Translate

Friday, December 21, 2018

خالد منتصر - هل الدين يخضع لقوانين الديناميكا أم الإستاتيكا؟ - جريدة الوطن - 21/12/2018

هل عندما صاغ العبقرى الإنجليزى إسحق نيوتن قوانينه الثلاثة لتفسير الحركة والسكون كان يقصد بها هذا المجال الضيق لحركة وسكون الأجسام، أم أنه مثل كل العباقرة الذين كانت صورة الحياة بعد مجيئهم غيرها قبل وجودهم؟
بالطبع لا، فاكتشافات أمثال نيوتن وداروين وأينشتين تتحول إلى فلسفات كونية لتفسير العالم وفهمه ومن ثم تغييره، أصبحنا نتساءل دوماً عن الظواهر الحياتية والمعارف العلمية والظواهر الاجتماعية، هل هى ديناميكية أم إستاتيكية؟، ومن ضمن تلك المعارف كان الدين على رأس من طبقت عليهم تلك القوانين، هل الدين كالجسم الساكن تلاشت من حوله كل محصلات القوى فصارت سرعته صفراً؟، أم أنه متحرك له سرعة وعجلة وقوة دفع وتواجهه ردود فعل على أفعاله وأفكاره مساوية لها فى المقدار وأحياناً مع الفكرة وأحياناً ضدها فى الاتجاه؟.
نحن الآن نريد الدين إستاتيكياً وهذه هى المأساة والكارثة، نتعامل معه بقوانين الإستاتيكا التى تعتبره كتاباً ساكناً على طاولة لا يلمسه أحد حتى لنفض التراب عنه، صورة معلقة على حائط، لا تتحرك وبالطبع لا يتحرك الحائط إلا من خلال زلزال بدرجة ألف ريختر، ومنطقة الفكر العربية الإسلامية للأسف خارج حزام الزلازل الفكرية!، نرفض أى مفهوم يتعامل بديناميكية مع الدين، الديناميكية حركة تحترم قوى الزمان والمكان والتطور.
ولا نستطيع الادعاء بأنه لم يوجد مفكر إسلامى على مر التاريخ حاول نفخ روح الديناميكية فى الدين، لم يوجد مفكر واحد بل وجد مفكرون كثيرون، لكنهم صودروا بالعزل أو بالنفى أو بالإقصاء أو بالذبح والاغتيال، حتى صاروا نسياً منسياً، وانتصرت مدرسة الإستاتيكا على الديناميكا، والنقل على العقل، الديناميكا هى روح القوانين، وعندما يريد تجار الإسلام السياسى تحويل الدين إلى منظومة قوانين لا يستلهمون تلك الروح الديناميكية ويريدون إجهاضها لصالح الثابت المعلوم من الدين بالضرورة والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولو كان الدين بالعقل لكان مسح الخف من أسفل والعقل كالحمار يوصلك إلى باب دار الدين وعليك أن تربطه بالخارج... إلى آخر هذا الكلام الذى يروج لقتل الحس الديناميكى النقدى المتغير.
تلك الروح التى لخصها المشرع الأثينى سولون لقومه: «ليست قوانينى تلك هى خير قوانين بوسعى أن أسنها، ولكنها خير قوانين بوسعكم أن تقبلوها»، هكذا كان حال المجتمع الجاهلى الذى كان لا يستطيع وقتها قبول عدم تعدد الزوجات أو إلغاء العبيد... الخ، إنها روح التطور والتغيير التى جعلت فى مدة 23 سنة هى عمر الجماعة الإسلامية الأولى مبدأ نسخ آيات، هذا النسخ الذى هو مرادف لمبدأ تغيير فكر وتطور رؤية، بديهية مقبولة لم نستطع نحن فهم روحها وترجمتها لسؤال واضح ومشروع وهو إذا كان هذا التطور قد حدث فى 23 سنة فما بالك بأربعة عشر قرناً؟!، هل أغلق النبى الباب خلفه بعد تلك الـ23 سنة ووضع نقطة آخر السطر؟!، الفكر الديناميكى يستلزم وضع الأمر فى إطاره الزمانى والمكانى، وتفسير التفاصيل من خلال هذا الإطار الأشمل، على سبيل المثال إطارنا الأشمل فى محاربة السرقة هو تحقيق العدل، أما تفاصيل العقاب وقتها فقد كان قطع اليد، ألقينا بالإطار الشامل فى سبيل تسكين التفاصيل وتقديس إستاتيكيتها بحيث تتلاشى كل القوى المؤثرة وتصبح المحصلة صفر تغيير وزيرو تطوير.
كتب المفكر المجتهد حسين أمين فى كتابه «دليل المسلم الحزين»، ص 215، عن قطع يد السارق تلك المعانى وهى أن الملكية كانت ملكية منقولة لا عقارية، يعنى سرقة الناقة تساوى فى معادلة بسيطة سرقة الماء والغذاء والخيمة والسلاح، يعنى قتل، والسرقة من القبائل الأخرى كانت تعد فخراً، وكانوا يحتقرون الزراعة والمزارع، لذلك كان الحل الذى يريد لم الشمل وبتر تلك الجريمة البشعة التى تساوى الاغتيال للفرد فى القبيلة، هو قطع يد السارق.. هل تلك المفاهيم التى ذكرها حسين أمين من فخر سرقة الغزو واحتقار الزراعة واختصار حياة ومعيشة الفرد فى ناقته، هل تلك المفاهيم لم تتغير الآن؟، عندما تتطور الأوضاع ويتغير شكل الملكية، وتصير سرقة مائة ناقة لا تهم، ولم يعد ذلك الشكل من السرقة هو الجريمة الشائعة، أليس من حقنا بل واجبنا أن نغير أحكامنا طبقاً للإطار الشامل والمقصد الأسمى وهو تحقيق العدل؟!.
