Translate

Monday, June 29, 2015

وسيم السيسى... سُرَّ من رآك بقلم فاطمة ناعوت ٢٩/ ٦/ ٢٠١٥

حين ينطقُ عنوانَ كتابه الجميل، يقول: «مصرُ التى لا تعرفونها». وحين أتحدثُ أنا لأصدقائى عن ذات الكتاب، أقول: «مصر التى لا نعرفُها».
اختلاف الضمائر بين الجملتين يعود إلى أنه يعرف عن مصر أكثر مما نعرف. وإن كان دائمًا ما يعترف، بتواضع العلماء، بأنه معنا لا نعرف الكثير عن مصر القديمة وتاريخ سلفنا الصالح، أجدادنا الفراعين. لكنه دون شكّ يعرف ما لا نعرفه، ليس فقط بوصفه باحثًا كبيرًا فى علم المصريات، ولا بحكم أنه أستاذ فى الطب، حاصلٌ على زمالات بريطانية وأمريكية، وله براءات اختراع فى تخصصه، وعمليات جراحية تحمل اسمه، فتوسّل معارفه الطبية تلك فى السعى وراء أسرار أجدادنا ليعرف عبقريتهم الطبية، من بين عبقرياتهم العديدة، فوضع كتابًا يُزيّن الآن مكتبة الكونجرس الأمريكى عنوانه Medicine in Ancient Egypt، «الطب فى مصر القديمة»، وليس أيضًا لكونه مثقفًا موسوعيًّا رفيع الطراز، له باعٌ عريض فى الآداب والشعر والفلسفة والفنون والتاريخ، فضلا عن تخصصه الطبى وبحثه الدؤوب فى المصريات، بل لأنه «عاشق».
هذا رجلٌ عاشقٌ مُتيّمٌ شَغِفٌ صَبٌّ مُغرَمٌ وَلِعٌ، مرزوءٌ بالهوى، إن كان الحبُّ رُزءًا. هذا رجلٌ مفتونٌ بحسناءَ ساحرةٍ، فتنتْ من قبله عظماءَ وفرسانًا وزعماءَ وفلاسفةً وعلماءَ فطافوا حول هودجِها وأهرقوا عند قدميها أعمارَهم.
لكن هؤلاء وأولئك لم يكونوا منها، بل غرباءُ جاءوها غزاةً طامعين فى مجدها وخيرها ورغدها وعلمها وتراثها الأخلد، لا يشبهون عاشقَنا. عاشقُنا أحبَّها لأنه منها، ولأنها منه. هو بعضُها، وهى كلُّه.
فأدرك أن خلاصَه مرهونٌ بوجودها، وأن اكتمالَه رهنُ كمالِها. فأحبَّها حبَّ المُشِيد المُشَيِّد، لا حبَّ الآخذ السالب. يُشِيدُ بحُسنها الغابر فى كل مجلس، ويُشيِّدُ ما تهدّم من مجدها الآفل مع تواتر الغُزاة الطامعين على سواحلها، أو توغّل الجهلاء العابرين فى دروبها.
العاشقُ هو عالم المصريات المؤرخ الطبيب د.وسيم السيسى. والمحبوبة الحسناءُ الآسرةُ هى مصرُ البهية.
أجلسُ الآن جواره على منصة «صالون المعادى» لنحتفل معًا، ضمن أعلام مصر وكِبارها، بربع قرن مضى على هذا الصالون الفكرى المحترم. فى بالى محاضرةٌ سوف ألقيها عن «الأصنام الأربعة» كما صنّفها المفكر البريطانى «فرنسيس بيكون»، تلك التى تعوّقنا عن معرفة الحقيقة.
لكن الحقيقة أن الكلام فى حضرة العلماء صعبٌ. عن يسارى د.وسيم السيسى، ومن أمامى الكاتب الكبير جلال أمين، وبين الحضور علماءُ وأطباءُ ومثقفون مما يشكّل حاضرةً فكرية مخيفة كأنها كوكبٌ من نور وسط مجرّة مظلمة شاسعة المدى. فتلبّستنى حالُ الرهبة التى تتملك بقلبى كلما دعانى د.وسيم لأحاضر فى صالونه الشهرى الثرى. فى حضرة وسيم السيسى، لا بديل عندى سوى الصمت والإنصات لكى أتعلّم. فالصمتُ فى حرم الجمالِ، جمالُ.
مكتوبٌ على باب أكاديميا أفلاطون، فى القرن الرابع قبل الميلاد: «من لا يحبُّ الرياضيات لا يدخل علينا». وكأننى أقرأ ما ليس مكتوبًا على باب أكاديميا السيسى: «مَن لا يحبُّ مصرَ ولا يعرفُ تاريخها، لا يدخلُ علينا». د.وسيم، سُرَّ مَن رآكَ، وتعلّمَ من سمعك. فعِشْ ألفَ عامٍ وعلّمْنا.

No comments:

Post a Comment