يسعد الإنسان فى وضع «اللامنتمى»، إذ يحس أنه فى حالة فراغ، ووحشة، وعزلة رهيبة، وكأنه معزول فى جزيرة موحشة، وكل ما حوله ظلام ورعب ووحوش! وهو بذلك يقترب من إحساس بعض الوجوديين الملحدين الذين كانوا يقولون: «الجحيم هو الآخر»، فهم يعيشون وحشة الذات، وعزلة الأنا، ورفض الآخر!! ويتصورون أن الآخرين يعطلون تقدمهم، ويعرقلون نجاحهم، وإمكانية تحقيق ذواتهم.. مع أن الحقيقة أننى لا أكتمل إلا بالآخر، فهو عون وسند، وفيه يتحقق الحب، والتعلم، والاقتداء، ومن خلاله تتكون الأسرة، والجماعة، والمجتمع.
إن فكر السيد المسيح له المجد، يدعونا إلى العطاء، مؤكداً أنه «مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ» (أع ٣٥:٢٠). وهذه حقيقة اختبارية، عملية وعلمية، وليست مجرد وصية دينية. فالجحيم الحقيقى هو «الانحصار فى الذات»، وقديماً قال الآباء: «إن المشيئة الذاتية هى الجحيم»، فالإنسان الأنانى دائماً كاره ومكروه، أما الإنسان المعطاء فهو دائماً محب ومحبوب.. ومن هنا تبدأ السعادة، والسلام النفسى.
٢- الانتماء احتياج اجتماعى:
فالانتماء يشبع هذه الحاجة أيضاً، وأقصد الحاجة إلى الآخر، وإلى الاحتكاك والتفاعل، والتعاون والتناسق، والاتحاد والشركة. فالإنسان أصلاً «مخلوق اجتماعى»، وهو يحيا السعادة من خلال انتمائه للجماعة، أخذاً وعطاءً، وبخاصة كلما زاد عطاؤه عن أخذه. الإنسان المنحصر فى ذاته يحيا جحيم الرغبات الجامحة، والطموحات المحققة وغير المحققة، والعداء مع كل من حوله، وكل من يقف فى طريق أنانيته. أما الإنسان المحب للآخرين، والذى انسكبت فى قلبه محبة الله، فهو دائم الفرح والسلام، ودائم العطاء والتفاعل، يحب الجميع، ويحبه الجميع، يسعد الآخرين بحبه، ويسعد هو بحب الآخرين، وشعاره المفضل فى الحياة هو: «كن معطاء تعش سعيداً».
الإنسان مخلوق اجتماعى: فمن الزواج، إلى الأسرة، إلى دار العبادة، إلى الوطن، إلى البشرية... يحقق انتماءه فى دوائر متتالية، تتسع شيئاً فشيئاً، قدر ما اتسعت جدران قلبه، بسبب سكيب الحب الإلهى فى داخله!
ولعل لنا فى الأنبا بولا–أول السواح–أنموذجاً رائعاً فى الانتماء، وهو الراهب المتوحد لعشرات السنين، لا يرى إنسانًا، ولا يراه إنسان، فحينما التقى به القديس الأنبا أنطونيوس وجدناه يسأله عن أمرين: كفاح القديس أثناسيوس ضد الآريوسية، وذلك نتيجة انتمائه للكنيسة المقدسة، ومدى انتظام فيضان النيل، نتيجة انتمائه للوطن الأم.
أما وجدانياً فالمتوحد اتحد بالله: ومن خلال هذا الاتحاد المقدس، يتحد ببقية المواطنين، بل حتى إخوته فى الجنس البشرى عموماً.
كم بالحرى إذن ينبغى أن يكون الخادم والمواطن العادى فى ضرورة الارتباط بإخوته، والنمو فى المشاركة والتفاعل!.
٣- الانتماء احتياج روحى:
إذ كيف أستطيع أن أمارس حياتى الروحية دون «الآخر»؟ الآخر فرصة حب، وتعاون، وتعلم، وقدوة، واحتكاك، وتلمذة، واكتساب فضائل، ونمو روحى... فحتى لو ضايقنى الآخر، فهنـا أتعلم الحب!!. فالحب البشرى هو الحب «بسبب»، أما الحب الإلهى فهو الحب «بالرغم من» حتى الأعداء يعلموننى الصفح والحب، حينما آخذ فى أحشائى نوعية الحب الإلهى القادر على الصفح والعطاء.
إن الرب قبل أن يخلق حواء، أشعر آدم بالحاجة إلى «الآخر»، من خلال مرور الحيوانات والطيور أمامه، إذ وجد كل نوع منها ذكراً وأنثى، «وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ» (تك ٢٠:٢)، إذ شعر آدم باحتياجه هذا، فخلق الرب حواء من أحد ضلوعه، من منطقة الوسط، حتى لا تتسيد عليه أو تستعبد له، بل تكون «نظيراً» مساوياً، قريباً من القلب ومحبوباً. ومن خلال هذا الاتحاد الزيجى المقدس، يكون العطاء للآخر، وعطاء الزوجين للأولاد، والمجتمع، وللكنيسة.. امتداداً للجنس البشرى، وإضافة إلى عدد القديسين فى ملكوت الله.
لا شك أن الاحتكاك بالآخر هو طريق النمو الروحى، واكتساب الفضائل، واتحاد الحب، وفرصة الخدمة.. ثم ماذا عن: دوائر الانتماء–مقومات الانتماء–فوائد الانتماء؟ هذا ما سوف نتناوله فى العدد القادم إن شاء الله.
 أسقف الشباب بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية


خالد منتصر - رهان «السادات» الذى كلفه حياته - جريدة الوطن - 23/12/2018

الرئيس الراحل أنور السادات الذى نحتفل الآن بمئويته، صاحب حياة دراماتيكية، فيها كل منحنيات الدراما من صعود وهبوط، تراجيديا وكوميديا، انتصارات وهزائم، معاناة ورفاهية، الدراما دخلت كل تفاصيل حياته، حتى إنه فى شبابه تقدم فى مسابقة للتمثيل وكان عاشقاً للسينما، ولا بد ونحن نحتفل بمئويته أن نستفيد من كل الدروس الحياتية التى مر بها ومررنا نحن أيضاً بها معه كمجتمع وكوطن، الدروس الإيجابية والسلبية أيضاً، والمكتوب عن الدروس الإيجابية فى الصحف الآن كثير ومهم، لكن الدرس السلبى الذى لا بد أن نستوعبه، خاصة أننا نعيش تبعاته وتوابعه ليس أقل أهمية، درس الرهان على التيار الإسلامى وإمكانية انخراطه فى المسار الوطنى، وهو للأسف درس لم نستوعبه حتى الآن، ظن «السادات» للأسف خلال حربه مع من أطلق عليهم مراكز القوى، ثم مع اليسار المصرى أن أفضل من يحاربهم هم الإخوان، أفرج عنهم وقرّب مرشدهم «التلمسانى» إليه، تكونت الجماعة الإسلامية فى الجامعات، وكان فى الكواليس محافظ أسيوط وقتها منفذاً وداعماً، سمح بمجلة الدعوة، أهم أذرعهم الإعلامية وقتها، تمت السيطرة على النقابات بعد الجامعات، راهن «السادات» على أنهم سيقفون فى الصف الوطنى، ظناً منه أن الحائل كان الملاحقات الأمنية والاضطهاد، فتح لهم الأبواب، وبدأوا فى السيطرة على العمل الاجتماعى وبناء المدارس والمستوصفات، غضّت حكوماته المتعاقبة الطرف عن التمويل الخليجى، انتشرت المكتبات السلفية بكتب الخرافة وعذاب القبر والجهاد، صادروا الريف لصالحهم فكرياً، اشتد التعاون بعد مظاهرات يناير التى اتّهم فيها اليسار، فكانت نهاية آخر شعرة لعلاقته مع تياره الذى تم التضييق عليه، فى مقابل إتاحة الفرصة للإسلاميين بقوة، زحفوا على الإعلام، انتشر الحجاب باعتراف عصام العريان نفسه كراية سياسية فى شكل زى، بدأت الفتن الطائفية فى الاشتعال، وأشهرها «الزاوية الحمراء»، التى لم يقرأ خلفيتها على ضوء توغّل عصابة البنا، لكنه قدم قراءة سطحية عن غسيل مسيحى بينقط على بلكونة مسلمة!!، ظل حتى آخر لحظة مؤمناً بأن إرهاب هذا التيار هو فقط مجرد إرهاب بعض الأفراد المرضى فيه، وظل يرسل فى نداءات للولد الإرهابى اللى مستخبى فى الحتة الفلانية، ولغيره من الهاربين فى الكهف العلانى.. إلخ، فى نفس الوقت الذى يستمع إليه فى الصفوف الأولى من يحركونهم من خلف الستار، القط الذى ربّاه تحول إلى نمر، والتهمه يوم المنصة، يوم عرسه فى احتفالات النصر، هل هناك درس مستفاد من هذا الرهان الذى قامر فيه «السادات» بحياته؟، بالطبع نعم، الإسلام السياسى بكل أطيافه هو أيديولوجية فكرية وبناء عقائدى لن يتغير، هناك لحظات تقية ومناورة ومراوغة، لكن كراهية الوطن وحلم الخلافة وبذرة الخيانة والغدر موجودة وتنمو باستمرار، حتى لو فى صوبة مستترة، تعطيهم صباعك ياكلوا دراعك، ما إن تفتح لهم شراعة النافذة، سرعان ما يجلسون فى غرفة نومك.

