Translate

Sunday, September 7, 2014

عن «الأمن القومى»..! بقلم د. مصطفى حجازى ٨/ ٩/ ٢٠١٤


-١-
الحديث عن الأمن القومى أمر واجب.. وبالضرورة حاضر فى كل وقت..
فوق أن الشواهد التى تعد بإقليم على شفا الانهيار والتشظى.. والتهديدات الأمنية فى الداخل.. تجعل من تناوله الآن ضرورة أكبر.
ولكن ــ ومن أسف ــ فإن واقع السيولة المجتمعية الحالى جعل الحديث فى أمر بهذه الجدية والخطورة مشاعاً تدنى به لحد الابتذال..! اجترأ عليه ممتهنو الشهرة.. ولم لا؟!.. فللعنوان وقع ساحر يدغدغ المشاعر ويتسلل لعقول العامة.. ويعين على مشايعة السلطة والتزلف لها..! وفى وسط صخب أقرب إلى هرج الموالد فى الموروث الشعبى المصرى ــ والتى يختزل فيها جلال النسك ــ ابتذل جوهر بقاء وطننا إلى «مدرج» سلطة حيناً أو «سبوبة» شهرة أحياناً..! بل أهين أكثر ــ حين أراد بعضهم أسطرته وتغليظه فى إطار مؤامرة كونية تختصنا.. بمثل ما يقدس صاحب المولد لتحتكر القربى منه.. فتضيع بقداسته المدعاة قداسة الدين..!
ولهذا أظن أنه قد توجب علينا أن نناقشه بحد أدنى من عمق وهدوء يليقان به.. هذا إذا كنا جادين فى حق مستقبلنا..!
لا أبالغ إذا قلت إن بداية تآكل الأمن القومى كانت يوم غابت عنا حقيقته..!! إن اختزال قضية الأمن القومى فى بسط السيادة على التخوم والحدود «فقط».. أو فى القدرة على رد الاعتداء المباشر عن الحدود القانونية للدولة، يعد تبسيطاً قد يكون مخلاً.. ويكون تناولنا للقضية أعمق ولاشك حين يضاف الأمن المائى وترويض فقر الغذاء والطاقة.. ولكن يبقى الأمر بعيداً عن جوهر حقيقته..!
الأمن القومى يبدأ وينتهى فى وجود «معنى لوطن» يسكن وجدان إنسان.. يشعر بأنه منتم لهذا «المعنى».. وبأن قيمة وجوده لا تكتمل إلا بتبادل الولاء بينه وبين هذا الوطن تاريخاً وجغرافية وثقافة وحضارة وعرفاً.. وأكثر من ذلك أن هذا الإنسان موقن أنه يملك من وطنه كل ذلك.
وطن يشعر معظم أبنائه أن لهم نصيباً فى تاريخ مجده.. بقدر ما هم شركاء فى طموح مستقبل عزه ونصره، وبقدر حجم كتلة البشر من أبناء أى وطن التى تحيا بهذا المعنى وله.. وتبنى على أساسه شراكة مصير.. تكون حقيقة وجود أمنه القومى وفرص استدامته.
فاليقين بملكية الوطن وشراكة المصير هما جوهر أى «قومية».. موروثة كانت أو مصنوعة..! ولذلك واحتراماً لأنفسنا.. فقبل أن نضيف كلمة «قومى» لكلمة «أمن».. فلنبحث هل هناك بالفعل «قومية» قائمة على أسباب منطقية تضمن لها البقاء أم لا؟ وإلا صار الأمر ضرباً من الادعاء.. وبتعبير أكثر قسوة.. ضرباً من الهذيان.
أين لبنان من معنى الأمن القومى؟!.. أين العراق وليبيا وسوريا والصومال؟!.. أين البلقان؟!.. فيوم فقدت حقيقة قومية تلك الشعوب منطق وجودها، أو دفعت للتنازل عنها على موائد القمار السياسى، لم يبق لها أن تتحدث عن أمن قومى.. حتى وإن أرادت..!
فحتى وإن أتخمت مخازنها بالسلاح وخزائنها بالمال.. فقد اختارت أو أجبرت تلك الشعوب.. أن تصبح شراذم أو تجمعات من البشر تحيا على «جغرافيا» ما.. وليس للشراذم أن تتحدث إلا عن قضايا الأمن الشخصى لجماعات المصالح «الأوليجاركية» وإقطاعيات مماليك.
تلك حقائق مرة ينطق بها واقع.. لا نيل فيها ولا إقلال من شأن شعب أو دولة.. فليس فى تشخيص المرض سب للمريض أو لأهله..!
فمن قرروا أو اضطروا أن يكونوا مماليك العصر حكاماً ومحكومين تنازلوا عن حريتهم يوم فقدوا «منطق» الوطن.. فمعنى الوطن هو قوام لمعنى الحرية لم يعه هؤلاء، وهذا عين ما ابتلينا به بين نظام الحكم الذى سقط فى ٢٥ يناير ٢٠١١ وتنظيم الحكم الذى هدم فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣..!
