Translate

Friday, December 28, 2018

خالد منتصر - غادروا عتبة النقاش إلى ساحة النقد لتنعموا بالحداثة - جريدة الوطن - 27/12/2018

«تدمير المعرفة الخاطئة وتفكيكها خطوة مهمة قبل تأسيس المعرفة الصحيحة».. تلك مقولة الفيلسوف الفرنسى جوستون باشلار، التى نبهنا إليها د.محمد أركون فى كتابه «قضايا فى نقد العقل الدينى»، إذن لن تتأسس معرفة ومفهوم الحداثة إلا على أنقاض المعارف والمفاهيم وطرق الفكر القديمة، لا تستخدم نفس الأعمدة القديمة لتشييد مبنى الحداثة عليها، ذلك لأن تصميم العمارة الحداثية مختلف، لن تستطيع تحمله الأعمدة القديمة وأيضاً لن تناسب شكله الجديد، إنها تناسب تربة الماضى ومناخ الماضى وسكان الماضى، والخلاصة هى أن أى محاولة ترقيع أو تلفيق أو ترميم هى محاولة محكوم عليها بالفشل، ولو حاولت بناء الحداثة بخلطة القديم حتماً سينهار البناء.
نحن فى الدول والمجتمعات الإسلامية نلهو بمكتشفات ومخترعات الحداثة ولا ننظر أو نعطى أنفسنا فرصة لنتدبر ما وراء تلك المكتشفات والمخترعات، وكما قال عبدالكريم سروش فى كتابه «التراث والعلمانية»: «إننا ننظر إلى ثمار الحداثة لا إلى جذورها».
وإذا عرَّفنا العالم الحديث بمجرد أنه المكان الذى يحتوى على الكهرباء والإنترنت والكمبيوتر...الخ، فنحن نستخدم تعريفات ساذجة، ونتهرب من طرح السؤال الأهم: «لماذا لم يتوصل هذا العقل القديم إلى تلك المنجزات الجديدة؟».
ليس مجرد تراكم المعارف، لكن هناك ثورة وفورة وحداً فاصلاً واضحاً ما بين عصرين جعل إيقاع ظهور وتطور تلك المنجزات والاكتشافات أسرع، بحيث بتنا نلهث فى تعقبها وإحصائها، كنا قديماً نظل مئات السنوات محتفظين بالاختراع أو الاكتشاف ثابتاً راسخاً حتى يصبح جزءاً عضوياً فينا كنواة الخلية، المحراث ظل ملتصقاً بنا آلاف السنين حتى ظننا فيه الخلود، وتطوره إلى ما بعده من أجهزة أخذ وقتاً طويلاً يحسب بالقرون، والأهم هو اقتناعنا وقبولنا ودرجة تخيلنا لهذا التطور والتغيير، إنه قبول بالأمر الواقع واقتناع بأن تغييره صعب، لماذا التغيير إذا كنا مستريحين لهذا المنجز؟، هذا هو المهم، التغيير الأهم ليس فى اختصار وقت التغيير والتطوير فقط، ولكن فى جسارة طرح السؤال وشجاعة التمنى المحلق والحلم المتجاوز.
مثل آخر مختلف عن المحراث، وأحدث نوعاً ما، وهو الآلة الكاتبة، لكن فكر فى كيف ظلت تلك الآلة مئات السنين نغير فقط فيها الشكل والرتوش، احتاجت أجيالاً، لكن قارئى العزيز ابحث فى أدراجك عن مئات «الفلوبى ديسك» هذا المربع العجيب، وانظر إلى تاريخه، ثم انظر إلى «السى دى» والـ«دى فى دى» والفلاشة، كل هذا لم يستغرق عشر سنوات من حياتك، كذلك من الكمبيوتر الذى يحتل حجرة كاملة ثم الكمبيوتر الذى يحتل المكتب ثم إلى اللاب توب، ثم إلى التاب، ثم إلى الـ«سمارت فون»... الخ، بالكاد عشرين أو ثلاثين عاماً، لكنك متقبل وغير منزعج بل لديك وسواس التغيير والتطوير، لأنك صرت تملك تلك الجسارة الحداثية، لكنها فى مجتمعاتنا الإسلامية جسارة الاستهلاك لا جسارة السؤال والعقل والاكتشاف.
لماذا لم يحدث للقدماء ذلك؟، ماهو الضيف الذى حل على عالمنا بعصاه السحرية وهدايا بابا نويله التى لا تنفد فجعله عالماً حديثاً حداثياً؟