Saturday, December 22, 2018

د. وسيم السيسى يكتب: لا أنا قلت ولا كريستوفر قال! - المصرى اليوم

الدكتور زاهى حواس تربطنى به صلات طيبة منذ أن كان رئيساً لهيئة الآثار، ولن أنسى كيف أرسلت له فتاة للتعيين، قال لها: يا بنتى أنا لم أعين أحداً منذ أربع سنوات، ولكن مع الدكتور وسيم لا أستطيع أن أرد له طلباً!. هذا الود القديم المتصل حتى الآن هو الذى يجعلنى أطلب منه تفسيراً أو رأياً عما أقرأ.
كتب الدكتور زاهى أنى قلت: إن الأهرامات محطات لتوليد الكهرباء، والحقيقة أنى قلت إن كريستوفر dunn فى كتابه: التكنولوجيات المفقودة فى مصر القديمة، الهندسة المتقدمة فى معابد الفراعنة: lost technologies of ancient egypt.
يقول إن الهرم الأكبر كان محطة لتوليد نوع من الطاقة اسمها: pizo electric effect نطلق عليها الآن: الموجات التصادمية، ونستخدمها فى تفتيت حصوات الكلى والمسالك البولية، وفى رأى كريستوفر أن هذه الطاقة تتولد من ذبذبات الصفائح التكتونية، والتى تحولها فراغات الهرم المحسوبة من موجات تحت صوتية إلى فوق صوتية تصطدم بجدار الهرم الذى هو جرانيت ٥٥% منه كوارتز إلى هذه الطاقة التصادمية التى تقطع الجرانيت كما نحول بها الحصوات إلى بودرة الآن، إذن لا أنا قلت ولا كريستوفر dunn قال: إن الأهرامات محطات لتوليد الكهرباء، أتمنى أن يعلق الدكتور زاهى على رأى جون taylor فى كتابه: رياضيات الهرم الأكبر، والتى ذكرها بالتفصيل دوجلاس كينيون فى كتابه «التاريخ الممنوع» صفحة ٢٢٣، وكيف أن البوصة الهرمية أكبر من البوصة البريطانية بـ ٥٥١. وأن هناك ٢٥ بوصة هرمية فى الذراع «الذراع من الكوع حتى طرف أصبع اليد الوسطى»، وأن قاعدة الهرم مساحتها ٣٦٥.٢٤ ذراع، وأن السنة الشمسية التى اكتشفها أجدادنا ٤٢٤١ ق.م هى أيضاً ٣٦٥.٢٤ يوم! كما أن للقامة الفلكية هى ارتفاع الهرم ١٤٩.٤ متر، فهل صحيح إذا ضربت هذه القامة الفلكية «نيوتن» فى مائة مليون تكون هى المسافة بين الأرض والشمس؟! وهل صحيح أن وزن الأرض مائة مليون مرة وزن الهرم؟! وهل صحيح أن د. عمر جنيد، عضو البعثة العلمية التى كان يرأسها «الفاريز» الحاصل على جائزة نوبل، قال: إما أن القوانين الطبيعية التى تعلمناها خطأ أو أن هناك طاقة غير معروفة تؤثر على الأجهزة الإلكترونية لأن النتائج متضاربة؟!.
نجد فى تقرير البعثة اليابانية «واسيدا» صفحة ٦٤: تحطمت أجهزة القياس لأسباب غير معروفة بعد أن اكتشفنا الغرفة التى لم نعرف من أبعادها أكثر من ثلاثة أمتار.
أذكر أنى صعدت إلى غرفة الملك فى الهرم الأكبر يوماً وجدت مرشداً سياحياً، قلت له: أرنى شيئاً غريباً، أخرج من جيبه شمعة، أشعلها ووضعها فى مكان ما من حائط الغرفة، اتجه اللهب للداخل.. داخل الحائط انتقل بالشمعة إلى مكان آخر، اتجه اللهب بعيداً عن الحائط! قال لى هذه تهوية داخلية لغرفة الملك!. على الدكتور زاهى أن يحل لنا هذه الألغاز.

خالد منتصر - اغتصبوا وذبحوا لنصرة الدين!! - جريدة الوطن - 22/12/2018

استيقظ العالم، منذ يومين، على كابوس بشع دراكيولى، ذبح سائحتين فى المغرب بعد اغتصابهما، إحداهما نرويجية والأخرى دنماركية. أتيتا من بلاد الشمال، حيث مؤشر السعادة فى أعلى درجاته، حضرتا من ريف اسكندنافيا، حيث ينام الناس وأبواب البيوت مفتوحة، ثقافة لا تعرف الأسوار ولا الأسلاك الشائكة ولا التوجس أو التربص، استمعتا إلى حكايات بلاد الشرق الجميلة، حيث وُلدت ألف ليلة وليلة، اختارتا بقعة بجوار مراكش، حيث السحر والجمال. كل منهما كانت قد قرأت أنها ستسافر إلى حيث خير أمة. على صفحتها كتبت النرويجية تدافع ضد خوف البعض من شكل أحد السلفيين فى أوروبا، هاجمت التعليقات وقالت: لا تحكموا على الناس بالمنظر الخارجى، لم تكن تعرف هى وصديقتها أن بنات الصفر هن وجبة شهية للدواعش، وأن أسعار السبايا الشقراوات هى الأعلى والأغلى فى سوق النخاسة.
استيقظ العالم على صدمة صراخ البنت البريئة تحت نصل السكين «لايف فيديو». يجز المجرم عنقها بكل تلذذ، منتشياً بنافورة الدم الساخن، يفرغ فيها شهوته السيكوباتيه، بعد أن أفرغ فيها شهوته الجنسية. الصادم أكثر هو الفيديو الذى سجله هؤلاء الحقراء السفلة، يبررون فيه ما هم مقدمون عليه، تلاوة آيات فيها ألفاظ القتل والجزية، ثم يقولون إنهم سيفعلون كل ما يفعلونه لنصرة الدين!! اغتصاب وذبح لنصرة الدين؟! أى دين ستنصرونه؟ من أى عجينة وضاعة تشكلتم؟ إن الضباع لتستحى أن تفعل فعلتكم، كيف يصل العقل الإنسانى إلى هذا المستوى المنحط؟ كيف تحدث تلك «الفرمتة» فيصبح قابلاً لتلك الهرتلات والهلوسات؟ وكيف تقبل مجتمعاتنا أن تصرف مليارات على مؤسسات دينية تزيف وعينا وتدشن وتخلق وتصنع تلك العقول من خلال نصوص تحمى ترساناتها بكل ما تملك من أموال وأسلحة؟! وعندما نتسول منها الإصلاح والتجديد، تتدلل حتى نتذلل، ثم تكون النتيجة مزيداً من التخلف والتزمت والانغلاق.
القتلة ذكروا فى تبرير فعلتهم الحقيرة نصوصاً دينية، هل انتبه أحد المؤلفة جيوبهم من مكتنزى المليارات وأصحاب بازارات الدعوة وبوتيكات الفتاوى إلى تلك النصوص؟؟ المشكلة فى المنهج المصرّ والمتمسك بتديين المجتمع وتحويله إلى جيتو دينى. العالم فى صدمة، والسؤال الملح الذى يفرض نفسه عليهم: لماذا سكان تلك البقعة، التى هبطت فيها الأديان السماوية، على خصام مع الأرض؟! لماذا يشغلهم الموت أكثر من الحياة؟ لماذا هم دوناً عن غيرهم لا يندمجون فى الحداثة؟ لماذا يتآلفون مع الدم ويمجدون الذبح ويعيشون فى وهم الجهاد وشرنقة الغزو وخداع التعالى على كل الثقافات والأديان الأخرى؟ يتساءلون: كيف، وهم الأكثر تخلفاً فى العالم، يمتلكون كل تلك الثقة والزهو والفخار؟! يستوردون طعامهم وملابسهم وأسلحتهم منا، ثم يبثون كراهيتهم وينفثون سمومهم ويذبحون لحم بناتنا بعد إفراغ كبتهم المزمن!! أسئلة تزعج العالم، لكنها للأسف لا تزعجنا، فنحن نعيش فى حجرة المرايات، لا نرى إلا أنفسنا، وفى النهاية ستتحول تلك الحجرة إلى مقبرة كبيرة، تجمع جثث كل الكائنات المنقرضة.

