Translate

Sunday, November 5, 2017

د. عماد جاد - الدين والدولة - جريدة الوطن - 5/11/2017

الدولة كيان اعتبارى، والدين علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه، وقد جرى الخلط بين الدين والدولة فى مرحلة تاريخية معيّنة حينما كان الحاكم يرغب فى السيطرة التامة على الشعب وإخضاعه تماماً، فكانت نظرية الحكم الإلهى ونظرية الخلافة، ومنهما ظهرت أشكال وألوان من نظم الحكم التى تخلط الدين بالسياسة، وفى مراحل تاريخية معينة احتاج الحاكم إلى رجل الدين كى «يُخدّر» له الشعب ويقضى على فكرة الاحتجاج أو المطالبة بالحقوق، وترافق ذلك مع تطلعات رجال الدين الدنيوية، فشاركوا الحكام فى حصاد التعاون، وفى أحيان كثيرة تولى رجال الدين الحكم مباشرة ومارسوا دور الحكام، وفى تجارب أخرى ارتدى الحكام زى رجال الدين، فبات الأمير أو القيصر أو الملك هو رأس الكنيسة أو الخليفة، ومن ثم مارس الدورين السياسى والدينى، وكانت محصلة كل ذلك خداع الشعب والسيطرة عليه بتحريم الخروج على الحاكم أو الأمير، لأنه مؤيد من الله والخروج عليه بمثابة الخروج على تعاليم الله. وقد قادت الدولة الدينية إلى حروب كارثية بين البشر، سواء بين أتباع الأديان المختلفة من أجل نشر الدين أو استغلال هذه المهمة فى نهب خيرات الشعوب، وفى مراحل تالية اندلعت الصراعات بين أبناء الدين الواحد لاعتبارات طائفية ومذهبية، فكانت الحروب المذهبية فى قلب القارة الأوروبية بين الكاثوليك والبروتستانت، التى استمرت واحدة منها سبعة عقود كاملة انتهت عام 1648 بمعاهدة صلح ويستفاليا التى أرست أساس الدولة القومية وفصلت بين الدين والسياسة فى القارة الأوروبية، وقد ظلت بقايا الصراع موجودة حتى سنوات قليلة مضت فى أيرلندا. وفى العالم الإسلامى انتشرت ظاهرة الخلافة وجمع الخليفة للسلطتين الدنيوية والدينية، ورغم ذلك كان باستمرار فى حاجة إلى رجال الدين كى يبرروا له ما يفعل ويحرموا الخروج عليه، كما أن الحروب المذهبية لم تقل دموية عن تلك التى شهدتها أوروبا.
تدريجياً وصل الإنسان إلى الصيغة النموذجية للحكم المتحضّر وهى الديمقراطية بأشكالها المتعددة، سواء النظام البرلمانى (وفيه الرئيس أو الملك له صلاحيات شرفية، ورئيس الوزراء هو الشخص الأول فى النظام، مثل الهند وبريطانيا وإسرائيل) أو النظام الرئاسى، حيث الرئيس هو الأساس فى مواجهة السلطة التشريعية (مثل الولايات المتحدة)، وهناك النظام المختلط الذى يجمع بين سمات الرئاسى والبرلمانى (مثل النظام الفرنسى)، وتقوم الديمقراطية على فكرة جوهرية هى أن السيادة للشعب، والشعب هو مصدر السلطات، وعلى الفصل التام بين الدين والسياسة، وعلى حرية الرأى والاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية على أسس عامة، فالدولة لا دين لها، وتقف على مسافة واحدة من جميع الأديان الموجودة فى المجتمع، ولا دور دينياً للدولة، والمسئول موظف عام مكلف من الشعب بمهام محددة (ممارسة سلطات رئيس دولة أو حكومة) مقابل أجر، وللشعب من خلال البرلمان محاسبة المسئول التنفيذى عن أدائه، دور المسئول هو ممارسة مهامه المحدّدة دستورياً وأى خروج عن هذه المهام، فهناك من يحاسبه على ذلك، ويمكنه عزله، بل سجنه فى حال ارتكاب ما يستوجب ذلك وفق الدستور.
تلك هى الصيغة النموذجية للحكم التى وصلت إليها البشرية بعد رحلة طويلة جربت فيها أشكالاً مختلفة من الحكم، ومنها الحكم الدينى وخلط الدين بالسلطة السياسية وقادت جميعها إلى حروب وأدت إلى دمار واضطهاد البشر، هذه الصيغة التى وصلت إليها أوروبا بعد مؤتمر صلح ويستفاليا هى التى مهّدت الطريق لأوروبا كى تخرج من بقايا عصور الظلام وتشق طريقها إلى التنوير والتقدم والتطور، ثم انتشرت الصيغة لاحقاً فى بقاع العالم المختلفة إلا قليلاً، ومن بين هذا القليل منطقتنا العربية التى لا تزال تتمسّك بتلابيب التزاوج بين الدين والسياسة، ومن ثم فلا سير حقيقياً باتجاه الديمقراطية، ولا بناء حقيقياً لمبدأ المواطنة، ولا خطوات إلى الأمام على طريق التنمية الحقيقية.

No comments:

Post a Comment