Translate

Thursday, August 19, 2021

انقطاعات الموت - د. خالد منتصر - جريدة الوطن - 18/8/2021

 «فى اليوم التالى لم يمت أحد»، عندما تكون تلك العبارة هى بداية رواية فلا بد أن نحتشد ونقف على أطراف أصابعنا لنتابع ونرصد كيف تصرفت تلك المدينة مع حلم الخلود وكيف كان الاحتفال، لكن عندما يكون كاتب تلك الرواية هو الأديب البرتغالى الفذ العبقرى جامح الخيال خوزيه ساراماجو، فإننا لا بد أن نتوقع المفاجآت وعدم المألوف والتمرد على العادى والبديهى.

رواية «انقطاعات الموت» عن دولة قرر الموت ألا يزورها أو يطرق بابها، بالطبع هذا هو حلمك المزمن كقارئ للرواية، لكن ساراماجو لا يكتب رواياته لإرضاء زبائن الأفكار الجاهزة، يصدمك ساراماجو بأن ذلك البلد الذى لا يموت فيه أحد عاش كارثة، تكدس كبار السن فى دور المسنين، يشيخون ويتهالكون ولا يموتون، شركات التأمين أوشكت على الإفلاس، الحانوتية فى بطالة، رجال الدين يعترضون لأن عدم الموت هو عدم بعث، فكيف سيدخل الرعية الملكوت؟، تجارتهم بارت لأنه لم يعد هناك تخويف بالموت.

يستعرض ساراماجو هذا الاضطراب المتصاعد الذى أحدثه توقف الموت، لدرجة أن أبناء تلك الدولة ذات الشعب الخالد، اضطر بعضهم للهرب عبر الحدود لكى يتخلص من حياته الرتيبة التى لا معنى لها، والتى هو فيها مجرد جثة تتنفس تخبو رويداً رويداً وتتحول إلى رماد حى، وتكونت مافيا فساد ولوبى سمسرة يساعد على تهريب أصحاب الموت المؤجل ودفنهم، تنعطف الرواية وتلتف مع صدمة أخرى حين يقرر الموت أن يعود بعد سبعة أشهر، تضخمت فيها قائمة الانتظار بشكل سرطانى، وكان لا بد لتلك الجموع المؤجلة أن تموت فى نفس اللحظة، كارثة كان يجب عليهم أن يحتملوها، وتسهيلاً على السلطات وضع كل منتظر للموت علماً على بيته حتى يسهل على الطبيب أن يمر عليه ويعلن وفاته، كانت عودة الموت هذه المرة غير تقليدية، فقد قرر الموت أن يعرف كل إنسان ميعاد موته من خلال رسالة بنفسجية عندما يفتحها الشخص تخبره بأن يجهز نفسه خلال أسبوع للرحيل، الرسالة لا يمكن تلافيها أو «الزوغان» منها حتى ولو ألقيت بها فى الشارع سيجدها عابر سبيل ويعطيها لك!، تفاوتت وتناقضت ردود الفعل بين سكان هذا الوطن العجيب ما بين العربدة وما بين الزهد.

الموت ذو الجمجمة العارية والمحجرين الفارغين يسكن مع منجله حاصد الأرواح، يرسل رسائله البنفسجية المسممة الروتينية إلى ضحايا المنية، لكن صندوق مفاجآت ساراماجو العجيب لا يفرغ من هداياه السحرية المباغتة، هناك رسالة أرسلها الموت وعادت إليه بعد أيام، ركبه العناد وبررها بخطأ عارض، أرسلها مرة ثانية ومرة ثالثة ولكنها فى كل مرة كانت تعود فى الحال، تلبسه الفضول، يريد أن يعرف من هو هذا الشخص الذى يعاند ويراوغ الموت، يبحث عنه فيجده عازف تشيللو فى الأوركسترا الوطنى، تزوره المنية فى البيت وتبدأ علاقة غامضة فيها الشد والجذب والحب والصد والتربص والتوجس، كيف انتهت تلك العلاقة ما بين الموت الذى ارتدى لحم امرأة فاتنة وعازف التشيللو عاشق باخ، هذا ما ستعرفه عندما تقرأ تلك الرواية الفاتنة التى تتحدث عن أكثر الأشياء رعباً فى حياتنا، لكن الفن عندما يتحدث عنه ويلمسه بعصاه السحرية يتحول إلى رحلة سحر وأحجية متعة.


No comments:

Post a Comment