Translate

Sunday, December 8, 2013

د. محمد نور فرحات يكتب: مصر «بين دستورين» ٨/ ١٢/ ٢٠١٣ بالمصرى اليوم


لا تثريب على المصريين أن يكتبوا دستورهم، ثم يعيدوا كتابته مرة ثانية، ثم يقوموا بتنقيح ما كتبوه فى المرتين الأولى والثانية فتلك هى السابقة الأولى فى التاريخ المصرى الذى يكتب فيه المصريون دستورهم بأنفسهم. دستور ١٩٢٣ كتبته لجنة شكلها الملك فؤاد، وأصدره الملك كمنحة منه للشعب، وإن انعكست فيه روح ثورة ١٩١٩.
ودساتير نظام يوليو الدائمة والمؤقتة كانت تضعها لجان فنية تابعة لمكتب الرئيس، وقد يستفتى الشعب عليها استفتاء صوريا ينتهى بموافقة تقترب من الإجماع. المرة الأولى التى اضطلع فيها الشعب المصرى بكتابة دستوره بنفسه كانت بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ فى ظل مناخ من الاضطراب والفوران السياسى والفكرى غير المسبوقين فى تاريخ مصر الحديث.
سعى تيار الإسلام السياسى يتصدره تنظيم الإخوان المسلمين وفقهاؤه إلى استغلال حالة الاضطراب السياسى، التى شهدتها مصر غداة ثورة ٢٥ يناير لرسم خريطة طريق تضمنتها المادة ١٨٩ مكرر من دستور ١٩٧١، التى عدلتها لجنة سادها فقهاء الإخوان، وحرصوا فى خطتهم الماكرة التى صاغوها باسم الديمقراطية على أن يكون تشكيل الجمعية التأسيسية فى يد البرلمان، الذى كان أمر هويته وانتماء غالبية أعضائه إلى تيار الإسلام السياسى أمرا محسوما بحكم موازين القوى حينئذ.
وتمكن هذا التيار العصى على التوافق بمنهجه الاستعلائى من الاستئثار بعملية كتابة الدستور، وتم وضع دستور مطابق لرؤيته وطموحاته، حتى ولو أدى هذا إلى تقسيم شعب مصر، وإقصاء قطاعات كبيرة من القوى السياسية والاجتماعية فى المجتمع المصرى.
كان الصراع على وضع دستور ٢٠١٢ أشبه بلعبة كرة القدم الأمريكية ما إن يستأثر أحد اللاعبين بالكرة حتى ينطلق متشبثا بها يقبض عليها بيديه حتى يودعها المرمى، وله أن يزيح من طريقه كل من يعترضه، وبكل الطرق والأساليب.
ممارسات جماعة الإخوان المسلمين وتابعيهم فى النأى عن التوافق، وفى الاستئثار بوضع الدستور ما زالت حاضرة فى الذاكرة شهودها أحياء يرزقون، وقد حاولوا جميعا البحث عن مساحة مشتركة للتوافق على معايير تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور على نحو متوازن، وعلى مبادئ حاكمة للوثيقة الدستورية تضمن مدنية الدولة، وتصون الحقوق والحريات، لكن النزعة الاستئثارية المفرطة لجماعة الإخوان المسلمين نأت بها عن أى سعى مخلص للتوافق، واستعانت الجماعة بعدد من خبراء القانون الموالين لها صراحة، أو ممن هم على استعداد لبيع خبرتهم لمن يدفع الثمن فى سبيل إحباط محاولات التوافق الدستورى حتى إن أحدهم كان يصرح دائما بأن الدستور لا يعرف التوافق بل يعرف الغلبة.
