Translate

Wednesday, December 11, 2013

مدنية الحكم. ومدنية الحكومة! الأهرام اليومى بقلم: احمد عبدالمعطى حجازى


 
لا أظن أنى سأبتعد كثيرا عن طه حسين حين أتوقف مؤقتا عن مواصلة حديثى عنه، لأتحدث عن الدستور الذى سيذكرنا دائما بطه حسين، ويجعله حاضرا دائما.
حين نقرأ ما يقوله الدستور عن مصر وهويتها، ولغتها وثقافتها، سنرى طه حسين وسنسمعه يصحح للدستور ما يقوله ويذكره بما لم يقله، وحين نقرأ المادة التاسعة عشرة فى الدستور التى تقول "التعليم حق لكل مواطن، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة فى مؤسسات الدولة التعليمية"، سنستعيد على الفور عبارة طه حسين التى أصبحت شعارا ومبدأ معمولا به "التعليم حق لكل مواطن كالماء والهواء"!
ومن المؤكد أن عبارة طه حسين عن التعليم، كانت هى الأصل الذى تفرعت منه المادة الثامنة والأربعون، التى جاءت فى الفصل الثالث المخصص للمقومات الثقافية وهى تقول "الثقافة حق لكل مواطن تكفله الدولة وتلتزم بدعمه وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب".
ولابد أن يطالعنا وجه الأستاذ العميد ونحن نقرأ ما جاء فى الدستور عن الحريات، حرية الاعتقاد، وحرية التفكير والتعبير، وحرية البحث العلمي، وحرية الإبداع الفنى والأدبى التى يؤكد الدستور أنها مكفولة "وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية، أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى".
طه حسين حاضرا فى كل هذه الحريات التى بشر بها ودافع عنها، ودفع الثمن حين نشر كتابه "فى الشعر الجاهلي"، فانفجرت من حوله الألغام التى كانت له ولزملائه منصور فهمي، وعلى عبدالرازق وغيرهما بالمرصاد، ألغام زرعها بعض رجال الأزهر، وأخرى زرعها بعض المتاجرين بالدين وبعواطف الناخبين من أعضاء مجلس النواب، فضلا عن الكتب والمقالات التى صدرت للرد عليه والطعن فيه، ومازالت تصدر حتى الآن.
وأخيرا فطه حسين كان عضوا بارزا فى لجنة الخمسين، التى وضعت دستور 1954 الذى يعتبر أفضل وثيقة دستورية وصل إليها المصريون حتى الآن، وإن لم يعملوا بها، والأصح أن نقول: ولهذا لم يعملوا بها، لأن العمل بها آنذاك كان يترتب عليه العودة للديمقراطية، وتسليم السلطة للأمة، ورجوع الجيش الى ثكناته، وهذا ما رفضه ضباط يوليو وقرروا البقاء فى السلطة التى استولوا عليها!
لكنى أستأذن طه حسين فى العودة الى ما نحن فيه الآن، وهو هذا الدستور الجديد الذى انتهت لجنة الخمسين من وضعه وسلمته لرئيس الجمهورية تمهيدا للاستفتاء عليه الشهر المقبل.
وأبدأ فأقول إن هذا الدستور بالأسس والمبادئ التى قام عليها وانحاز فيها للروابط الوطنية الجامعة، وبالثوابت التى التزمها وأكد فيها أن السيادة للشعب وحده، وأن الشعب هو مصدر السلطات، وأن النظام جمهورى ديمقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون والتعددية الحزبية وتبادل السلطة، وأن الدولة ملتزمة بتحقيق المساواة الكاملة بين جميع المواطنين، وبين المرأة والرجل، وبتوفير الحياة الكريمة للجميع، واحترام حقوق الانسان - هذا الدستور بهذه المبادئ خطوة واسعة للأمام وسند للمصريين فى نضالهم من أجل الحرية والعدالة - والكرامة، خاصة ونحن نرى أن هذه المبادئ ليست مجرد ديباجة منقولة مفصولة عما بعدها، وانما هى الأساس الذى بنى عليه الدستور وترجمه فى أبوابه وفصوله ومواده.