Friday, December 21, 2018

خالد منتصر - هل الدين يخضع لقوانين الديناميكا أم الإستاتيكا؟ - جريدة الوطن - 21/12/2018

هل عندما صاغ العبقرى الإنجليزى إسحق نيوتن قوانينه الثلاثة لتفسير الحركة والسكون كان يقصد بها هذا المجال الضيق لحركة وسكون الأجسام، أم أنه مثل كل العباقرة الذين كانت صورة الحياة بعد مجيئهم غيرها قبل وجودهم؟
بالطبع لا، فاكتشافات أمثال نيوتن وداروين وأينشتين تتحول إلى فلسفات كونية لتفسير العالم وفهمه ومن ثم تغييره، أصبحنا نتساءل دوماً عن الظواهر الحياتية والمعارف العلمية والظواهر الاجتماعية، هل هى ديناميكية أم إستاتيكية؟، ومن ضمن تلك المعارف كان الدين على رأس من طبقت عليهم تلك القوانين، هل الدين كالجسم الساكن تلاشت من حوله كل محصلات القوى فصارت سرعته صفراً؟، أم أنه متحرك له سرعة وعجلة وقوة دفع وتواجهه ردود فعل على أفعاله وأفكاره مساوية لها فى المقدار وأحياناً مع الفكرة وأحياناً ضدها فى الاتجاه؟.
نحن الآن نريد الدين إستاتيكياً وهذه هى المأساة والكارثة، نتعامل معه بقوانين الإستاتيكا التى تعتبره كتاباً ساكناً على طاولة لا يلمسه أحد حتى لنفض التراب عنه، صورة معلقة على حائط، لا تتحرك وبالطبع لا يتحرك الحائط إلا من خلال زلزال بدرجة ألف ريختر، ومنطقة الفكر العربية الإسلامية للأسف خارج حزام الزلازل الفكرية!، نرفض أى مفهوم يتعامل بديناميكية مع الدين، الديناميكية حركة تحترم قوى الزمان والمكان والتطور.
ولا نستطيع الادعاء بأنه لم يوجد مفكر إسلامى على مر التاريخ حاول نفخ روح الديناميكية فى الدين، لم يوجد مفكر واحد بل وجد مفكرون كثيرون، لكنهم صودروا بالعزل أو بالنفى أو بالإقصاء أو بالذبح والاغتيال، حتى صاروا نسياً منسياً، وانتصرت مدرسة الإستاتيكا على الديناميكا، والنقل على العقل، الديناميكا هى روح القوانين، وعندما يريد تجار الإسلام السياسى تحويل الدين إلى منظومة قوانين لا يستلهمون تلك الروح الديناميكية ويريدون إجهاضها لصالح الثابت المعلوم من الدين بالضرورة والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولو كان الدين بالعقل لكان مسح الخف من أسفل والعقل كالحمار يوصلك إلى باب دار الدين وعليك أن تربطه بالخارج... إلى آخر هذا الكلام الذى يروج لقتل الحس الديناميكى النقدى المتغير.
تلك الروح التى لخصها المشرع الأثينى سولون لقومه: «ليست قوانينى تلك هى خير قوانين بوسعى أن أسنها، ولكنها خير قوانين بوسعكم أن تقبلوها»، هكذا كان حال المجتمع الجاهلى الذى كان لا يستطيع وقتها قبول عدم تعدد الزوجات أو إلغاء العبيد... الخ، إنها روح التطور والتغيير التى جعلت فى مدة 23 سنة هى عمر الجماعة الإسلامية الأولى مبدأ نسخ آيات، هذا النسخ الذى هو مرادف لمبدأ تغيير فكر وتطور رؤية، بديهية مقبولة لم نستطع نحن فهم روحها وترجمتها لسؤال واضح ومشروع وهو إذا كان هذا التطور قد حدث فى 23 سنة فما بالك بأربعة عشر قرناً؟!، هل أغلق النبى الباب خلفه بعد تلك الـ23 سنة ووضع نقطة آخر السطر؟!، الفكر الديناميكى يستلزم وضع الأمر فى إطاره الزمانى والمكانى، وتفسير التفاصيل من خلال هذا الإطار الأشمل، على سبيل المثال إطارنا الأشمل فى محاربة السرقة هو تحقيق العدل، أما تفاصيل العقاب وقتها فقد كان قطع اليد، ألقينا بالإطار الشامل فى سبيل تسكين التفاصيل وتقديس إستاتيكيتها بحيث تتلاشى كل القوى المؤثرة وتصبح المحصلة صفر تغيير وزيرو تطوير.
كتب المفكر المجتهد حسين أمين فى كتابه «دليل المسلم الحزين»، ص 215، عن قطع يد السارق تلك المعانى وهى أن الملكية كانت ملكية منقولة لا عقارية، يعنى سرقة الناقة تساوى فى معادلة بسيطة سرقة الماء والغذاء والخيمة والسلاح، يعنى قتل، والسرقة من القبائل الأخرى كانت تعد فخراً، وكانوا يحتقرون الزراعة والمزارع، لذلك كان الحل الذى يريد لم الشمل وبتر تلك الجريمة البشعة التى تساوى الاغتيال للفرد فى القبيلة، هو قطع يد السارق.. هل تلك المفاهيم التى ذكرها حسين أمين من فخر سرقة الغزو واحتقار الزراعة واختصار حياة ومعيشة الفرد فى ناقته، هل تلك المفاهيم لم تتغير الآن؟، عندما تتطور الأوضاع ويتغير شكل الملكية، وتصير سرقة مائة ناقة لا تهم، ولم يعد ذلك الشكل من السرقة هو الجريمة الشائعة، أليس من حقنا بل واجبنا أن نغير أحكامنا طبقاً للإطار الشامل والمقصد الأسمى وهو تحقيق العدل؟!.
نحن للأسف نفهم أسباب النزول التى هى نفحة روح الديناميكية فى الدين على أنها مناسبات نزول، وهو ما التقطه بذكاء المستشار سعيد العشماوى حين فرق بين الأسباب التى هى ظروف واقعية تفاعلت مع النص، والمناسبات التى تعنى أن النص كان موجوداً سلفاً يتحين المناسبة، إذن الفهم الديناميكى الصحيح هو أن الظرف الواقعى.
أولاً، الصراع الحياتى أولاً ثم يأتى النص متفاعلاً مع هذا الظرف وذلك الصراع، لكننا أردناه فهماً إستاتيكياً وكأن عبارات النص تقف جاهزة فى طابور انتظار، وما إن يحدث الحدث حتى تخرج من الطابور لتتعشق كالأرابيسك فى الحدث، حتى مفهوم العقوبة على الجريمة الذى نظنه إستاتيكياً هو فى الحقيقة مفهوم ديناميكى يتطور بتطور المجتمع، فالعقوبات قديماً كانت تقوم على التشفى والانتقام والمماثلة، قطع وجلد ورجم وقطع من خلاف وصلب.. الخ.
المفهوم الإنسانى الحديث يقول فى المادة الخامسة لإعلان حقوق الإنسان «لا يجوز تعريض أى شخص للتعذيب أو للمعاملة والعقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة»، مفهوم القصاص صار للدولة وليس لولى الدم، والدية المحددة صارت لا تناسب العصر، ومائة من الإبل لا تكفى الآن تعويضاً لبتر إصبع قدم اللاعب محمد صلاح الصغير، وعندما تقدمنا فى العلم صار تعويض بتر إصبع الإبهام أو تكييفه القانونى أفدح بكثير من الأصابع الأخرى لأننا عرفنا قيمة هذا الإصبع تطورياً، لا يمكن أن نقبل الآن حبس أهل المكان الذى وجد فيه قتيل فى مكان غير معروف قاتله تحت اسم القسامة!.
كل تلك الأمثلة وغيرها إذا لم نفهم آليتها وما وراءها من مقاصد ونحترم كم وكيف التغير والتطور فيها لن يحدث أى تجديد أو إصلاح، فأولاً: الأحكام وقتية وليست سرمدية أو أبدية وإلا لظل كما ذكر خليل عبدالكريم حكم الأمر النبوى حتى الآن وهو لا إسلام لمن لا هجرة له فقد تغير حكم الهجرة ولم يعد فريضة.
ثانياً: النصوص الدينية تاريخية بمعنى أن النص له جذر تاريخى مثل حد السرقة الذى كان موجوداً وسابقاً على التشريع، والنص أيضاً له مناسبة تاريخية مثل ما قيل فى الحجاب وعدم قراءة كتب اليهود.. الخ.
ثالثاً: هناك أسباب نزول كما ذكرنا ومن الممكن أن تتغير الأحكام مع تغير الأسباب.
رابعاً: استخلاص الغاية أو المقصد من الحكم كما ذكرنا هو المهم لأن الحكم نفسه ليس هو الغاية، فمثلاً تربص الثلاثة قروء للمطلقات غايته هى براءة الرحم فهل لو وصلنا إلى تلك الغاية بوسيلة أحدث نكون قد حققنا الهدف أم أن المهم والأولوية هى لحرفية الثلاثة قروء؟.
خامساً: تجاوز أدلة الثبوت الواردة بالنصوص إلى ما هو أحدث منها، وقد ضرب خليل عبدالكريم بشروط إثبات الزنا واستحالتها الآن مثلاً واضحاً لإمكانية تجاوز تلك الأدلة القديمة الملائمة لطبيعة نظام قبلى مفتوح ومكشوف إلى أدلة حديثة أخرى تناسب مجتمع المدينة المعقد.
سادساً: القيام بحفريات لغوية للتعرف على المدلول الصحيح للألفاظ والنصوص، وهو ما حاوله «خليل» وغيره من المفكرين حتى غير المسلمين، فاللغة مرتبطة واللفظ متعلق بمكان وزمان ولادته، وانتزاعه من سياقه هو تدليس وتزييف وعى وابتزاز فكرى ونصب دينى، فلا بد من رده إلى معناه وقتها، وهناك ألفاظ يستخدمها الدعاة ورجال الدين منتزعة السياق للحصول على مكاسب سياسية، مثل ألفاظ الحجاب والإمام والولاية والخلافة والإمارة والشورى...الخ.
إذا لم نفهم تلك القواعد وآليات التعامل وتمسكنا بإستاتيكية الدين والتعامل معه على أنه وديعة مغلق عليها فى خزانة حديدية وما علينا إلا أن نفتح الخزانة وننظر أو نشم فقط ثم نعيد إغلاقها من جديد، إذا تمسكنا بتلك المفاهيم المتحفية سننقرض جسداً وفكراً، حتى حفرياتنا الجيولوجية ستندثر، الدين لا يحتاج إلى وزارة آثار لكنه يحتاج إلى وزارة إنتاج وقوى عاملة، الدين تقتله إطارات وعلب المتحف الزجاجية، وتنعشه وتنميه أنفاس أكسجين الهواء الطلق وضوضاء البشر.