لم يكن غريبا أن يخرج عن هذه الجمعية التأسيسية، التى لا تمثل إلا فريقا سياسيا واحدا تصدر الساحة السياسية المصرية فى فترة الاضطراب السياسى عن طريق التآمر الخارجى تارة والداخلى تارة أخرى، لم يكن غريبا أن يخرج عنها دستور ٢٠١٢ الذى اتسم بطابع طائفى، وقسم الأمة شيعا وفرقا متناحرة، ونال من وحدتها، وانتهك الحقوق والحريات العامة، وكرس لاستبداد السلطة التنفيذية، واعتدى على استقلال القضاء الدستورى، ومهد الطريق أمام إقامة الدولة الدينية فى المستقبل.
لن نتوقف كثيرا أمام تفاصيل دستور ٢٠١٢ الذى أسقطته الجماهير المصرية بخروجها الكبير فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ (وهو الخروج الذى يتغافل عنه عن عمد مفكرو وفقهاء الإخوان)، ولن نتوقف طويلا أمام خارطة الطريق، التى صدرت عن اجتماع عقده رموز الأمة فى رحاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى ٣ يوليو ٢٠١٣ والتى أسفرت عن انطلاق قطار الاستقامة السياسية (الذى يسميه الإخوان ومن يأكل على موائدهم انقلابا)، ولكن من المناسب والمطلوب أن نعقد المقارنة بين أعمدة أربعة لكل من دستور ٢٠١٢ ومشروع الدستور الحالى فى المسائل التالية: مسألة الهوية ومسألة السلطة ومسألة الحرية ومسألة العدالة الاجتماعية لنرى فى النهاية أنه عندما تطيب البذرة يستقيم العود، والعكس أيضا صحيح رغم إنكار الجاحدين وصياح الصائحين.
فى مسألة الهوية
ليس من مهمة الدساتير الديمقراطية أن تتحدث عن الهوية، الهوية حالة لا يفرضها الدستور، بل هى محصلة للمعطيات التاريخية والثقافية والحضارية بجوانبها المادية، وغير المادية، التى تراكمت فى عقل الأمة عبر التاريخ طبقات بعضها فوق بعض.
الهوية حالة تتغير لدى الشعوب ببطء، وتتأثر بتجارب الأمم، وتطور ثقافتها. فهوية مصر الفرعونية ليست متطابقة مع هوية مصر القبطية أو الإسلامية أو الحديثة. يبقى فى الهوية السابقة ما هو أصيل، ويضاف إليها ما هو مستجد من عناصر الثقافة والمجتمع والاقتصاد.
ورسم ملامح الهوية بنص قانونى أو دستورى ينطوى على هيمنة ثقافية من واضعى الدستور على حاضر الأمة، ورؤية ذاتية لماضيها، ومصادرة على مستقبلها.
وإنما تسربت بدعة الحديث عن الهوية إلى عدد من الدساتير المعاصرة من سيطرة الأيديولوجيات الشمولية التى تنفى الآخرين، قارن على سبيل المثال دستور الاتحاد السوفيتى (المادة السادسة تحدثت عن قيادة الحزب الشيوعى وهيمنة الماركسية اللينينية) وسوريا (المادة الثامنة التى تتحدث عن قيادة حزب البعث وفقا لأهداف الاشتراكية العربية) ودستور عراق صدام والكتاب الأخضر لليبيا القذافى، وهى كلها دساتير علمانية تعطى الهيمنة والصدارة للإطار الفكرى، الذى تتبناه الزمرة الحاكمة باعتباره الإطار الأوحد، الذى يحوز الشرعية، والاعتراف فى المجتمع.
