Translate

Thursday, May 25, 2017

رامى جلال - مصر وعمى الألوان - جريدة الوطن - 26/5/2017

من المرجح أن هناك عدداً لا نهائياً من الألوان فى الكون.. والألوان منها ما هو أوّلى؛ وتلك لا يمكن الحصول عليها بعمليات خلط، بل توجد هى بنفسها وهى: (الأحمر، الأزرق، الأصفر).. وبخلط أى لونين مما سبق نحصل على الألوان الثانوية وهى: (الأخضر والأصفر والبرتقالى).. كما أن خلط لون أوّلى مع لون ثانوى، بنسب متساوية، ينتج لوناً ثالثاً، مثل ألوان: اللازوردى والنيلى.. ويمكن كذلك تصنيف الألوان بطرق عديدة أخرى؛ فهناك الألوان المحايدة، وهى: (الأسود، والأبيض، الرمادى).. والألوان الباردة التى تعبر عن الماء والسماء وهى: (الأخضر والأزرق والبنفسجى).. والألوان الدافئة التى تعبر عن النار والدم وهى: (الأصفر والبرتقالى والأحمر).
وكل ما سبق من خلطات هو خاص بالصبغات، أما إذا كنت تتحدث عن مزج الأضواء الملونة فإن نتائج مختلفة ستكون فى انتظارك (مثال: أضواء زرقاء وحمراء وخضراء ستُكون معاً ضوءاً أبيض، بينما صبغات التتابع اللونى السابق نفسه ستعطى خليطاً بنياً مائلاً للسواد).. هذا الثراء اللونى الفريد الذى قدمه لنا الخالق لم يكن شفيعاً للبعض ليفهم أن الحياة بُنيت على التنوع، وأن محاولة فرض لون واحد -أياً كان- هو جريمة فى حق الخالق والمخلوق.
البعض محروم من رؤية كل ما سبق وكأنه مصاب بداء «عمى الألوان»، وهو عدم القدرة على التمييز بين بعض الألوان أو كلها، وهو عادة ما يكون وراثياً، لكنه أيضاً قد يُكتسب بفعل التعرض لعدة عوامل.. وأخف أنواع عمى الألوان هو «ثنائى اللون» وفيه تُشل قدرة الإنسان على التفريق بين ألوان معينة (مثل: الأصفر والبرتقالى).. أما أخطر الأنواع فهو «أحادى اللون»، وفيه يعيش الإنسان -حرفياً- فى فيلم سينمائى قديم، لا يشاهد من حوله إلا الأبيض والأسود.. وظنى أن مصر تعانى الآن -بكل أسف- من هذا النوع الأخير.
فى مصر يُهمل البعض «دائرة الألوان» كلها، ويختارون عمى الألوان الأحادى؛ فالحياة عندهم إما بيضاء ناصعة أو سوداء حالكة، وهو تجاهل غريب لعدد لا نهائى من البدائل والاختيارات.. وحتى من يحاول الوقوف فى المنتصف، فى المنطقة الرمادية، أصبح يوصف بأنه بلا موقف، وذلك على الرغم من أن هناك تسع درجات على الأقل للون الرمادى، وكلها وسط بين بياض الثلج وسواد الليل. (ومن الناحية العلمية فإن كلاً من الأبيض والأسود والرمادى ليست ألواناً ويُطلق عليها «ألوان بلا لون»، وهذا موضوع آخر).
عمى الألوان يجعل مقاربة أى موضوع فى مصر غير منطقية؛ نُقحم الأخلاق فى السياسة والدين فى الرياضة والثقة فى الكفاءة والوطنية فى الإدارة. هذا العمى جعل اللغو يعلو فوق الفكر، والصراخ يتغلب على النقاش، وحولنا إلى كائنات هائمة سائمة لا تفكر أو تدقق أو تحقق فى أى موضوع، مما جعل الحياة ليست فقط كئيبة بلا ألوان، بل أيضاً مسطحة دون عمق.
عمى الألوان جعلنا نهتم بالعناوين دون المتون، والقشور دون البطون، بما يصاحب ذلك من إضاعة للوقت واستنزاف للجهد، وهى جرائم تعاقب عليها الإنسانية، ولا يرحم التاريخ مرتكبيها.. أوصلنا عمى الألوان إلى درجة أن أى مهاجمة لخطأ سيحولك عند مؤيدى السلطة إلى «خائن»، وأى تشجيع لصواب سيجعل منك لدى المعارضين «منافق».
لا يوجد علاج لعمى الألوان، ولكن هناك عدسات لاصقة ممكن أن تُحسن عملية التمييز، عدساتنا اللاصقة مكونة من الثقافة والاطلاع والمنطق والمعرفة والموضوعية وقبول الآخر، والتفهم أن حكمة الله فى كونه ألا نكون «عميان»، وإلا ما خلق سبحانه وتعالى كل هذه الألوان.

No comments:

Post a Comment