Wednesday, December 19, 2018

خالد منتصر - فى حب عمر خيرت - جريدة الوطن - 20/12/2018

الاثنين الماضى كان ميعادى مع الفن الذى بدونه تكون الحياة خطأ، كما قال «نيتشه»، مع الموسيقى، أذهب إلى حفل عمر خيرت فى الأوبرا وكأننى مراهق مقبل على موعد غرام، هو متعة نفس وعلاج روح، والأهم أنه اطمئنان على مصر، فبلد ما زال فيه عمر خيرت هو بلد من الممكن أن تطمئن عليه وإليه!! هكذا همست لنفسى، وأنا أستمع إلى شوبان مصر، هذا الساحر الذى تُطبطب أنامله على وجداننا، تهدهد شغاف قلوبنا، وتمسح ملح العبَرات الذى جفّ من ركام الأحزان من على مآقينا، المهم أن يبقى عمر خيرت، والأهم أن يبقى متذوِّقو عمر خيرت على العهد والوعد، فالوطن الذى يتذوق فيه المواطن موسيقى عمر خيرت، ويشترى تذكرته من السوق السوداء، ويحجز حفلاته قبلها بشهور، هو وطن لا يمكن أن يموت، من الممكن أن يمرض وترتفع حرارته ويهلوّس أثناء الحمى، ثم يستيقظ عندما تستيقظ مناعته وتُستفَز إمكانياته المخبوءة المهدرة، فالإرهاب يموت يوم أن يسكن التمثال واللوحة والكونشيرتو والباليه وجدان المصرى، فمَن يتذوق تلك الإبداعات لا يمكن أن يُشهر سكيناً أو يبقر بطناً أو يفجّر كميناً، لأنه ببساطة سيحب الحياة، عمر خيرت لا يجيد الكلام والثرثرة، اللغة الوحيدة التى يجيدها هى لغة الفن والموسيقى، هو يعرف أنه حفيد الفراعنة وسليل عائلة خيرت العبقرية، ويعرف أن عليه واجب الحفاظ على هذين اللقبين، كانت حفلة عمر خيرت مزدحمة ولا يوجد كرسى واحد فاضى!، اعتبرته خير تصويت على أن وجدان مصر ما زال فيه الرمق، ما زال يعافر، شباب وكهول، رجال ونساء، يتشبثون بأهداب الفن السحرية، تطبطب على أرواحهم أنامل عمر خيرت السحرية، دموع الجمهور وهو يعزف (فيها حاجة حلوة) تصرخ بأن مصر بالفعل فيها حاجات كتير حلوة يجب البكاء عليها لو ضاعت، تفاعلهم مع (يبقى انت أكيد المصرى) تشبث بالجذور الوسطية الأصيلة للمصرى المتجرد من عباءة بدو الوهابية، أخذنا عمر خيرت إلى جنة الفن وفردوس الإبداع، أيقن الجميع أن أعداء الفن هم أعداء الحياة، عرفنا أن مَن لا يهتز لنغمة أو يطرب لإيقاع فهو غير جدير ببناء حياة ومستقبل، مَن لا يبكى عندما يشاهد فيلم (نهر الحب) أو (حبيبى دائماً)، ولا يضحك عندما يشاهد الريحانى أو عادل إمام ويتذكر فقط أن الأول مسيحى والثانى يستحق السجن! فهو غير مؤهل لخوض مغامرة تغيير مجتمع وبناء وطن، مَن يرى فى راقصة الباليه مجرد ملابس قصيرة تثير غريزته الجنسية هو إنسان مريض نفسياً مكانه مستشفى الخانكة، ولا ينبغى أن تكون له المرجعية! ومَن يستمع إلى مزامير الشيطان فى موسيقى الساحر عمر خيرت فهو أصم غليظ الحس متبلد الوجدان.
استمعوا إلى عمر خيرت فى هذه الأيام الصعبة، احتفوا واحتموا بموسيقاه، ارقصوا واطربوا وفكّوا صواميل الكبت والقهر والتزمُّت، وذَوِّبوا نشا الصمت والتواطؤ والخوف على إيقاع موسيقى هذا العبقرى الجميل.