نحن للأسف نفهم أسباب النزول التى هى نفحة روح الديناميكية فى الدين على أنها مناسبات نزول، وهو ما التقطه بذكاء المستشار سعيد العشماوى حين فرق بين الأسباب التى هى ظروف واقعية تفاعلت مع النص، والمناسبات التى تعنى أن النص كان موجوداً سلفاً يتحين المناسبة، إذن الفهم الديناميكى الصحيح هو أن الظرف الواقعى.
أولاً، الصراع الحياتى أولاً ثم يأتى النص متفاعلاً مع هذا الظرف وذلك الصراع، لكننا أردناه فهماً إستاتيكياً وكأن عبارات النص تقف جاهزة فى طابور انتظار، وما إن يحدث الحدث حتى تخرج من الطابور لتتعشق كالأرابيسك فى الحدث، حتى مفهوم العقوبة على الجريمة الذى نظنه إستاتيكياً هو فى الحقيقة مفهوم ديناميكى يتطور بتطور المجتمع، فالعقوبات قديماً كانت تقوم على التشفى والانتقام والمماثلة، قطع وجلد ورجم وقطع من خلاف وصلب.. الخ.
المفهوم الإنسانى الحديث يقول فى المادة الخامسة لإعلان حقوق الإنسان «لا يجوز تعريض أى شخص للتعذيب أو للمعاملة والعقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة»، مفهوم القصاص صار للدولة وليس لولى الدم، والدية المحددة صارت لا تناسب العصر، ومائة من الإبل لا تكفى الآن تعويضاً لبتر إصبع قدم اللاعب محمد صلاح الصغير، وعندما تقدمنا فى العلم صار تعويض بتر إصبع الإبهام أو تكييفه القانونى أفدح بكثير من الأصابع الأخرى لأننا عرفنا قيمة هذا الإصبع تطورياً، لا يمكن أن نقبل الآن حبس أهل المكان الذى وجد فيه قتيل فى مكان غير معروف قاتله تحت اسم القسامة!.
كل تلك الأمثلة وغيرها إذا لم نفهم آليتها وما وراءها من مقاصد ونحترم كم وكيف التغير والتطور فيها لن يحدث أى تجديد أو إصلاح، فأولاً: الأحكام وقتية وليست سرمدية أو أبدية وإلا لظل كما ذكر خليل عبدالكريم حكم الأمر النبوى حتى الآن وهو لا إسلام لمن لا هجرة له فقد تغير حكم الهجرة ولم يعد فريضة.
ثانياً: النصوص الدينية تاريخية بمعنى أن النص له جذر تاريخى مثل حد السرقة الذى كان موجوداً وسابقاً على التشريع، والنص أيضاً له مناسبة تاريخية مثل ما قيل فى الحجاب وعدم قراءة كتب اليهود.. الخ.
ثالثاً: هناك أسباب نزول كما ذكرنا ومن الممكن أن تتغير الأحكام مع تغير الأسباب.
رابعاً: استخلاص الغاية أو المقصد من الحكم كما ذكرنا هو المهم لأن الحكم نفسه ليس هو الغاية، فمثلاً تربص الثلاثة قروء للمطلقات غايته هى براءة الرحم فهل لو وصلنا إلى تلك الغاية بوسيلة أحدث نكون قد حققنا الهدف أم أن المهم والأولوية هى لحرفية الثلاثة قروء؟.
خامساً: تجاوز أدلة الثبوت الواردة بالنصوص إلى ما هو أحدث منها، وقد ضرب خليل عبدالكريم بشروط إثبات الزنا واستحالتها الآن مثلاً واضحاً لإمكانية تجاوز تلك الأدلة القديمة الملائمة لطبيعة نظام قبلى مفتوح ومكشوف إلى أدلة حديثة أخرى تناسب مجتمع المدينة المعقد.
سادساً: القيام بحفريات لغوية للتعرف على المدلول الصحيح للألفاظ والنصوص، وهو ما حاوله «خليل» وغيره من المفكرين حتى غير المسلمين، فاللغة مرتبطة واللفظ متعلق بمكان وزمان ولادته، وانتزاعه من سياقه هو تدليس وتزييف وعى وابتزاز فكرى ونصب دينى، فلا بد من رده إلى معناه وقتها، وهناك ألفاظ يستخدمها الدعاة ورجال الدين منتزعة السياق للحصول على مكاسب سياسية، مثل ألفاظ الحجاب والإمام والولاية والخلافة والإمارة والشورى...الخ.
إذا لم نفهم تلك القواعد وآليات التعامل وتمسكنا بإستاتيكية الدين والتعامل معه على أنه وديعة مغلق عليها فى خزانة حديدية وما علينا إلا أن نفتح الخزانة وننظر أو نشم فقط ثم نعيد إغلاقها من جديد، إذا تمسكنا بتلك المفاهيم المتحفية سننقرض جسداً وفكراً، حتى حفرياتنا الجيولوجية ستندثر، الدين لا يحتاج إلى وزارة آثار لكنه يحتاج إلى وزارة إنتاج وقوى عاملة، الدين تقتله إطارات وعلب المتحف الزجاجية، وتنعشه وتنميه أنفاس أكسجين الهواء الطلق وضوضاء البشر.

No comments:

Post a Comment