قارن تلك الدساتير بدساتير تتبنى أطرا فكرية مهيمنة ذات طابع دينى مثل دساتير إيران (تنص المادة الثانية من الدستور الإيرانى على أن نظام الجمهورية يستند إلى الإيمان بالإله الواحد وسيادته، وحقه فى التشريع، وضرورة الخضوع لتعاليمه، وإلى الآيات المقدسة، وإلى الرجوع إلى الله فى الآخرة - كما تنص المادة الرابعة على أنه يجب أن تستند كل القوانين إلى المعايير الإسلامية، ويعتبر الدستور السودانى السابق الصادر عام ١٩٩٨ مثالا على إكساب نظام الحكم فى الدولة طابعا دينيا خالصا فقد نصت مادته الرابعة على أن الحاكمية فى الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف يمارسها عبادة لله وحملا للأمانة..، ونصت المادة ١٨ منه على أن يستصحب العاملون فى الدولة والحياة العامة تسخيرها لعبادة الله يلازم فيها المسلمون الكتاب والسنة ويحفظ الجميع نيات التدين، وهو الدستور الذى عدل عنه نظام البشير عام ٢٠٠٥ بتبنى دستور مدنى تجنباً للانفصال بين الشمال والجنوب وقتئذ، وإن عاد البشير للحديث عن الدستور الإسلامى بعد الانفصال.
وعلى نهج مقارب سار دستور ٢٠١٢ الذى وضعته الجمعية التأسيسية ذات الهوى الدينى الغالب، فبجانب النص فى المادة الثانية على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع (وهو نص توافقى يسلم به المجتمع المصرى بأكمله) أضيفت مجموعة من النصوص تسمح بتحويل مصر مستقبلا إلى دولة دينية كما تسمح بتقييد الحقوق والحريات العامة بدعاوى دينية وبهيمنة المؤسسة الدينية على عملية وضع التشريع (راجع المادة ٢١٩ التى تجعل من المصادر المعتبرة لفقه أهل السنة والجماعة المصدر الرئيسى للتشريع، وهى مادة كان من شأنها، لو طبقت، أن تجعل آراء الفقه المحكومة بسياقاتها الثقافية والتاريخية منذ القرن الثانى الهجرى فى مسائل المساواة والحريات ووضع غير المسلمين والمرأة وعلاقة الحاكم بالمحكوم مصدرا ملزما لنا- راجع المادة الرابعة من دستور ٢٠١٢ التى ألزمت الدولة بأخذ رأى الأزهر الشريف فى كل ما يتعلق بالشريعة بما فيه طبعا أمر التشريع، ما يفرض وصاية للأزهر على عملية التشريع، وطالع المادة ٦ التى ألغت حظر قيام الأحزاب على أساس دينى واكتفت بحظر الأحزاب التى تفرق بين المواطنين بسبب الدين، وقارن ذلك بالفقرة الأخيرة من المادة ٨١ التى رهنت ممارسة الحقوق والحريات بألا تتعارض مع المقومات الواردة فى باب الدولة والمجتمع أى مع مبادئ الشريعة وفقا لتفسيراتها فى مصادرها المعتبرة عند أهل السنة والجماعة).
بل تضمن دستور ٢٠١٢ المعطل نصا غريبا فى بابه لا نظير له فى أى من دساتير العالم وهو أنه «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص فى القانون أو الدستور» ( م ٧٦)، فى حين أنه تجرى مختلف دساتير الدول الديمقراطية بل والشمولية على أنه «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص فى القانون أو بناء على نص فى القانون»، وإنما أراد ثعالب الدستور الإخوانى السلفى أن يفتحوا الباب مستقبلا كى يحكم القضاة مباشرة بما رآه أهل السلف فى مسائل التجريم والعقاب استنادا إلى نصى المادة الثانية والمادة ٢١٩ اللتين تجعلان من شرع أهل السلف شرعا لنا، ولو جاء فى شرعنا ما يخالفه. قارن كل هذا وطالعه لتعلم عن يقين أن دستور ٢٠١٢ كان يمهد لقيام دولة دينية فى المستقبل.