«ماكرون» و«الزعامة».. بقلم مصطفى حجازى ١٩/ ١٢/ ٢٠١٨ - المصرى اليوم

لا يَختَلِف كثيرون على سوء قراءة وإدارة الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» لأزمة الاحتجاجات الشعبية العارمة ضد سياساته الاقتصادية.. والتى عُرِفَت إعلامياً باسم أزمة «السترات الصفراء».
وإن يختلف المحللون بين أكثرهم تشاؤماً على كونها أزمة سَتَعصِف بمستقبل «ماكرون» السياسى وتُخرِجه من الإليزيه مستقيلاً أو مقالاً.. وبين أكثرهم تفاؤلاً - أو قُل سَطحية - والذى سَيصرفُها إلى كونِها زوبعة تُحتَوى ببعض المُحَفِزات الاقتصادية والرِشى الاجتماعية.. كَرَفعِ الحد الأدنى للأجور أو إلغاء الضرائب على ساعات العمل الإضافية كما وعد الرئيس الشاب فى خِطابه.
بغض النظر عن المحصلة النهائية لأزمة ثقيلة كهذه فى بلد عريق فى مواجهة الأزمات كـ«فرنسا».. وعن مآل «ماكرون» بقاءً أو خروجاً من الإليزيه.. فما أستطيع أن أراه مُطمَئناً هو أن «ماكرون» قد أكد طريقه نحو «زعامة» من «نوعٍ ما» مُتجاوزة الأزمة، بل متجاوزة حدود فرنسا ذاتها.
حين تحدث ماكرون فى خِطابه المُتَلفَز الذى لم يَتعدَ «إثنى عشرة دقيقة» ومواجهاً الناس.. تحدث بوجدان زعيم حتى وإن لم يتمثل هيئة الزعامة صوتاً وسَمتاً.. تحدث هادئاً بصوت رخيم يحمل من المنطق أكثر مما يرنو إلى التعبئة.
أملى عليه وجدان الزعامة أن يُثبَت المسؤولية فى حق نَفسه ولا يُراوغ فى ذلك.. ولا يبحث عن أكباش فِداء..
تحدث عمَن خَلطوا الحرية بالفوضى وحَذَّرَ من الفوضى.. ولكنه لم يكن أقل دفاعاً عن الحرية عنه من التحذير من الفوضى..!
لم يتحدث فى شأن الفوضى إلا إصراراً على الدفاع عن حرية التعبير وقبولاً بأنها الحق الذى يأتى أولاً.. وأن مثالب ممارسته لا تنفيه ولا تَجُبُه ولا تدفعُ الى جنون المُماراة فيه أو محاولة حَجِبه عن البشر.. !
تحدث صادقاً عن أمور يَعرِف أنه لا يملك فيها تدليساً.. ولا يَصِحُ أن تكون مفردات نفاق أو دغدغة مشاعر.. تحدث أن هَمَّه الأول هو الفرنسيون وأن صراعه الأول من أجلهم وأن معركته الأساسية هى من أجل فرنسا.. ولكن الأهم أنه أثبت ذلك بأن اعتذر عملياً عن خطأ سياساته وتراجع عنها بالفعل قبل القول.
لم يُخالِج «ماكرون» للحظة أن ما يقوله هو محاولة للالتفاف حول ضمير الشارع وعرف جيداً أن تراجعه وتنازلاته عن بعض تصوراته الرأسمالية ليس فيها انكسار أو انهزام أمام شركائه فى الوطن.. فهو يعرف أنه رئيس يعمل لدى شعبه وليس صاحب سلطة ملك رقاب الناس..!
ما يؤصَلُ جَليَّاً لملامح الـ«زعامة» فى خطاب «ماكرون» ودون تَكَهُنٍ بمصيره السياسى.. هو أن خطابه المُرَكَّز - والخالى من الرطانة - وإن جاء مُتَأخراً وليس تصالحياً بشكل كافٍ مع كل قطاعات المُحتَجِّين الرافضين لسياساته.. إلا أنه خطاب رئيس لا يَخاف شَعبَه بِقَدر ما يحترم شرعية حكمه التى أوْلَاهَا له الشعبُ ويخشى أن يحيد عنها أو يضل بها.. وإلا فَقَدها!
«ماكرون» أبدى ملامح زعامة خارج حدود بلاده.. يذكرها له أعداؤه قبل حُلفاؤه.. ففى وقت تَتَحَوصَلُ فيه بريطانيا بمشروع خائب اسمه «البريكسيت» أى الخروج من الاتحاد الأوروبى.. وتنكفئ فيه ألمانيا مرحلياً عن القيادة بحالة أقرب إلى شيخوخة سياسية مؤقتة متمثلة فى تقاعد مبكر تسعى إليه «أنجيلا ميركل».
يدعو «ماكرون» إلى جيش أوروبى موحد.. ويقود صداماً سياسياً حول حماية البيئة فى داخل معسكر الغرب مع ساكن البيت الأبيض غيرُ المُتَزِن «تَرمْب».. ويُحيِى «الفرانكفونية» على نحو غير مسبوق.
أتمَّ «ماكرون» تلك الخطوات أم لم يتمها.. نجح فيها كلها أم أخفق.. سُيَذكَر أنه رجل وَعى قدر الأمة والدولة التى جاءت به المقادير على رأسها.. فأوْلَاهَا قَدرها وتحرك على هذا الأساس.
الوعى بِقَدر دولته واستقامته مع رؤيته ومشروعه وحد كبير لديه من العلم والوعى بالتاريخ وحقائق العصر قد لا تُعفِيه من مصير الخروج القسرى المبكر من قصر الرئاسة.. ولكنها قد تضمن له مقعداً فى مَصافِ الزعامة.. والأهم أنها ستضمن لفرنسا أن يبقى رَحِمُ مُجتَمَعِها وعَقلِها خَصبُا يُنتِجُ لها رِجالاً يَضمَنُون لها الاستقرار والسَبق والغَلَبَة.
الزعامات لا تخافُ شعوبَها.. ولكنها تَعافُ ألا تكون على قدر كبرياء حلم شعوبِها.. وألا تحقق مشروع وطنها الذى وُجِدَت من أجله واستؤمنت عليه..!
فرنسا عَرِفت وعَلَّمَت أبناءها - «ماكرون» وغير«ماكرون» - أن الكرسى ليس هو الزعامة..!
«شارل ديجول» بقى زعيماً بعد أن ترك كرسى الرئاسة بأكثر مما كان وهو على رأس السلطة.. لأنه كان زعيماً من أجل قضية والقضية كانت من أجل شعب..
لم يُسمِ «شارل ديجول» ميدانا باسمه ولا أنشأ كنيسة لكى ينتحل بها صفة قديس ولا تطلع إلى بلد يَلهَجُ بِسِيرَتِه ولو قَسراً.. ولكن فرنسا سارت حول سيرته وبسيرته حين وضع كل رصيده النضالى والسياسى على محك الرضا الشعبى فى استفتاء - منذ خمسين سنة بالتمام - على إثر احتقان مجتمعى عام ١٩٦٨ كالذى تعيشه فرنسا اليوم وأكثر..
«ديجول»- وهوَ مَن هوَ- مَن انتشل فرنسا من مصير مُهين وقادها لنصر لم تكن لتحيا بغيره.. عَرِفَ أن كبرياء الزعامة فى ألا تأتى تغلباً وقهراً.. فوضع على رقبته معياراً هو من اختاره سيفاً للحقيقة بألا تقل نسبة القبول الشعبى لبقائه ولسياسته وقيادته عن أكثرية ثُلُثَى المجتمع الفرنسى..!
خَسِرَ «ديجول» الاستفتاء بمعيار الكبرياء لا معيار الأرقام.. لِينُهى وظيفته كرئيس لفرنسا.. وليكسب القدر والقيمة.. وليبقى فى وجدانها زعيماً تاريخياً خارج قصره بأكثر من داخله.. ولتبقى استقامته مُلهِمَة لِشَعبِه مُعينَة له على إفراز قياداته والأهم مشروع حياته المتجدد..
هذا ما نقرأه فى أحوال فرنسا وأزمتها وهو أولى مما نقرأه عنها وكفى..!
فَكِّرُوا تَصِّحُوا..