-٢-
سيؤرخ أن التضييق الحقيقى للأمن القومى المصرى بدأ واستفحل مع القتل المنتظم الذى قام به الرئيس الأسبق مبارك ونظام مماليكه ــ متعمداً أو جاهلاً ــ لمعنى الوطن داخل المصريين، وإحالتهم إلى شراذم نفسية وإن بقوا جماعة متماسكة شكلاً على جغرافيا موحدة «بحفظ الله وحده لها».
ومن إحدى منصات المولد سيقال إن مبارك كان من أكثر الحريصين على أمن مصر العسكرى بل الاقتصادى.. لم يزج بها فى حروب جديدة وعمل على تطوير اقتصادها ما استطاع..!
القول الأدق أن مبارك انتهت سنون سلطته وهو أكثر الحريصين على مصر بمعنى الإقطاعية أو مجال سلطته وسيادته هو.. أكثر من مصر الوطن الذى يخص كل أبنائه، ولذلك كانت اختياراته تبنى على هوية نظامه واستحقاقات تلك الهوية أكثر من هوية مصر واستحقاقاتها.. وكان فى هذا جوهر تضييع أمننا القومى.
ولذلك أيضاً رأينا كيف كان التطابق فى المنهج بين تنظيم الإخوان ونظام مبارك فى التعامل مع الأمن القومى بالمعنى الذى فهموه.. وإن اختلف الإخوان عن مبارك فى كونهم حديثى عهد بسلطة وأكثر شبقاً بها.. فجاءوا أكثر توتراً.. مهرولين فى وتيرة نهب السلطة لا أكثر.. وفى ذلك كان مقتلهم.
فتنظيم الإخوان هو صنو نظام مبارك وقسيم حكمه.. حتى ولو من موقع التابع المتأهب للغدر بسيده، ولكنه لا ينكر على سيده أكثر من موقع تسيده.. يضمر الرضا باستبداده منتظراً أن تدور الدوائر وتدين له سلطة الاستبداد.
-٣-
لم تكن أدوات مبارك والإخوان ومماليكهما فى قتل معنى الوطن فى أكثر من تكريسهم الجهالة والتغييب.. ثم الابتزاز النفسى للمصريين باسم المؤامرة على الدولة أو الدين..!
نظام مبارك هو من شارك ــ ولو بالصمت ــ فى نشر التنطع باسم الدين.. بل استثمر الفوضى الناتجة عنه لصالح بقائه. فهو النظام ذاته الذى أنشأ البيئة الطاردة والمطاردة لكل تنوير والحاضنة لجماعات التغييب.
وذلك ما أوصلنا الآن ــ أيها الأعزاء ــ إلى مرحلة تردى فيها الأمن القومى المصرى من «الانكشاف» إلى «الاستباحة» ثم ما لبث أو أوشك على أن «يبدد» بالكلية..!
لحظة الحقيقة قاسية ــ نعم ــ ولكن تحمل فى طياتها فرصة تاريخية نرجو ألا تكون أخيرة، فإذا كان العقل المصرى والذى لم يجرف بقدر ما جرف فى عصر مبارك.. قد حافظ على منطق جمعى يجعله يثور ثورة كرامة مرتين.. فكان من قبيل المعجزة فعلاً.. فسيكون فى المنطق الجمعى ذاته حقيقة الفرصة الباقية.
وفى شيطان التفاصيل عرفنا أن مأساة تغييب المجتمع باسم الدين لم تبدأ فقط مع فضائيات الإسلاميين أو مع صعود التيار الإسلامى لسدة الحكم.. ولكنها بدأت حين انتشر على الأرصفة أول شريط كاسيت لأول داعية تنطع باسم الدين فى سبعينيات القرن الماضى.. ولم نحرك ساكناً ولو بالاستنكار..!
واستمرت المأساة فى لعبة سلطة ميكافيلية أرادت أن تستخدم الغلو فى الدين للقضاء على الغلو فى السياسة.. أو هكذا ظنت.. ارتضينا جميعاً دور المشاهد حتى ضيعت اللعبة أجيالا بأكملها.
وبمثلها تبرز للسطح الآن جماعات «التنطع باسم الدولة والوطن» والمتاجرين بأمنه القومى على «كاسيت القرن الحالى».. فى الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعى..!
تنكر تلك الجماعات على المصريين إنسانيتهم المتمثلة فى الأمل فى رحابة الحرية والعدل والكرامة..! تقنطهم من رحمة المستقبل والغد والوطن بهم.. ومن رحمة الله قبل كل ذلك.. تنشر اليأس باحتكارهم الحديث باسم الأمل..!
تصدر صكوك الوطنية لمن تشاء وتدمغ بأختام الخيانة من تشاء.. تماماً كما أصدر شركاؤهم متنطعة الدين صكوك الغفران ودمغوا من شاءوا بمصير الجحيم.
