Translate

Friday, June 17, 2016

ما بين ازدراء الأديان وازدراء الدستور!!! بقلم د. محمد نور فرحات ١٧/ ٦/ ٢٠١٦ - المصرى اليوم

منذ أيام تقدم أحد نوابنا الموقرين إلى مجلس النواب باقتراح قانون بإلغاء المادة ٩٨ من قانون العقوبات، التى اصطلح على تسميتها «مادة ازدراء الأديان». اقتراح التعديل جاء استجابة لمطالب كثير من المثقفين ومنظمات المجتمع المدنى والمؤسسات الثقافية بعد أن تعدد صدور الأحكام فى قضايا الرأى بحبس بعض من مارسوا حرية التعبير عن رأيهم بتهمة ازدراء الأديان. أشهر هؤلاء الباحث إسلام البحيرى، والكاتب أحمد ناجى، ومجموعة من أطفال المنيا الذين مثلوا عملا دراميا ينتقدون فيه تنظيم داعش، وغيرهم.
أثيرت القضية فى كتابات الرأى فى الصحف وفى برامج التليفزيون وأصبحت هاجسا يؤرق الجماعة الثقافية. الدستور الحالى احتوى على المادتين ٦٨ و٧١. تكفل الأولى حرية الإبداع الفكرى والأدبى وتحظر فرض عقوبات سالبة للحرية على ممارستها. المادة ٧١ تفرض حماية قانونية على التعبير عن الرأى عن طريق الصحافة والإعلام، وتحظر أيضا العقوبات السالبة للحرية إلا فى ممارسات حددها الدستور لا يمكن التسامح بشأنها، كالمساس بالأعراض أو التحريض على العنف والتمييز بين المواطنين. حظر العقوبات السالبة للحرية فى ممارسة حرية التعبير يعنى ضمناً أن الدستور يسمح للمشرع بفرض العقوبات المالية إذا حدث تجاوز فى ممارسة الحرية بالاعتداء على حقوق المجتمع أو الأفراد.
سبق أن أثيرت هذه المسألة فى اجتماع السيد رئيس الجمهورية بمجموعة من أصحاب الرأى والفكر، فى مارس الماضى. نشرت الصحف الصادرة بعد اللقاء أن الرئيس طالب المجتمعين معه بإجراء ورشات عمل تضم العديد من المثقفين وتعمل على التواصل مع الشارع بهدف بلورة الأفكار الواردة باللقاء.
لجنة القانون بالمجلس الأعلى للثقافة، التى أشرف برئاستها، عقدت ندوة موسعة تحت رعاية وبحضور وزير الثقافة، تحدث فيها جمع من كبار المثقفين والقانونيين وانتهت إلى ضرورة إلغاء النصوص التى تعاقب بعقوبات سالبة للحرية فى جرائم الرأى والتعبير، مع ضبط صياغتها وتحديد عناصر ركنها المادى تحديدا دقيقا، بما لا يسمح فى التطبيق بالتوسع فى تفسير هذه النصوص، احتراما للحرية من ناحية والتزاما بالنصوص المستحدثة فى الدستور من ناحية أخرى.
قانون العقوبات عندنا به كثير من النصوص التى تعاقب بعقوبات سالبة للحرية على ممارسة صور من حرية التعبير اعتبرها المشرع جريمة. وهى نصوص تراكمت فى البنيان القانونى المصرى على مدار عشرات السنين ولا وجود لنظير لها فى قوانين عقوبات الدول التى تتبنى الحد الأدنى من القيم الديمقراطية.
نتوقف الآن عند المادة ٩٨ من قانون العقوبات، التى كان مجلس النواب فى معرض مناقشة مقترح إلغائها، والتى أثارت ثائرة الجماعة الثقافية.
تنص هذه المادة على ما يلى: «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات، أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه، كل من استغل الدين فى الترويج بالقول أو الكتابة أو بأى وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية».
هذه الفقرة أضيفت إلى قانون العقوبات بالقانون رقم ٢٩ لسنة ١٩٨٢، ولم تكن موجودة به قبل ذلك. العبارات التى صيغت بها المادة تكشف بجلاء عن قصد المشرع منها. المادة تعاقب على استغلال الدين لإثارة الفتنة بين المواطنين وازدراء وتحقير دين آخر. وُضعت هذه المادة لمواجهة ما شهدته مصر فى الثمانينيات من اعتلاء بعض شيوخ التطرف منابر المساجد واستغلال الخطاب الدينى الإسلامى لازدراء عقيدة غير المسلمين.
تطبيق المادة بعد ما يزيد على العشرين عاما من وضعها اتجه إلى منحى آخر لم يرده واضعوها، وهو حبس من يدلون باجتهاداتهم داخل دينهم، وهذا يجعل النص العقابى قيداً على حرية الاجتهاد حتى ولو انطوى الاجتهاد على شطط وتجاوز أو خروج على المألوف عند أهل الفتوى والرأى فى أمور الدين.
عندما كتب طه حسين كتابه الشهير «فى الشعر الجاهلى»، واعتبر بعض رجال الأزهر أن به تجاوزاً فى حق الدين وأبلغوا النيابة العامة، انتهت مذكرة النيابة العامة إلى حفظ التحقيق استنادا إلى أن البحث العلمى والاجتهاد بالرأى سبب من أسباب الإباحة التى تمنع من تحريك الدعوى الجنائية فى قضايا الرأى. كان هذا فى مطلع القرن الماضى، أما الآن فالأمر مختلف.
تطبيق نص مادة ازدراء الأديان فى غير ما شرعت له هو الذى أثار ثائرة الجماعة الثقافية ودفع إلى المطالبة فى مجلس النواب بإلغائها.
ماذا كان رد فعل الحكومة والمجلس من المقترح؟ رد الفعل هذا يعطى مؤشرا واضح الدلالة على تدهور فهمنا للحريات على مدار قرن من الزمان، لأسباب لن يتسع للإفاضة فيها الحيز المحدود لهذا المقال.