قبل فوات الأوان بقلم د. درية شرف الدين ١٩/ ١٢/ ٢٠١٨ - المصرى اليوم

ذهبت ألبى دعوة كريمة لحضور الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، والذى أحيته أوركسترا «أم النور» بالمشاركة مع كورال «مؤسسة أولادنا» من ذوى القدرات الخاصة، وكان بمسرح الجمهورية التابع لدار الأوبرا، وأعترف أننى ذهبت وأنا أحمل حرجاً أعرف مصدره، وإحساساً بالذنب، وألماً أشاركه مع الجميع الذين حضروا مسلمين وأقباطاً، نظرة اللوم فى العيون لا تخفى على أحد، نظرة التساؤل عما سيحمله المستقبل من جديد بادية للعيان، كلمة إلى متى؟ تبدو واضحة على الشفاه الصامتة، إلى متى ستبقى إمارة المنيا هكذا بالصعيد قنبلة قابلة للانفجار؟ إلى متى ستعشعش هناك تلك التفرقة المقيتة بين أبناء الوطن الواحد، ويترك مقترفوها أحراراً يعيثون فساداً، ويقدمون مثالا قابلاً للنقل والتقليد؟ كل جريمة فى المنيا تمر دون عقاب أو يأتى العقاب هينا متثاقلاً، تخلف وراءها جريمة جديدة وثالثة ورابعة، ضجت ألسنة المسلمين مع المسيحين وربما قبلهم فى مصر بالشكوى، وطلب إنفاذ القانون وسرعة توقيع العقاب على المعتدين، فما زالت هناك عقول واعية وقلوب طيبة ترى فيما يحدث استهانة بالمسيحيين، وظلماً وتقاعساً من أجهزة الدولة المسؤولة عن أمن المنيا وأهلها، ترى هناك نموذجا قابلا للتكرار، مادام الجزاء لا يأتى والعقاب لا يفرض بسيف العدالة والقانون وبمنطق الرحمة والأخوة، وبالسرعة الواجبة التى تمثل إنذاراً للآخرين.
ومن جديد نعيد ونزيد: بلاد حولنا تمزقت إلى أشلاء يحاولون تجميعها منذ سنين، وكانت البداية تلك البؤر الموبوءة بالاستعلاء والرفض والتشكيك فى ديانات الآخر ومعتقداته، تلك الكراهية التى قتلت إنسانية الإنسان واستشرت عندما لم تجد من يضرب عليها- من البداية- بيد من حديد ومن نار.
يتساءل الناس فى المنيا الآن: أين الدولة؟ أين مسؤولوها؟ أين أجهزتها الأمنية والسياسية؟ أين هم قبل وقوع تلك الكوارث وأين هم بعد تكرارها مرات ومرات؟ صحيح أن الإرهاب يطال الجميع مسلمين وأقباطا، لكن الاستهداف شىء آخر.
الأنبا مكاريوس الأسقف العام بأيبراشية المنيا وأبو قرقاص ومعه الأنبا أغاثون أسقف مغاغة والعدوة يرفعون أصواتهم من هناك، ربما للمرة المئة وعقب تلك الفاجعة الأخيرة بقتل رجل وابنه على يد شرطى، يقولون ونحن معهم: المنيا فى حاجة لتدخل رئاسة الجمهورية قبل فوات الأوان.. نكرر: قبل فوات الأوان.

خالد منتصر - تاريخ الرؤوس المعلقة على جدار السلطة - جريدة الوطن - 19/12/2018

أعترف بالتقصير فى تأخر اطّلاعى على هذا الكتاب المهم، كتاب «دماء على جدار السلطة»، فهو مرجع لا غنى عنه لكل من يريد استكمال رحلة بحث طه حسين عن أسباب الفتنة الكبرى، أخذنا المحامى الكبير رجائى عطية فى رحلة تفاصيلها مرعبة ومخزية، لكن لا بد أن نتعلم منها ونتمعن فيها، هى رحلة دم أريق من أجل كرسى السلطة، كتبها بمشرط جراح محترف، ورؤية وطنى محب، ولغة أديب بارع، وتدفق حكاء جذاب، ودقة مؤرخ عاشق، الكتاب ضخم يزيد على 400 صفحة، وأرجو من دار «الشروق» توفيره فى طبعة شعبية، لكى يطلع الجيل الجديد على تاريخ الصراع من أجل السلطة فى تاريخ المسلمين، وتنضج رؤيته ويفيق من وهم تحقيق الخلافة وجنّتها المزعومة، يكفى أن يعرف هذا الشاب أن جسر الخلافة فى هذا التاريخ قد شيّد على الجماجم والرؤوس المقطوعة التى اختار المؤلف لها تعبيراً أكثر ميلودرامية ودراكيولية ظل يتردد عبر الصفحات، وهو تعبير «احتز رأسه»!!، لكى يصل هذا الإحساس السيكوباتى الذى كان يمتلك على الذابح عقله المغيب، وهو يهتف الله أكبر، متلذّذاً بنافورة الدم الدافقة المندفعة من شرايين الرقبة، وهذه لمحة من تلك الرؤوس التى حزّها وجزّها وفصلها قائدون ومحاربون فى تاريخ المسلمين:
شمر بن ذى جوشن فصل رأس الحسين عن جسده بـ١٢ ضربة سيف من القفا، الخليفة كان يزيد بن معاوية.
انتقاماً للحسين قُطع رأس عمر بن سعد بن أبى وقاص فى حربه مع المختار الثقفى.
قطع رأس المختار الثقفى بواسطة مصعب بن الزبير، وأُرسل إلى عبدالله بن الزبير، وقطعت كفّه وسُمرت بمسمار إلى جانب المسجد.
قُطع رأس مصعب بن الزبير بواسطة زياد بن ظبيان، وأُرسل إلى عبدالملك بن مروان، الذى سجد لله شكراً عندما رآه، ثم أرسل رأسه إلى شقيقه عبدالله بن الزبير.
قطع رأس عبدالله بن الزبير بواسطة الحجاج بن يوسف الثقفى، الذى أرسله إلى عبدالملك بن مروان، ثم قام بصلب جسده، وعندما وصلت الجثة إلى أمه «أسماء» كانت قطعاً متناثرة، ولم يصلِّ عليه إلا هى وشقيقه عروة.
قطع رأس قطرى بن الفجاءة، وأرسل إلى الحجاج.
قطع رأس ابن الأشعث، رغم انتحاره بعد هزيمته من الحجاج فى دير الجماجم، ومقتل ثلاثين ألفاً من جنوده.
قطع رأس زيد بن على زين العابدين، حفيد الحسين، فى حربه مع هشام بن عبدالملك، بعد نبش قبره، وإخراج جثته، جزّ رأسه، ثم صلب، ثم حرق، ثم طحنت عظامه.
بعد موت هشام بن عبدالملك قطع رأس الخليفة الوليد بن يزيد الثانى وحمل رأسه إلى دمشق.
قطعت جثة عبدالملك بن مروان وهشام بن عبدالملك بعدما أخرجهما أبوالعباس السفاح من القبر، وجلد الجثة ثمانين جلدة، ثم حرقها، ونثر رمادها مع الريح.
قطع رأس محمد النفس الزكية، حفيد الحسن، وأرسل إلى الخليفة أبوجعفر المنصور، ثم قطع رأس عبدالله الأشتر، الذى واصل معركة «النفس الزكية»، وأرسل إلى الخليفة نفسه.
قطع رأس الحسين الفخى فى معركته مع الخليفة العباسى الهادى، ونُقل من مكة إلى بغداد لزوم اطمئنان الخليفة على الذبيحة.
وأختار لكم لضيق المساحة بعض الاقتباسات من هذا السفر العظيم التى قصدها المؤرخ المهموم رجائى عطية، لكى تدرسوا دلالاتها، اقرأوا جيداً ما كتبه على لسان أبى جعفر المنصور، حينما قال فى خطبته: «أيها الناس، إنما أنا سلطان الله فى أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه...»، اسمعوا كيف افتخر قائد مسلم بحفلة القتل فى موقعة «الحرة» واستباحة المدينة المنورة بأطفالها وشيوخها ونسائها، اسمعوا مسلم بن عقيل، وهو يتحدّث بمنتهى الورع والتقوى عن ضحاياه «فما صليت الظهر أصلح الله أمير المؤمنين إلا فى مسجدهم، وبعد القتل الذريع، والانتهاب العظيم، أوقعنا بهم السيوف وقتلنا من أشرف لنا منهم، وأتبعنا لاحقنا مدبرهم، وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناهم ثلاثاً، كما قال أمير المؤمنين، أعز الله نصره».
وأنا أتساءل أخيراً: ما طعم ذلك النصر الذى بمذاق الدم النازف، والأشلاء المبعثرة، والبطون المبقورة، والجماجم المطحونة، والأجساد المصلوبة، والرؤوس المقطوعة، والعيون المفزوعة!!!، إجابة هذا السؤال وغيرها ستجدها فى هذا الكتاب الرائع الدسم بقلم الراجى تقدم هذا الوطن المعطاء لمستقبله الحريص على تماسك نسيجه رجائى عطية.