جاء مشروع الدستور الجديد المعروض حاليا لينهى، لصالح الشريعة ولصالح الحرية معا، هذه الخصومة المصطنعة التى أقامها أهل الكهف بين الشريعة والحرية. فأعاد المشروع الدستورى الجديد مبادئ الشريعة الإسلامية إلى مكانتها السامية كمصدر رئيسى للتشريع، وفقا لما فهمه أستاذنا السنهورى فى منتصف القرن الماضى عندما جعل الشريعة مصدرا للقانون، ووفقا لما تفهمه المحكمة الدستورية فى أحكامها المتواترة ، أن مبادئ الشريعة هى المبادئ الكلية المتفق عليها التى تستند إلى نصوص قطعية الثبوت والدلالة دون الدخول فى تفريعات الأحكام الفقهية المحكومة بسياقاتها التاريخية والثقافية.
لا تعارض إذن فى مشروع الدستور الجديد بين الهوية والحرية، فلم تعد الهوية سيفا مسلطا على المواطنين لقهر حريتهم والتمييز بينهم.
فى مسألة الحرية
لا ينال من احترام مشروع الدستور الجديد للحريات ولمبدأ المواطنة ومدنية الدولة تلك الجلبة التى حدثت نتيجة استبدال مدنية الحكومة بمدنية الحكم ثم بمدنية الحكومة فى ديباجة الدستور، فهذه فى رأيى جلبة مصطنعة لا معنى لها فى الإطار الكامل للدستور أوجدتها اعتبارات الملاءمة السياسية والرغبة فى امتصاص توابع الزلزال الدستورى الذى أحدثه انحياز الدستور للدولة المدنية فى الجوهر والمضمون.
وفى مجال الحريات العامة يحسب لمشروع الدستور الجديد، فضلا عن إزالته الألغام، التى كانت تمهد لنسف الحرية باسم العقيدة، أنه كان واضحا فى الانحياز لحقوق الإنسان وحريته، وقدم ضمانات فعلية تحول، إلى حد كبير، دون انتهاك الحريات، وهى ضمانات كانت غائبة عن الدستور المعطل.
حقيقة أننا كنا قد اقترحنا فى مناسبات عدة ضمانات أكثر فاعلية، ولكن ما ورد فى مشروع الدستور يعتبر بلا شك خطوات متقدمة للأمام على طريق حماية الحريات من انتهاكها أيا كان مصدر الانتهاك. فيحسب للمشروع أنه نص على إلزام المشرع بتجريم جميع صور التمييز. وهكذا، ولأول مرة فى النظام القانونى المصرى، أصبح لمبدأ المساواة مخالب وأنياب تدافع عنه ضد الاعتداء عليه. ويحسب للمشروع أنه لأول مرة فى التاريخ الدستورى المصرى يتضمن حكما على التزام الدولة باتخاذ التدابير الكفيلة بضمان حق المرأة فى تولى الوظائف العامة وتمثيل المرأة تمثيلا مناسبا فى المجالس النيابية والتعيين فى الوظائف العليا والوظائف القضائية دون تمييز وحمايتها من العنف وحماية النساء الفقيرات والمعيلات والمسنات ( م١١)، (وهذه المادة فى رأيى هى درة تاج مشروع الدستور). ويحسب للمشروع أنه قد تخلى عن تردده فى نصرة الفئات التى عانت ودفعت ثمنا باهظا لسيطرة المشروع الدينى الطائفى فى عهد الإخوان وهم المسيحيون فضلا عن غيرهم من الفئات المهمشة. فنص على التزام الدولة بالعمل على تمثيل الشباب والمسيحيين والأشخاص ذوى الإعاقة والمصريين بالخارج والعمال والفلاحين تمثيلا مناسبا فى أول مجلس نواب يجرى انتخابه (المادتان ٢٤٢، ٢٤٤)، ويحسب للمشروع الدستورى الجديد أنه انحاز انحيازا كاملا لحرية الصحافة بأن نص على عدم جواز مصادرة الصحف أو إغلاقها أو الرقابة عليها فى حين كان الدستور السابق يجيز إغلاقها قضائيا، ويحسب له أنه استجاب بلا تردد لمطالب الصحفيين وأهل الرأى والمثقفين بحظر العقوبات السالبة للحرية فى قضايا الرأى التى ترتكب علانية.
