Translate

Thursday, May 16, 2019

الصحوةُ من الصحوة.. وارتزاقُ الأصفار! بقلم فاطمة ناعوت ١٦/ ٥/ ٢٠١٩ - المصرى اليوم

لسببٍ أو لآخر، قدّمَ أحدُ أعتى غُلاة المتشددين الإسلاميين فى المملكة السعودية، «د. عائض القرنى»، أخطرَ مراجعة فكرية عرفها التاريخُ الحديث، واعتذر على الهواء وعلى الملأ عن سلبيات عديدة فى نهج ما سموه «الصحوة الإسلامية»، التى أورثتِ البشرية سنواتٍ وعقودًا من الويل والتنمّر والتكفير والإرهاب وتشويه وجه الإسلام فى عيون العالم.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن ذاك الاعتذارَ سهلٌ رَخْصٌ. مجرد كلمة تخرج من الأفواه يُسرًا كما خرجت ألسنةُ اللهيب من الأفواه يُسرًا فكفّرت وفجّرت وأحرقت. لكنه فى الحقيقة ليس كذلك، لأن المعتذِرَ، وهو (الرقم الصعبُ) فى الفكر السلفى التكفيرى المتشدّد يعلم تمام العلم أنه سيدفعُ فاتورة باهظة من الانتقاد اللاذع تصيبُه سهامُه من (الأرقام الصغيرة) التى ترتزقُ على التشدد والتكفير والرجعية. فهو ببساطة «يُبوِّر» بضاعتهم بهكذا اعتذار!.
«الحركة الصحوية» مصطلحٌ نشأ فى ثمانينيات القرن الماضى على ألسن بعض الدُّعاة المتشددين مثل «سلمان العودة»، «عائض القرنى»، «عوض القرنى»، «ناصر البريك»، «سفر الحوالى»، وغيرهم. وهى حركة إخوانية رجعية عمدت إلى إخفاء الوجه السمح للإسلام وإعلاء راية الرجعية والتديّن الشكلى وإهمال جوهر الإيمان. واليوم، يبدأ أحدُ أساطين ذلك التيار فى رحلة العودة من طرف الجمود المتزمّت إلى جادة الاعتدال السمح الذى يُبشِّر ولا يُنفِّر؛ كما ينصُّ الحديثُ الحاسم: «يَسِّروا ولا تُعسِّروا، بشِّروا ولا تُنفِّروا».
وهنا، نرجو أن يكون ذلك الاعتذار بدايةً حقيقية لطَى صفحة سوداء من تاريخ الإنسانية، دفعت فيها البشريةُ بكاملها أسهمًا فادحة من فاتورة التطرف، مثلما دفع الإسلامُ ذاته سهمًا غاليًا من وجاهته فى عيون الإنسانية.
وقد يتساءلُ المرءُ إن كان الاعتذارُ سوف يُصالح ملايين النفوس التى تكدّرت حياتُها بسبب تلك «الصحوة»، كما سموها على مدى أربعين عامًا، أو يداوى الأرواح التى أُزهقت والدماء التى أُهرقت بسبب تكفير الناس للناس؟!، أو هل يعيد الثرواتِ الحضاريةَ التى لا تُقدر بمال، تلك التى فُجّرت وحُطّمت وأُحرقت جرّاءَ نعتها بالأصنام زورًا وجهلًا، أو إن كان ذاك الاعتذارُ سوف يُقدّم ترضيةً للبلاد الغربية التى دخلها المتطرفون لاجئين فخربوا حضارتها بدعوى أنها أرضُ كفر وضلال!.. ولا يملكُ الإنسانُ إلا أن يسأل نفسه إن كان ذلك الاعتذار الجميل سوف يرأبُ صدوعَ مصرَ التى ألبستها رياحُ الصحويين الأكفانَ وهى فى عز إشراقها وجمالها، وضربت خاصرتَها سهامُهم ففرّقت بين مسلميها ومسيحييها؟!.. ثم نتساءل إن كان الرأىُ العام العالمى سوف يصمت، أم يتخذ إجراءً حاسمًا ضد قطر وتركيا بعدما فضحتهما شهادةُ «عائض القرنى»، وكشفت أنهما على رأس الجهات الداعمة للإرهاب فى المنطقة العربية، والممولة لأجندات الإخوان، إلى جانب بوقهم الإعلامى، قناة الجزيرة، لتجميل خطابهم الدموى؟!.
جاء ذلك الاعتذارُ المتأخر بعدما «اتسع الخرقُ على الراتق» واستفحل سرطانُ الإرهاب فى أرجاء الأرض، وقررت السعودية التحرر من النفق المظلم الذى حفرته. ولكنْ فى كل حال، الاعتذارُ اعتذارٌ، وإن تأخّرَ فخيرٌ من ألا يأتى على الإطلاق. ففكرة (الاعتذار) فى حدّ ذاتها إدانةٌ صريحة لكل ما جرى فى تلك السنوات القاسية الآثمة التى توغّل فيها (الفكر الصحوى) على ألسن الإسلامويين، وهيمن على آذان بسطاء المسلمين فى أرجاء الأرض، وسيطر على عقل المجتمع العربى والإسلامى وظلَّ صداه مسموعًا مُدويًّا من الزوايا وعلى منابر المساجد، وجعلنا نحن المستنيريين الرافضين للظلامية والتطرف فى مرمى النيران، واضعًا أعناقنا تحت مقصلة التكفير، بزعم أن كل من يُخالف نهج الصحوة مختلفٌ مع الإسلام ذاته! والعكس هو الصحيحُ دون شك.
وهنا يبرزُ السؤالُ الكبير: «وماذا عن شيوخ التكفير فى مصر من تلاميذ (الصحوة السعودية)؟! هل سيعتذرون كما اعتذر عرّابُهم، أم ستأخذهم العزّةُ بالإثم ويُكابرون؟!».
يقول «مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة» التابع لدار الإفتاء المصرية، فى بيانه الرسمى، إنه يُرحِّب باعتذار الداعية السعودى عن الأفكار المتشددة التى كان يدعو إليها، وإنها خطوة مهمة وجريئة فى طريق التخلص من التطرف والتشدد. فالاعتذارُ رجوعٌ إلى الحق وشجاعة أدبية ودينية مُثمّنة.
وهنا ندعو المرصد المصرى لأن يوجّه ميكروسكوبَه نحو أرض مصر الطيبة، حتى يتتبّع الدُّعاةَ التكفيريين المصريين الذين يرتزقون على تلك الفتاوى المتشددة التى تملأ جنبات مصر منذ أربعة عقود، وبدأت السعودية فى التبرؤ منها الآن.
فذلك الاعتذارُ السعودىُّ الجميل الذى نشكر عليه د. «عائض القرنى»، وولى العهد السعودى، لن يكون له أىُّ معنى إن لم ينعكس على مصر بالخير، مثلما انعكست صحوتُهم على مصر بالويل عقودًا.
وكما يقول أبوفراس الحمدانى: «إذا مِتُّ ظمآنًا/ فلا نزلَ القَطرُ»، أقولُ: «إن لم يُنقذِ اعتذارُ الصحويين مصرَ، فلا كان الاعتذارُ»!.
«الدينُ لله والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».

No comments:

Post a Comment