Translate

Monday, June 13, 2016

رصاصةُ فرج فودة؟ بقلم فاطمة ناعوت ١٣/ ٦/ ٢٠١٦ - المصرى اليوم

فى مثل هذه الأيام الكابية اخترقت رصاصةٌ عمياءُ قلبَ رجل عظيم كان يحلم بمصر أجملَ وأعدلَ وأكمل وأرقى، فدفع عمرَه ثمنًا لهذا الحُلم العصىّ. فهل تذكّره أحدٌ بعد مرور أربعة وعشرين عامًا على طيرانه إلى عالم العدل والكمال؟!، هل أطلقنا اسمَه على شارع أو ميدان أو مدرسة، أو مدرج فى جامعة؟.
عاش عمره يحارب الإرهاب الفكرى ويقشر «فقه النكد» عن ثوب الإسلام. كان من أوائل من استشرفوا خطر الإخوان الداهم وتيار الإسلام السياسى فى كتابه «النذير»، قائلا: «تيار الإسلام السياسى نجح فى تكوين دولة موازية، تستخدم نفس أجهزة ومؤسسات الدولة الحاكمة». نبّه من شرور جماعة الإخوان المسلمين، التى كانت الرافد الأساسى للإرهاب منذ ثلاثينيات القرن الماضى وحتى أوائل السبعينيات، أفرخت تيارات وليدة تمارس أشكالا متعددة من العنف. وانتقد الطريقة الرخوة التى تواجه بها الدولةُ المصرية التيارات الدينية حتى استفحلت الآن وخرّبت وما تزال تخرّب خاصرةَ مصر.
هذا أبى فرج فودة. أستاذى ومُعلّمى الذى لم أره لكنه علّمنى أن أفكّر وأن أنتقد ما أراه ناتئًا عن مساحة الجمال والتحضر. فلا تحزن يا أبى لزمن يُسجن فيه ويُقتل ويُنفى من يبحث عن الجمال ويحارب القبحَ والعنفَ والوحشية التى تُبكى وجه السماء. فقد حاربوا قبلك الإمام محمد عبده، وطه حسين، وهناك من قُطّعت أطرافُه وحُرق وصُلب وضُرب على رأسه بمؤلفاته وكتبه حتى فقد البصر. لكنكم تُخلّدون وينقطعُ ذكرُ قاتليكم.
قبل سنوات كنتُ أتجوّل فى مدينة قرطبة الإسبانية، فأجد عن يمينى مدرسة Averoues، ومن أمامى جامعة Averroues ومن ورائى شارع Averroues الذى ينتهى بميدان Averroues. أما Averroues فلم يكن ممثلاً أمريكيًّا شهيرًا، ولا نجمًا هدّافًا فى فريق ريال مدريد. ولم يكن شاعرًا إنجليزيًّا من القرن السابع عشر، ولا رسامًا فرنسيًّا من عصر الرينيسانس تحتلُّ لوحاتُه قاعاتِ متحف اللوفر وتُباع مسروقاتُها بملايين الدولارات. ولا كان روائيًّا روسيًّا ولا موسيقارًا ألمانيًّا أبدع من السيمفونيات ما يستحق تخليده على هذا النحو اللافت فى إسبانيا وفى مجمل دول أوروبا. إنما كان شيخًا مسلمًا مثقفًا من القرن الثانى عشر اسمه: «أبوالوليد محمد بن أحمد بن رشد»، ولِد فى قرطبة الأندلسية بالقرون الوسطى، ومات حزينًا منفيًّا فى مراكش المغربية، بعدما طُرد من بلاده كعادة ثقافتنا العربية التى تحارب الأذكياء الواعين وتحتفى بالخاملين المظلمين. كان طبيبًا وفيزيائيًّا وفلكيًّا وفيلسوفًا وقاضيًّا. وكان عظيمًا. لماذا احتفى به الغربُ؟، لأنه كان كلَّ ما سبق، ولأنه ساهم فى نهضة أوروبا العظمى وصناعة إشراقتها حين شرح للأوروبيين فلسفةَ أرسطو التى طمرتها السنوات والقرون وكاد يطويها النسيان. ولماذا حاربه المسلمون ونفوه وحرقوا تراثه وأغفلوا سيرته حتى نسيه التاريخُ الإسلامى والعربى عمدًا؟، لأنه أيضًا كان كل ما سبق. فالعربُ يكرهون أن يخرج من بين جِلدتهم الاستثنائيون الموهوبون العائشون خارج الصندوق الحديدى المظلم. ذبحوا تاريخَه واغتالوا إرثه لأنه ارتكب الجريمة الكبرى التى لا تسامح فيها العرب ولا يغفرها المشعوذون. جريمته الكبرى أنه كان «يفكّر» و«يعقل» فى مجتمع يكره التفكير ويمقت العقل. مقتوه لأنه قال: «الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ. الدينُ حقٌّ والفكرُ والفلسفةُ حقٌّ. والحقّان لا يتضادان»، فرماه الجهلاءُ بالكفر والزندقة وأحرقوا كتبَه النيّرة، وحرق هو بقية كتبه يأسًا، حين أيقن أن مَن حوله لا يستحقونها.
سَلْ أىّ واحد من التكفيريين الذين يُشهرون سيوفَهم فى وجوهنا ويرفعون ضدنا قضايا الحسبة ويسجنوننا ويصادرون ما نكتب: «هل تعرفون ابنَ رشد؟»، الإجابة بالنفى. لكنهم يعرفون أسماءَ جهلاء طبّقت شهرتُهم الآفاقَ يؤكدون أن الشمس تدور حول الأرض، وأن الأرض مستوية، فوقها السماء مستوية، وأن القمرَ نجمٌ منير!.
ومرّت السنواتُ والقرون ولم نزل نقتل رموزنا الفكرية ممن كسروا الصندوق الحديدى وغرسوا نبتَتهم فى رحاب أرض الله تحت شمسه ونوره، بعيدًا عن جحور الخفافيش وكهوف الظلام. نحن عصيون على التغيّر والنضوج. مازلنا نُشهر سيوفنا فى وجه كل من شحذ عقله وأعمل فكرَه وانسلخ عن القطيع.
دعهم ينسوك يا أبى، ما شاء لهم النسيانُ، فإنهم يدفعون الثمنَ الفادح لنسيانك، وأنت الغنىّ عنهم، وعن العالمين.

No comments:

Post a Comment