ولا يقل عن كل ذلك أهمية هذا الموقف الإيجابى الذى اتخذه المشروع الدستورى من الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان التى تصدق عليها مصر. وليس خافيا تلك الكراهية الشديدة التى كانت تحملها الجمعية التأسيسية للإخوان تجاه مبادئ حقوق الإنسان العالمية كما تضمنتها العهود والاتفاقات الدولية. وهى الكراهية التى أفصحت عن نفسها فى أكثر من موضع فى الدستور المعطل وفى مداولات الجمعية عند إعداد هذا الدستور. جاء مشروع الدستور الحالى لينتصر انتصارا حاسما لاتفاقات حقوق الإنسان التى تصدق عليها مصر بما لا يتنافى مع مبادئ الشريعة الإسلامية. فجاء نص المادة ٩٣ من مشروع الدستور على النحو التالى: «تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التى تصدق عليها مصر وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقا للأوضاع المقرر ة». وهذه فى رأيى صياغة قانونية فنية بارعة تؤدى عملا إلى أن تصبح الصكوك الدولية لحقوق الإنسان التى تصدق عليها مصر (ومصر دائما ما تضع تحفظا ألا يتعارض تطبيق الصك مع مبادئ الشريعة) تصبح هذه الصكوك الدولية أعلى فى تدرج التشريع من التشريع العادى. لأنه ما دامت الدولة ملتزمة دستوريا باحترام اتفاقات حقوق الإنسان التى صدقت عليها فيمتنع عليها لاحقا إصدار تشريعات تتنافى أو تعارض مضمون هذه الاتفاقات.
علمتنا تجربة الدساتير المصرية السابقة ألا نتوقف طويلاً أمام ما تتضمنه الدساتير من عبارات بليغة عن التزام الدولة بحماية الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما لم تنطو الدساتير على ضمانات فعلية لتأمين واحترام هذه الحقوق على أرض الواقع. لقد تحدث دستور ٢٠١٢ (فى إطار القيود العقائدية التى وضعها) عن الحقوق المدنية والسياسية وعن مبدأ العدالة الاجتماعية وعن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولكنه قدم للمشرع مسوغات أيديولوجية لانتهاك هذه الحقوق، ولم يقدم ضمانات للتطبيق الفعلى لها، مما جعل النص على هذه الحقوق والحريات مجرد عبارات بليغة فارغة. فهل هذا يليق بدستور يزعم واضعوه أنه دستور الثورة؟
الضمان الأساسى المعترف به فى الدساتير المصرية لاحترام الحقوق المدنية والسياسية هو رقابة المحكمة الدستورية العليا على التشريع للتأكد من دستوريته ومن عدم انتهاكه لهذه الحقوق. ولهذا يصبح استقلال المحكمة الدستورية العليا ضرورة جوهرية لضمان الحريات. وهذا يفسر الصراع بين الرئيس السابق وجماعته وبين المحكمة الدستورية فى المحاولات الدؤوبة من جانب الرئيس وجماعته لانتهاك الشرعية الدستورية. صراع مبعثه كون المحكمة الدستورية العليا هى الأمينة على قيمة الشرعية والمشروعية وتأمين الحرية فى حين كان سعى الرئيس السابق وجماعته إلى مجرد التمكين بصرف النظر عن الشرعية والمشروعية.
ومن أجل هذا جاء دستور ٢٠١٢ ليهدر استقلال المحكمة الدستورية بإعادة تشكيلها وإبعاد الأعضاء المغضوب عليهم منها وليهدر استقلالها مستقبلاً وليجعل تعيين أعضائها بواسطة ترشيح (هيئات قضائية وجهات يحددها القانون ويصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية). وكانت الخطوة القادمة التى تأهب لها برلمان الإخوان هى إصدار قانون جديد للمحكمة الدستورية يعيد تشكيلها ويجعل يد الإخوان فيها هى العليا، ويد القضاة المحايدين هى السفلى.