لكننا لا نستطيع بعد ما قدمناه فى هذه الشهادة أن نكتم الباقى، لقد ثار المصريون فى يناير على نظام مبارك وهو المرحلة الأخيرة فى نظام يوليو العسكرى وأسقطوه، لأن العسكر للذود عن حياض الوطن، أما الحكم فللأمة التى هى مصدر السلطات، غير أن المصريين فوجئوا بأن السلطة التى عادت للأمة وذهبت لجماعة فاشية إرهابية استأثرت بها وحولتها أو أرادت أن تحولها الى ملك دينى عضوض، فثاروا من جديد فى يونيو مرددين هتافهم المجلجل: مدنية! مدنية! بأى حق إذن تسقط لجنة الخمسين هذا المبدأ من صلب الدستور فتضعه فى الديباجة، ثم تتحايل فى صياغته فتجعل المدنية وصفا للحكومة لا للدولة؟
ويجب على أن أنبه القارئ هنا، الى أن الدولة المدنية شعار صكه المصريون بفطرتهم السياسية، ليلبوا أية حاجة يستشعرونها أكثر من غيرهم، فكلمة "المدنية" لا ترد فى الفكر السياسى العالمى وصفا للدولة، وانما ترد وصفا للمجتمع فيقال "المجتمع المدنى"، تعبيرا عن العلاقة بين المجتمع وبين الدولة، أى عن الحقوق التى تلتزم بها الدولة نحو المواطن، والواجبات التى يلتزم بها المواطن نحو الدولة، كما تستخدم الكلمة فى التمييز بين ما يتصل بالحياة العادية وما يتصل بالحياة العسكرية، وبما أن الحديث عن حقوق المواطن وواجباته لا يكون إلا فى إطار نظام ديمقراطى تكون فيه السلطة للأمة، فقد ارتبطت المدنية بالديمقراطية، خاصة وقد ورث الأوروبيون فكر اليونان والرومان السياسى والقانونى، الذى أقاموا عليه "دولة المدينة" أى الدولة التى تقوم فى مدينة يحكمها أهلها، وقد توسع المصريون فى فهمهم لكلمة "المدنية" فلم تعد وصفا للمجتمع وحده، بل أصبحت كذلك وصفا للدولة، وبما أن المصريين قد عانوا من حكم العسكريين وعانوا بعده من حكم الجماعات الدينية، فقد جعلوا "الدولة المدنية" مطلبا يثورون من أجله ويقاومون تحته الطغيان بجميع أشكاله، العسكرية والدينية، كما فعلوا فى يناير قبل عامين وفى يونيو هذا العام، فاذا كان الدستور الجديد تعبيرا عن هذه الإرادة الوطنية الثورية فقد كان شرطا فيه أن يحترم الشعار الذى رفعه المصريون وأن يتبناه.
وقد تابعنا الجدل الذى دار داخل لجنة الخمسين حول مدنية الدولة، التى استمات فى مقاومتها السلفيون ومن وقف الى جانبهم، لأنهم فهموا منه معناه، وهو أن الدولة المدنية هى الدولة الديمقراطية، وأن الدولة الديمقراطية هى الدولة التى لا تخلط بين السياسة والدين، وبما أن هؤلاء السادة يخلطون ويريدون أن يستدرجونا من جديد لنسقط فى الفخاخ التى نصبوها لنا، فلابد أن يقاوموا الشعار ويهددوا بالانسحاب لو أخذت به اللجنة، التى كان معظم أعضائها منحازين له، وهنا تقدم الذين تكفلوا بالتوفيق بين الرأسين فحولوا العبارة من "دولة أو حكم مدني"، إلى "حكومة مدنية"، والفرق بينهما فرق جوهري، لأن الحكم معناه النظام، أى المبادئ والقوانين التى تقوم عليها السلطة، أما الحكومة فهى الأداة التى تتولى التنفيذ، وقد أرضى هذا الحل مندوبى الجماعات الدينية، الذين أصبح من حقهم أن يفهموا من هذه العبارة الجديدة أنها "حكومة مدنية فى نظام ديني"!
ونواصل هذا الحديث فى الأسبوع المقبل.
 

No comments:

Post a Comment