Translate

Monday, April 4, 2016

اسمُها زَها حديد بقلم فاطمة ناعوت ٤/ ٤/ ٢٠١٦ - المصرى اليوم

بالأمس صافحنى أحد المثقفين العراقيين فى تورونتو، فبادرته قائلة: أُعزّيك فى «زها حديد»، عوّض اللهُ العراقَ عنها خيرًا. فما بدا عليه أنه يعرف عمّن أتكلم. وغاص قلبى فى حزن مضاف إلى حزنى على فقدها. لماذا دائمًا يشيد الغربُ بمبدعينا وتنكرنا أوطاننا ومواطنونا؟!

انقصف أعظم قلم رصاص فى التاريخ الحديث ورقدت العراقية «زها حديد» رقدتها الأخيرة ولن تجلس إلى طاولة رسمها لتعلّمنا كيف بوسع ناطحة السحاب أن تكون باليرينا راقصة؟ كنت أتابع أخبارها بفرح طفلة، وفخر أمّة بأسرها، وكلما هممتُ بالكتابة عنها، أجدُ أن حجم ما بداخلى أعلى من مقدرة الكلمات وطاقة مداد القلم، فأُرجئ الكتابةَ حتى تتوازن الكفّتان. إنها أهم شخصية نسائية معاصرة، ليس عربيًّا وحسب، بل عالميًّا فى الشأن المعمارىّ. حينما كنتُ طالبةً بكلية الهندسة، قسم العمارة، جامعة عين شمس، كان الأساتذةُ يعددون أسماء أبرز معماريى العالم، فيشرقُ اسمها كعصفور الجنة وسط باقة من الزهور. زهرةٌ أنثى. اسمها زها، لا يمكنكَ أن تذكر خمسة من أعظم مصممى العالم الحديث دون أن تذكرها. والعمارة، كما نعلم، هى أمُّ الفنون الستة، كما حددها الإغريق: العمارة، النحت، التشكيل- المسرح، الشعر، الموسيقى، حيث الثلاثة الأوَل تعتمد الإيقاع المكانىّ أو الأبعاد، بينما تعتمد الثلاثة الأخرى الإيقاع الزمانىّ. ومن هنا فإن البارع فى فن العمارة، هو بالضرورة قابضٌ على جمرة الفنون بشموليتها، مختزنٌ طاقتها بكاملها فى روحه.

حين تتأمل مبانيها القلقة غير المستقرة، التى كأنما ترقصُ خطوطُها رقصةً ناعمة حينًا، ورعوية شرسةً حينًا آخر، يخاتلك الشكُّ بأنها لا تمسك، مثلنا نحن المعماريين، قلم رصاص أو رابيدو، أو حتى ريشة ألوان، بل ترسم مبانيها الفريدة تلك بريشة طائر حرون لا يعرف ما السكونُ، وما السكينة. طائر تعلّم كيف يحلّق فى العلا، وأغفل أن يتعلم كيف يحطُّ على شجرة أو على حافة جبل. أبدىُّ التحليق، لا تكلُّ جناحاه عن الخفقان.

تجيد اللعبَ بالخط المنحنى الراقص، مثلما تجيد اللعب بالخط المستقيم الحاسم كنصل سيف. ثم تجمع ذلكما الشتيتين اللذين ظنّا ألا تلاقيا. فى صالة الألعاب المائية الأوليمبية بالبحرين، صنعت الجميلة «زها حديد» ما يشبه القوقعة الضخمة التى ترتكز على الأرض من أدقَّ نقطة فى قاعدة القوقعة، ما يُشعرك بأن المبنى سيغافلك ويقع. ثم تأخذك الفانتازيا بعيدًا وتفكرُ أنه يقف، ولا يميل ولا يقع، فقط لأنه يريد ذلك، وليس بفعل الحسابات الإنشائية والرياضية الدقيقة المعجزة! كأنما تودُّ حديد أن تقول إن بناياتها لها إرادتها الخاصة، التى تقرر بها متى تستقر، أو تميل، وقتما تريد.

والكلام، ولو بالمرور السريع غير المتخصص، عن أعمالها المعمارية، التى تجدلُ على نحو بارع، الأسطورةَ بالمعاصرةِ بالواقع بالوظيفة، يستغرق مجلدًا ضخمًا، تضيق عنه سطور مقال عابر وحزين كهذا. ويعدُّ، كذلك، لونًا من الاختزال المُخلّ الذى لا يليق بعالِمةٍ عراقية شاهقة القدر مثل زها حديد. ويكفى أن نعلم أن خبراء متخصصين اختاروها لتكون على رأس مائة أهم شخصية عالمية بارزة تركت بَصْمتُها الفكريةُ دويًّا ذائعًا فى مجالها، واحتلّ اسمُها مكانَه الرفيعَ فى استفتاء تايم ١٠٠، الذى تقيمه سنويًّا مجلة «تايم» الأمريكية. فازت زها حديد بأرفع الجوائز العالمية من البلدان المتحضرة التى تقيّم العقلَ والموهبة والعمل، منها جائزة Pritzker Prize، التى تعادل جائزة نوبل، ولكن فى مجال العمارة. فمتى تكرّمها الدولُ العربية «النائمةُ»، كما يليق بموهبة عملاقة صنعت للعروبة اسمًا كونيًّا؟ من المستحيل تقريبًا أن تعثر بإنسان غربىّ لا يعرف مَن هى «زها حديد»، فمتى يعرفها العرب؟

No comments:

Post a Comment