Translate

Thursday, October 6, 2016

جعلونى وزيراً! - رامى جلال - جريدة الوطن - 7/10/2016

 
  
 منذ سنوات أكد لى صديق بأحد أجهزة الدولة آنذاك أن تعيين الشخصيات فى المناصب المختلفة ليس له علاقة بالكفاءة بل بالتقارير الأمنية، وهذا كلام قديم، لكن الجديد هو أنه -تبعاً لصديقى- إن جاء التقرير الأمنى المطلوب نظيفاً خالياً من الشوائب والعيوب يتم استبعاد صاحبه من المنصب المرشح له؛ وتفسير ذلك أن الشخص النظيف سيكون خارج السيطرة، وبالتالى فقد يُغرد بعيداً عن السرب فى أى لحظة، أو بالمعنى الدارج لن تكون له «مَلكة» أو «بطحة». فتظهر الحاجة هنا للسياسة الساداتية: «وسخوه وهاتوه».
هذه الذهنية التى سيطرت طويلاً على متخذى قرارات التعيين -أو التسكين- قابلتها سياسة أخرى هى «أهل الثقة» ممن لا تهم كثيراً تقاريرهم الأمنية، فالعبرة بمدى قربهم من صانع القرار، وهى سياسة قبلية بامتياز.
لم تندثر هذه السياسات السابقة كلها فى عصرنا الحالى، لكن أضيفت لها الآن -ومنذ السنوات الأخيرة لحكم مبارك- سياسة تعيين الناجحين فى القطاعات الخاصة بالمناصب العامة، وهذه السياسة لن تنفع بكل أسف وستمثل المزيد من ضياع الوقت؛ لأن زواج كائنين من فصائل مختلفة ينتج عنه كائن عقيم لا يلد (مثل -لا مؤاخذة- زواج الحصان بالحمارة، يُنتج جحشاً لا يتناسل)، يحدث هذا حين يتم أخذ أى شخص -مهما بلغت درجة نجاحه- من القطاع الخاص، ووضعه فجأة فى موقع تنفيذى بالقطاع العام.. جينات هذا الشخص وخلايا جسمه وكرات دمه وشعر رأسه لا تعرف فى العمل سوى اتجاه واحد فحسب هو «تعظيم ربحية المساهمين»، وهذا ليس هدف العمل العام بالطبع. سيصبح المسئول المسكين مثل «طرزان فى نيويورك».
بفرض أن هذا الشخص كفاءة نادرة لا مثيل لها بكوكب الأرض والكواكب المحيطة، فإنه فى عمله الخاص يعلم جيداً مع من يتعامل، ولماذا وكيف يتعامل، ويعرف صلاحيات كل شخص، والمسئوليات المتقاطعة بين الأشخاص. لكنه فى الشق العام لكى يجيب عن تلك الأسئلة فإنه يحتاج، لو كان عبقرياً، سنتين على الأقل! وقبل انقضاء هذه الفترة بكثير سيكون الأوان قد فات وتم إعلان فشله بالفعل كمسئول عام. وتتم إقالته لأنه فاشل، حتى لو كان ناجحاً فى عمله الخاص، ولا يفهم هو لماذا جاء، ولماذا رحل، على طريقة «جعلونى مسئولاً».
أمثلة بسيطة: فى القطاع الخاص يعلم الشخص كيفية التعامل مع قسم الموارد البشرية، لكنه لن يعى تقنيات عمل الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة.. وفى القطاع الخاص هو يعرف المحاسب القانونى، لكنه لن يفهم بسهولة عمل الجهاز المركزى للمحاسبات.. هو يعرف معايير الكفاءة والجودة فى التعيين، ولم يسمع عن التقارير الأمنية والرقابية لذلك.. وهكذا مئات الأمثلة، لأن الجينات مختلفة.
لهذا المنطق البسيط فإن صاحب المستشفى لن يكون بالضرورة وزير صحة ناجحاً، وصاحب المصنع لن يصبح بالحتمية وزير صناعة جيداً.. وحل تلك الإشكالية يأتى من فرنسا -مع حتمية تطويعه لظروفنا بالطبع- وهو «مدرسة السياسات العامة». وهى مكان يمر عليه أى مسئول فى أى موقع بالدولة قبل تولى المسئولية، أياً كان موقعه حينها، خاصاً أو عاماً.. غياب مثل تلك المدرسة لا يجعل أمام صانع القرار إلا الاختيار من «أكاديمية ناصر العسكرية».

No comments:

Post a Comment