إنه العلم التجريبى، والمهم قبل العلم فكرته الجديدة أو منهجه أو فلسفته، العلم قديماً كان غائياً، التفسير كان على أساس الغاية، عندما أردنا تفسير سقوط الحجر من أعلى إلى أسفل، قلنا إن كل شىء يبتعد عن أصله يريد العودة إليه، تفسير أدبى بلاغى نفرض فيه قناعاتنا ومشاعرنا وتخميناتنا وكأننا نصف حنين عاشق إلى معشوقته أو جنين إلى رحم أمه، الآن الحجر يعود إلى الأرض ليس لأنها أمه وأصله ولكن بسبب قانون الجاذبية، إذن هى حركة جبرية قسرية لها قوانين، ليست قصيدة شعر، إنها معادلات معمل، مهما خاصمت هذه التفاسير والقوانين العلمية وجدانك أو تعارضت مع بديهياتك وألفتك مع الأشياء فإنها ستظل حقائق علمية، أنت طبقاً لمقاييس حواسك وحدود خيالك وحرقة رغباتك تمشى على الأرض متأكداً من أنها مسطحة، يأتى العلم ليطيح بتلك القناعات والبديهيات غير محترم لأحاسيسك ومهملاً لحواسك، ليصدمك بأنها ليست مسطحة وأنها تدور، إذن فالعلم يقول لك «آسف طظ فى حواسك، وسأمضى فى طريقى غير عابئ بصرخات انهزام قناعاتك، ذلك لسبب مهم هو تحقيق سعادتك».
سيأتينى الرد الجاهز، نحن نعرف كل ذلك وندركه جيداً، نحن غارقون فى نقاشات التجديد، أليست تلك رغبة فى تحقيق الحداثة؟
هنا لا بد من وقفة للحديث عن فض اشتباك وتصحيح خلط ما بين النقاش والنقد، فالنقد هو نقد ما تحت السطح والتربة وليس ما هو فوق الأرض وعلى الهامش، نقد المبنى والجذر لا الجدار والفرع، وكما يوضح عبدالكريم سروش فى «التراث والعلمانية»، ص 46: «أهم مرتكزات العالم الحديث هو امتداد النقد إلى حيث الجذور وتعرية الأصول وكشف القبليات ومواجهتها وتسليط الأضواء عليها، وإلا فإذا تحاور شخصان تجمعهما آلاف القَبْليات والمفروضات المشتركة، ولا يفكر واحد منهما فى توجيه النقد إليها وغربلتها، فإن هذا الحوار لا يسمى حواراً نقدياً»، إذا حاورت على سبيل المثال شخصاً من نفس الأرضية المشتركة وهى أن مفهوم العنعنة لا شك فيه ثم نتجادل فقط فى صحة هذا الحديث أو خطأ ذلك الحديث، فنحن لسنا فى حالة نقد، لأن مفهوم العنعنة نفسه من الممكن أن يتخلخل من خلال طرح أسئلة أكثر جذرية مثل قوة الذاكرة الحافظة الفوتوغرافية التى تستطيع نقل الحديث بالحرف وعدم وجود هامش خطأ، هل مثل تلك الذاكرة موجودة وحقيقية ومستمرة على مدار تلك السنوات؟، وهل هناك إمكانية أصلاً فى مجتمع شفاهى لتناقل مثل تلك الأخبار بتلك الدقة؟، وأيضاً مسألة الصحابة العدول الذين لا يمكن أن يتطرق إلى كلامهم ذرة شائبة، هل هذا طبيعى وإنسانى فى ظل قراءتنا التاريخية لحروبهم وصراعاتهم بل وتلاسنهم الذى وصل إلى حد السب والتحريض؟!
أشياء وقضايا كثيرة تندرج تحت باب النقد للجذر والمبنى تهرب وتفر وتضيع منا ونتخيل أننا نمارس النقد بينما نحن نخدش السطح فقط متخيلين أننا سنصل إلى أعماق المناجم، والعلم يجعل لنقدنا هذا معنى، ويضعه فى إطار يحركنا للأمام، لأننا وقتها سننشغل بسؤال «HOW» كيف، وليس «WHY» لماذا، وهذه عبقرية نيوتن وجاليليو وهداياهم الكونية المثيرة التى منحوها إلى الإنسانية، لم ينشغل العالم بسؤال لماذا يسقط الحجر وهل هو يحن للأرض أم هو فى حالة كراهية، ولكنه انشغل بـ«كيف» حتى يستطيع صياغة قوانين، لم يتملكه وسواس أن الكتاب المقدس قال «إن المسكونة لا تتزعزع»، فذهب ليلتمس الأعذار ويتسول المبررات ويلوى عنق النصوص ليلفق إعجازاً هنا أو معجزة هناك ليزغزغ ويدغدغ بها الدهماء، لكن كانت أمامه مظاهر وظواهر وحقائق من خلال تليسكوب، قادته وأدت به إلى اكتشاف حركة دوران الأرض وأنها ليست الثابت الذى يدور حوله الكون.
إن ظللنا نخشى النقد ونحبس ونقتل النقاد ستتحول بلادنا إلى أنقاض.

No comments:

Post a Comment