Tuesday, December 18, 2018

د. محمد أبوالغار يكتب: الدين لله والوطن للجميع ١٨/ ١٢/ ٢٠١٨ - المصرى اليوم

خلال الأسابيع الماضية، أثير بكثافة فى الصحف موضوع قديمٌ، كان يصعد إلى السطح ثم يختفى كل فترة. وفى أزمنة سابقة أدى هذا الخلاف العقائدى حول دور السنة النبوية الشريفة إلى الاقتتال أحياناً.
كان لشيخ الأزهر ولرئيس الجمهورية رأيان مختلفان، وانتصر البعض لهذا الرأى والبعض للآخر، وكانت آراء عامة الشعب والمفكرين والصحفيين متباينة وبها اختلاف كبير. دعانى هذا السجال إلى التفكير فى الأمر بعيداً عن دين بعينه، وإنما فى الأديان السماوية وغيرها والتى تمس حياة مئات الملايين من البشر فى كافة أنحاء الدنيا.
نعلم جميعاً أن الإنسان يكتسب دينه بالمولد، ويرثه من أبويه، ويعيش الإنسان فى كنف هذا الدين ويستمع طوال الوقت إلى عظمة هذا الدين ونقائه.
الأغلبية العظمى لمن يولد يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً أو هندوسياً أو غيرها يظلون على دينهم الذى ولدوا عليه. البعض يصبح شديد التدين، والبعض يكون أقل تديناً. وقلة نادرة هى التى تتخلى عن الدين الذى ولدت عليه أو تنتقل إلى دين آخر، غالباً لأسباب دنيوية كالزواج أو العمل أو الهجرة.
معظم البشر على وجه الأرض مرتبطون بدين ما. أما الدول، فالمعيار الوحيد لأن يطلق عليها اسم دين هو أن غالبية سكانها من دين معين. ولكن هذا لا يعنى أن ألمانيا مثلاً يمكن أن تسمى دولة مسيحية وليبيا دولة مسلمة والهند دولة ملحدة. هذا أمر غير منطقى لأن الدولة ليست إنساناً يصلى ويصوم، والدولة لم تولد مثلاً من أب مسيحى فتصبح دولة مسيحية، ومعظم دول العالم مواطنوها ينتمون إلى ديانات مختلفة، فإذا قررنا مثلاً أن ألمانيا دينها المسيحية لأن أغلب سكانها مسيحيون فماذا عن المسلمين أو الهندوس الألمان الذين يعيشون فيها؟
الدين لله والوطن للجميع
... ولذلك فيرى الكثيرون أن الأفضل للدول أن تكون محايدة بين الأديان، وتختار قوانينها وقواعدها من التجارب البشرية السابقة ومن الأفكار السامية فى الأديان التى تحقق العدالة والمساواه بين كافة البشر. ولنتذكر كم غضبنا جميعاً حين أعلنت إسرائيل أنها دولة يهودية، ونسيت أن بها مسلمين ومسيحيين.

إذا رجعنا بالتفكير إلى تاريخ أوروبا فى القرون الوسطى، لوجدنا أن الكنيسة اعتبرت العلماء والمفكرين الذين غيروا البشرية، وقدموا أبحاثاً عظيمة مهرطقين، وحكمت عليهم بالإعدام، وحجرت على حرية التفكير والبحث. وكانت اللحظة الحاسمة لبدء تطور أوروبا نحو مستقبل أفضل اقتصادياً وعلمياً هو فصل الدين (دور الكنيسة) عن الدولة، فانتفضت الأفكار، وانطلق العلم وتقدمت أوروبا بقفزات واسعة إلى الأمام.

الآن كل دول الغرب فى أوروبا وأمريكا تفصل بوضوح بين الدولة والدين ممثلاً فى الكنيسة. والقانون واضح، لا يمنع المواطن من الاهتمام بدينه والالتصاق به ولا يعاقبه إذا ابتعد عنه، لأن هذا أمر بين الإنسان وربه، ولا يجب أن يتدخل فيه شرطى أو مأمور.

الدين فى منطقتنا شديد الأهمية بالنسبة لأغلب المواطنين مسلمين أو مسيحيين، وهو قد يلعب دوراً إيجابياً فى التعليم وجمع الأموال للفقراء وللمشروعات الخيرية وقد يلعب دوراً سلبياً إذا أسىء استخدامه فى العنف وقتل الأبرياء باسم الدين. الدين هو أمر شديد الخصوصية بين الإنسان وربه، وإذا شاهدت الذين يصلون، كم منهم خاشع وقريب من ربه يناجيه، ويتواصل معه فى روحانية جميلة، وكم منهم يؤدى الصلاة، وهو يفكر فى أمور دنيوية بعيدة عن الحالة الروحانية. هذا أمر لا يستطيع أن يقرره بشر.

الخلافات العقائدية موجودة فى كل الأديان. دع كل إنسان يفكر، ويقتنع بما يراه، ويلتزم به فى علاقته مع ربه. أما أن نجعل هذه الخلافات العقائدية معركة ينتصر فيها مجموعة، وتفرض رأيها على الآخرين، وتضع قوانين لتطبيقها، وتعاقب من لا يطبقها، فهو لن يصل بنا إلى شىء.