وهم فى ذلك يقدمون أنفسهم كأطراف فى لعبة تحالف ميكيافيلى جديد مع بقايا بيروقراطية الماضى، تتصور أنها تستخدم غلو الحديث باسم الدولة لتحجيم الفوضى.. وهى بالقطع تحارب فكرة الترقى وحلم التغيير، وهى اللعبة ذاتها المرشحة أن تضيع الوطن ذاته.. ولكن باسم الوطن هذه المرة..!
-٤-
إن عدم «الانحياز» لحق المصريين فى اليقين بملكيتهم وطنهم، وفى الحلم بحياة حرة عادلة كريمة.. وترك وجدانهم مرتعاً للسفهاء من المتنطعة باسم الدولة يمزقونه بالريبة والشك، وهدم معنى الثقة فى كل ما حولهم وقتل نخوة الأمل.. جرم لا يقل عن جرم السفهاء أنفسهم.. فإن «السفيه إذا لم ينه مأمور».. كما يقول بيت الشعر..!
وإن عدم «القطع» ــ بالفعل لا بالقول ــ فى أن شرطة شرعية كل حاضر ومستقبل هى بقدر الالتزام بما انتصرت له ثورة ٢٥ يناير و٣٠ يونيو من إرادة المصريين.. يضع من سيؤثرون الضبابية فى دائرة «الحرام الوطنى»، كمثل ما سقط فيه مبارك والإخوان ودوائر مماليك النظام وخوارج التنظيم..!
وإن عدم «مواجهة» كل فعل وقول يقهر المصريين نفسياً ليحملهم على الاعتراف بأن ثورتهم الممتدة وحلمهم فى الإنسانية كليهما ذنب يلزم التكفير عنه وإثم يستتاب منه.. هو دعوة للعدمية والاستقالة من الحياة.. ومن يتصور أن فى ذلك تهدئة لاحتمالات فورات قادمة أو استدعاء للاستقرار يكون واهماً.
و«الانحياز» و«القطع» و«المواجهة».. لن تكون إلا بتسييد الدستور والقانون وهما منطق التعايش الذى ارتضاه المصريون.. ففى مواد هذا الدستور ما يضمن الانحياز ويعين على مواجهة من يهدمون أسس أمن مصر بهدمهم وجدان المصريين.. ويعين على تحديد مهام مؤسسات الدولة تجاه استعادة حقيقة معنى الوطن فى النفوس، وفى ذلك كلنا مسؤول بل كلنا مكلف.. كل حسب قدرته.. لأن القدرة هى مناط التكليف لا فرق فى ذلك بين من يحكم من موقع إدارة أو موقع إرادة.. كلنا مكلف..!
-٥-
أخيراً.. وإذا كنا قد أيقنا أن الأمن القومى لن يكون «فقط» فى عتاد جيش أو فى اقتصاد موسر.. بشواهد من دول حولنا لم يغن عنها سلاح كدسته أو أموال اكتنزتها.. وضاعت أو كادت فى مهب ريح الجهالة والطائفية والعصبية والقبلية.. يبقى أن نبدأ فى لملمة شتات أمننا المبدد مقاساً على جوهر حقيقته.
يقيناً.. سندرك ما فات فى شأن أمننا القومى.. حين ننقذ حلم الناس من براثن هوام البشر وبقايا المستبدين والمماليك التى تريد أن تسممه وتقتله.. بالقدر نفسه إن لم يكن أكثر.. الذى يلزم به أن نلحق بركب العصر عسكرياً وصناعياً وخدمياً وثقافياً.
ويقينا.. سنشرع فى بناء الأمن القومى بحق.. إذا لم نتقال الحديث عن «تحرير المواطن نفسيا» أو عن تحقيق «الكبرياء الوطنى المستحق» فبهما صنعت ماليزيا قوميتها.. وإذا لم نعتبر أن الحديث عن «الحق فى الحياة والحرية واقتفاء السعادة» من قبيل الرفاهية أو طنطنة المثقفين «الأفندية الأرازل بتعبير الرئيس السادات رحمه الله».. وعلى ذلك نبنى كل مؤسساتنا ونؤطر مشروعات الوطن.
أمننا القومى.. إذا أردنا أن نحفظه.. فلنحفظه فى وجدان كل مصرى واع ــ فى أصغر نجوعها وقراها ــ حلماً يدافع عنه لنفسه ولوطن يملكه.
الوقت يداهمنا واللحظة مواتية.. أرجو ألا نضيعها حتى تلطمنا إعلانات رمضانية واردة كتلك القائمة على منظومة التسول الإعلامى.. عنوانها «أكفل أمن مصر القومى»..!
استبيح كبرياء المجتمع باسم الإصلاح.. فلم نستكثر أن تستباح هيبة الوطن باسم الأمن..؟!
الأمر لم يعد هزلاً.. ولكنه من جملة الجد المضحك المبكى..!
فكروا تصحوا.

No comments:

Post a Comment