كان رد فعل الحكومة (ممثلة فى إدارة التشريع بوزارة العدل) أن رفضت مقترح إلغاء المادة. ونقلت المصادر الصحفية عن السيد المستشار المتحدث الرسمى باسم الوزارة أنها تعترض على إلغاء المادة ٩٨ من قانون العقوبات، واصفا مقترح إلغائها بعدم المعقولية. ثم أردف بالتعبير عن ترحيبه بتعديلها بقصر الحق فى تحريك الدعوى الجنائية بشأنها على النيابة العامة دون غيرها.
موقف الحكومة هذا لنا عليه بعض الملاحظات: أولاها أنه تجاهل النصوص المستحدثة فى دستور ٢٠١٤، التى تحظر العقوبات السالبة للحرية فى ممارسات الفكر والإبداع والتعبير عن الرأى، وهى نصوص واجبة التطبيق المباشر، خاصة أنها تتعلق بالحقوق والحريات العامة. وثانيتها أن التحريض على التمييز ضد طوائف الناس بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين معاقب عليه فعلا بمقتضى المادة ١٧٦ عقوبات. ولكن تحكمنا قاعدة تشريعية راسخة لدى أجهزة صناعة التشريع فى مصر، وهى الأخذ بالمنحى الأكثر تشددا كلما تعلق الأمر بالتنظيم التشريعى للحقوق والحريات العامة. ثالثتها: أن هذه المادة المطلوب إلغاؤها وغيرها من عشرات المواد ذات الصياغة غير المنضبطة فى ركنها المادى تخالف الضوابط التى وضعتها المحكمة الدستورية العليا فى العديد من أحكامها، وانتهت فيها إلى ضرورة أن يكون الركن المادى فى صياغة نصوص التجريم منضبط الصياغة، بحيث لا يسمح بالتوسع فى التفسير على حساب الحقوق والحريات العامة، وأخصها حرية الرأى والتعبير.
وأستشهد هنا بحكم واحد من الأحكام المتعددة التى أصدرتها المحكمة الدستورية العليا فى هذا الصدد، وهو حكمها فى القضية رقم ١٤ لسنة ٢١ قضائية، الذى انتهى إلى عدم دستورية نص جنائى. إذ أوردت المحكمة فى أسباب حكمها ما يلى: «وحيث إنه من القواعد المبدئية التى يتطلبها الدستور فى القوانين الجزائية أن تكون درجة اليقين التى تنتظم أحكامها فى أعلى مستوياتها، وأظهر فى هذه القوانين منها فى أى تشريعات أخرى، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثرا، ويتعين بالتالى- ضمانا لهذه الحرية- أن تكون الأفعال التى تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون تلك القوانين جلية واضحة فى بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو إبهامها فى بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التى يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابى مؤداه أن يحال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد منضبطة تعين لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه».
هذا المعيار الذى وضعته المحكمة الدستورية العليا، والذى يتطلب أعلى مستويات الدقة واليقين فى صياغة التشريع الجنائى لتعلق الأمر بالحريات العامة، منتفٍ بطريقة واضحة وفجة فى مادة ازدراء الأديان المقترح إلغاؤها، فضلا عن انتفائه فى عشرات النصوص الأخرى التى تقع فى الكتاب الثانى من قانون العقوبات، مما يدفع إلى القول باطمئنان إن أمر الحريات والوفاء بمتطلبات وروح الدستور يأتيان فى مؤخرة اهتمام مشرعنا الجنائى.
ماذا كان موقف لجنة الشؤون التشريعية والدستورية ولجنة الشؤون الدينية من مقترح إلغاء مادة ازدراء الأديان؟ أحالت اللجنتان البرلمانيتان الأمر برمته إلى الأزهر والكنيسة لإبداء الرأى.
وإذا كنا قد وصفنا موقف الحكومة من هذا الأمر بأنه موقف معيب يتنافى مع متطلبات الشرعية الدستورية، فإن موقف لجنتى البرلمان هو فى نظرنا موقف عجيب يتنافى مع الدستور والتقاليد البرلمانية، ومن شأنه لو تكرر أن يحول المؤسسات الدينية فى مصر، كالأزهر والكنيسة، إلى مؤسسات للوصاية الدينية على العملية التشريعية. وهذا مخالف لأوليات خصائص الدولة المدنية التى نص عليها الدستور. فليس فى الدستور ما يعقد اختصاصا تشريعيا للمؤسسات الدينية فى عملية التشريع اللهم إلا المشورة، إذا تعلق الأمر بتوافق التشريع مع الشرائع الدينية فى أمر يعنيها. إن الذى يشرع هم ممثلو الشعب المنتخبون ديمقراطيا (أو المفترض أنهم كذلك). أما المؤسسات الدينية فلم ينتخبها الشعب لتنوب عنه فى أمر التشريع، ولم يعقد لها الدستور مثل هذا الاختصاص. إننا نحذر من فتح الباب أمام مؤسساتنا الدينية للتدخل فى شؤون التشريع، لأن هذا يعود بنا قرونا إلى الوراء عندما كان لشيخ الإسلام العثمانى فى الأستانة سلطة الاعتراض على أى فرمان يصدره الباب العالى.
فهل هذه هى الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التى نريد؟

No comments:

Post a Comment