إذا طبقنا فعلياً مبدأ الدين لله والوطن للجميع، فسوف نكون أسعد حالاً، وسوف تحل تلقائياً الخلافات المذهبية داخل الدين الواحد وبين الأديان المختلفة، وسوف تحل مشاكل يومية مثل كتابة الديانة فى البطاقة.
كل واحد يعبد ربه بالطريقة التى اقتنع أنها المثلى فى تقربه من الرب. سوف يتوقف النصب باسم الدين والتجارة باسم الدين ولن يستغل تاجر طويل اللحية الدين فى جلب الزبائن، بل سوف يسعى أن يكون أميناً ولا يغالى. ولا تنسوا أن هذا الشعار ظهر أثناء ثورة ١٩١٩ ضد الاحتلال الإنجليزى، وبه عاش المصريون فى سلام، وكانوا أكثر تديناً، وأقل كلاماً فى الدين. إذا طبقنا ذلك فقد ينحسر الإرهاب، ويحل السلام داخل كل دين وبين مختلف الأديان.
قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك
د. محمد أبوالغار

زاهى حواس يكتب: «الأهرامات محطات توليد كهرباء»! ١٨/ ١٢/ ٢٠١٨ - المصرى اليوم

هذا ما سمعناه من د. وسيم السيسى فى حديثه لإحدى القنوات التليفزيونية العربية. وكان السؤال الأصلى عن الذى بنى الأهرامات المصرية. وقد دافع عن المصريين، وهاجم من يقول إن بناة الأهرام هم اليهود. وأنا شخصيًا من المعجبين بهذا الرجل؛ فهو يتحدث بأسلوب جميل وهادئ، وهو شخص مؤدب، وأنا شخصيًا أحترمه وأقدره، ولكن عندما أسمعه يقول إن الأهرامات كانت محطات لتوليد الكهرباء! فالرد واجب؛ إذ إن هذا هو تخصصى الدقيق ومجال دراساتى فى الآثار المصرية لأكثر من نصف قرن.
وهنا أود أن أشير إلى أن هذا الكلام لا يوجد أى دليل علمى يؤيده إطلاقًا، بل هو عبارة عن تخيلات أسمعها كثيرًا من غير المتخصصين الذين لم يدرسوا هذه الفترة من تاريخ مصر.
ولذلك تجد من يقول إن الأهرامات تحفظ التكنولوجيا أو تخص القارة المفقودة أطلانتس أو بناها قوم هبطوا من الفضاء.
وقد ناظرت وناقشت كل هذه الآراء بطريقة علمية وبأدلة حقيقية، ولم أجد هناك أى دراسة علمية تعطى مصداقية لهذه الآراء. ولا يوجد دليل لغوى أو أثرى يشير إلى أن الأهرامات كانت محطات لتوليد الكهرباء.
لذلك سوف أوضح للقارئ وللصديق د. وسيم السيسى الأدلة العلمية التى تثبت أن الأهرامات قد بُنيت كمقابر منذ عهد الملك زوسر، وإلى أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة، الملك أحمس، الذى بنى هرمه فى أبيدوس. ومن بعده، بنى ملوك الدولة الحديثة مقابرهم مستغلين الشكل الهرمى ممثلاً فى الجبل بوادى الملوك.
وقد عثر داخل هرم الملك زوسر، أول الأهرامات المصرية، على جزء من يد وقدم الملك داخل الهرم، بالإضافة إلى العثور على مومياء الملك نفر-إف-رع، أحد ملوك الأسرة الخامسة، والذى بنى هرمه بجنوب سقارة. هذا بالإضافة إلى أن مقابر النبلاء والموظفين التى عُثر عليها حول الأهرامات وجدنا بداخلها مومياوات كاملة، ومنها ما وُجد فى مقبرة نفر بسقارة ومقبرة أخرى للكاتب كاى كشفتها غرب هرم خوفو. وتشير ألقابهم داخل هذه المقابر إلى أنه كانت لديهم وظائف عديدة تشير إلى أنهم كانوا مسؤولين عن إحياء عقيدة الملك المدفون داخل الهرم. وإذا ما قرأنا نصوصًا أو متونًا عن الأهرام، والتى بدأت فى عهد الملك أوناس، آخر ملوك الأسرة الخامسة، سوف نجد أنها تشير إلى الملك المدفون أسفل الهرم، وكان يستعمل الهرم كسلم للصعود إلى الإله رع فى السماء.
أما الدليل الثانى، فهو وجود حول الهرم ما يشير إلى أربعة عشر عنصرًا معماريًا. وكانت لكل عنصر وظيفة محددة لإحياء عقيدة الملك المتوفى من خلال الكهنة الذين كانوا يعيشون داخل المدينة الهرمية، ويقدمون الطقوس داخل معبد الوادى والمعبد الجنائزى. وكانت وظيفة مثل هذه المعابد عبادة الملك والإله رع والإلهة حتحور. وقد عُثر حول هرم خوفو فقط على كل هذه الأدلة التى تثبت أن الهرم كان مقبرة فقط. وفى نفس الوقت ترمز هذه الأدلة الأثرية إلى قوة وعظمة الملك المتوفى. ولذلك إذا كان الهرم محطة لتوليد الكهرباء، فما سبب وجود كل هذه العناصر والأدلة اللغوية والأثرية حول الهرم؟!
وهناك أيضًا البردية التى عُثر عليها مؤخرًا، وهى أقدم بردية عثر عليها إلى الآن فى وادى الجرف، والتى يوجد بها ما يؤكد من سطورها أن الهرم ما هو إلا مقبرة للملك. وهى البردية الوحيدة التى تتحدث عن بناء الهرم، وعن الملك خوفو، وعن إدارة الهرم، ونقل الأحجار بالمراكب من النيل إلى الهرم. وإذا كانت هذه الأهرامات محطات توليد كهرباء، فأين النص الذى يؤيد ذلك؟! وإذا كان الملك بنى هذه المحطة، فأين دُفن الملك؟! أما الرد على وجود أكثر من هرم للملك، مثل الملك سنفرو، أول ملوك الأسرة الرابعة، فسوف نجد أنه بدأ ببناء هرمه فى ميدوم، وبدأ البناء كهرم مدرج، ولكن وجد مهندسه نفرماعت أن بميدوم لا توجد الأحجار التى تكفى لبناء هرم ضخم، وصار هذا الهرم مدفنًا رمزيًا للملك، ونقل مقر الملك من ميدوم إلى دهشور. وبدأ فى بناء الهرم المعروف تحت اسم الهرم المنحنى. وعندما وجد المهندس أن تغيير الزاوية قد يعوق دفن الملك، إذا ما مات فجأة؛ لذلك بدأ البناء فى الهرم الشمالى، ولكن استقر سنفرو على أن يُدفن داخل الهرم المنحنى، ثم عاد كى يحول الهرم المدرج بميدوم إلى هرم كامل.
أما الهرم الرابع، فيوجد فى سيلا، ولكنه ليس هرمًا؛ فهو مثل التل الأزلى الذى خرج منه الإله ليخلق العالم، وبجواره بنى سنفرو قصره الذى عاش به عندما كان يبنى ويشرف على تحصيل الضرائب. وأعتقد أننا لو قرأنا كتب الأهرامات التى نشرها شتادلمان وفرنر ولينر وكاتب هذه السطور، فلن نقول أبدًا إن الأهرامات المصرية كانت محطات توليد كهرباء!
وفى محاضراتى العامة، أقول إذا جاء أى شخص غير متخصص، ونظر إلى الهرم، فسوف تأتى له تخيلات وأفكار ليس لها أساس من الصحة، وإذا درس الأدلة، فسوف يعرف أن هذا الهرم كان هو المشروع القومى لمصر والمصريين، وأن بناء الهرم هو الذى بنى مصر العظيمة.