وقد تضمن مشروع الدستور الجديد، بالإضافة إلى وضعه تنظيما محكما يكفل استقلال المحكمة الدستورية.
فى مسألة العدل الاجتماعى
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هى بطبيعتها حقوق مبتغاة وليست حقوقا واجبة الأداء فورا، كالحق فى السكن الملائم والحق فى التعليم والحق فى الرعاية الصحية. إنها حقوق اصطلح على تسميتها فى الأدبيات الدولية بالحاجات الإنسانية الأساسية التى تلتزم الدولة الحديثة بالوفاء بها، وقد تضمنها جميعا مشروع الدستور الجديد، وأضاف إليها حقوقاً يتفرد بها الواقع المصرى الذى طال إهمال الفقراء فيه، مثل التزام الدولة بالقضاء على العشوائيات وتطويرها.
وليس من ضمان فعلى فى هذا الدستور إلا بنص الدستور على الأخذ بالضرائب التصاعدية على الدخول، وما تفرد به من تخصيص نسب معينة من الناتج القومى لميزانية الصحة والتعليم والتعليم العالى والبحث العلمى وهى خطوة محمودة وإن كانت أقل من توقعاتنا. وكنا نفضل أن يتضمن مشروع الدستور نصاً على النحو التالى: «فى الأحوال التى ينص فيها الدستور على التزام الدولة بتوفير الحقوق وتلبية الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تلتزم الدولة بوضع خطة للوفاء التدريجى بهذه الحقوق والحاجات يوافق عليها ويراقب تنفيذها مجلس النواب» ولعل مثل هذا النص المقترح وغيره من النصوص أن يكون مجالاً لاقتراح تعديل الدستور فى البرلمانات القادمة.
فى مسألة السلطة
نتوقف الآن عند موقع رئيس الجمهورية فى دستور ٢٠١٢ ومقارنته بمشروع الدستور الحالى.. كان رئيس الجمهورية فى الدستور المعطل، ومازال فى مشروع الدستور الجديد، يتمتع بسلطات واسعة كرئيس للدولة ورئيس للسلطة التنفيذية. واختصاصاته بعضها ينفرد بها وحده فى مجال الأمن والدفاع والعلاقات الدولية وبعضها الآخر يمارسه من خلال الحكومة. ولكن كان منصب رئيس الجمهورية وفقاً لدستور ٢٠١٢ متعالياً عن أى نوع من المسؤولية اللهم إلا إذا ارتكب الرئيس جناية أو جريمة الخيانة العظمى دون تحديد لمفهوم هذه الأخيرة. أما المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية فقد أعفاه منها الدستور السابق تماما، وهكذا أعاد هذا الدستور المعطل إنتاج نموذج الحاكم المطلق الذى لا يسئل عما يفعل.
أما مشروع الدستور الجديد فقد أضاف إلى حالات المسؤولية الجنائية لرئيس الجمهورية حالة جديدة (من واقع خبرة مصر مع رئيسها السابق) وهى حالة انتهاك أحكام الدستور. على أن الأهم من ذلك هو المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية التى تقررت فى مادة فريدة من نوعها فى المشروع الجديد، وهى المادة ١٦١، حيث قررت أنه يجوز لمجلس النواب اقتراح سحب الثقة من رئيس الجمهورية بإجراءات خاصة وأغلبية خاصة ثم يقرر الشعب فى الاستفتاء إما سحب الثقة من الرئيس، فيخلو منصبه، أو تأكيد الثقة فى الرئيس فيحل مجلس النواب.
لقد أقام مشروع الدستور الجديد نظاما رئاسيا متوازنا يكون فيه الرئيس رئيسا قادرا كامل السلطات، ويكون فى نفس الوقت مسؤولا مسؤولية جنائية وسياسية، وتكون فيه الوزارة قادرة يشكلها الرئيس بمشاركة البرلمان والأكثرية فيه، وتشترك مع الرئيس فى القيام بأعباء الحكم وهى بدورها مسؤولة أمام البرلمان، ويكون فيه البرلمان قادراً على تشكيل الحكومة وعلى مساءلتها بل وعلى سحب الثقة منها ومن الرئيس ولكنه مهدد بالحل إن أساء استخدام سلطته.
وأتاح مشروع الدستور إمكانية أن يأخذ القانون فى المستقبل بانتخاب المحافظين ورؤساء الوحدات المحلية.
ليس ما ذكرته فيما سبق عرضاً شاملاً للفروق الجوهرية بين دستور ٢٠١٢ ومشروع الدستور الحالى ولكنه إبراز لأهم هذه الفروق من وجهة نظرى. إن الدستور الجديد هو دستور توافقى يعبر عن كافة شرائح الأمة، لم يقص أحداً وخلا من الألغام التى تمهد لانتهاك الحقوق والحريات أو تبررها باسم الدين، وأعلى مكانة الشريعة بأن أزال التعارض المزعوم بينها وبين الحرية.
بقيت المسألة المثيرة للجدل حول وضع المؤسسة العسكرية فى مشروع الدستور الحالى وهى تتفرع إلى مسألتين: سلطة رئيس الجمهورية فى تعيين وزير الدفاع، واختصاص القضاء العسكرى بمحاكمة المدنيين. هاتان المسألتان كانتا بمثابة حائط المبكى الذى وقف عنده الذين سكتوا عن مظاهر الاستبداد فى دستور ٢٠١٢ وأخذوا ينعون اليوم تحول مصر إلى دولة عسكرية على يد دستور النخبة الليبرالية، وهم بهذا يواصلون عادتهم فى تشويه الحقائق التى برعوا فيها طوال تاريخهم المهنى. لا أدرى لماذا ينوح البعض ويولول على إعطاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة حق ترشيح وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، فى الوقت الذى يتمتع فيه بهذا الحق المجالس العليا للهيئات القضائية وتحظى الجامعات ومجالسها بسلطة لا مراجعة فيها فى انتخاب القيادات الجامعية. حقيقة كان الحل الأمثل من وجهة نظرى أن يتم الفصل بين منصبى وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة وهو ما كان عليه الأمر قبل ثورة ١٩٥٢، ولكن إذا كانت الظروف لا تسمح بذلك فى مصر اليوم، فلا أرى بأساً من مشاركة المجلس الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية فى تسمية وزير الدفاع وعزله بصفة مؤقتة ولمدة محددة لظروف نقدرها جميعاً حفاظاً على أمن وتماسك جيش مصر.
أما عن النص على محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية فأرى أنه قد انطوى على توسع غير محمود. فليس مقبولاً أن يحاكم المدنيون أمام القضاء العسكرى إذا تعلق الأمر بمطلق الاعتداء على الأموال العامة للقوات المسلحة. هذه صياغة أرفضها وأراها توسعاً لا مبرر له وخروجاً على تقاليد الدول الديمقراطية فى وقت تتعدد فيه عندنا الأنشطة الاقتصادية والأنشطة ذات الطبيعة المدنية والتجارية للقوات المسلحة، وكان الأوفق أن يحصر اختصاص القضاء العسكرى بمحاكمة المدنيين فى حالة الاعتداء على الأموال المملوكة للقوات المسلحة واللازمة لمباشرة مهمتها الأصلية فى الدفاع عن الوطن.
قد تكون هناك ملاحظات عندى على صياغة حول هذه العبارة أو تلك من عبارات مشروع الدستور، وقد يكون هناك خلاف حول حكم موضوعى هنا أو هناك بين ثنايا الدستور ولكننى أرى أنه فى مجمله دستور يليق بمصر بعد الثورة.
لذلك فإننى أدعو كافة المصريين إلى التصويت بالموافقة على مشروع الدستور.

No comments:

Post a Comment