Translate

Sunday, May 28, 2017

خالد منتصر - هل هذه حقاً بديهيات دينية؟ (3) - جريدة الوطن - 28/5/2017

بدأ عنكبوت الجهل والتخلف ينسج خيوطه حول خلايا العقل ويخنقها عندما بدأت هذه الصيحة تتسرب برفق إلى أن فرضت نفسها وجثمت على أنفاسنا وأصبحت بديهية غير قابلة للنقاش، حدث هذا عندما احتفظنا بالنصوص فقط وليس بحكمة هذه النصوص، بالألفاظ فقط وليس بدلالة هذه الألفاظ، بالنتائج فقط وليس بالعلة التى أدت إلى استخلاص مثل هذه النتائج، ومثل هذه المقولة «لا اجتهاد مع وجود نص» «مقولة فضفاضة تحتاج إلى الضبط والتضييق»، الضبط يتأتى من الإجابة عن هذا السؤال، أى نص هذا الذى لا يجوز معه الاجتهاد؟، فالنصوص نوعان نص قطعى الدلالة ونص ظنى الدلالة، والاجتهاد ليس مجاله النوع الأول الذى لا يختلف الباحثون حول تحديد المراد منه مثل توحيد الله وفرضية العبادات والكود الأخلاقى العام، إلى مثل ذلك مما وردت فيه النصوص قطعية الدلالة، أما النصوص ظنية الدلالة فهذه هى التى يجب فيها الاجتهاد وبذل أقصى طاقات الجهد الفكرى وعدم الارتماء فى أحضان الشعارات البراقة حتى نخرج من أسر الكسل العقلى والترهل الفكرى الذى أُصبنا به منذ أن أُغلق باب الاجتهاد، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى علينا أن جعل آيات الأحكام قليلة بالنسبة لآيات القرآن كله، والقطعية الدلالة قليلة جداً بالنسبة لظنية الدلالة، وكما يذكر الأستاذ أحمد أمين «هذه الآيات القانونية أو كما يسميها الفقهاء آيات الأحكام ليست كثيرة ففى القرآن نحو ستة آلاف آية ليس فيها مما يتعلق بالأحكام إلا نحو مائتين، وحتى بعض ما عده الفقهاء آيات أحكام لا يظهر أنها كذلك وليس عدها من آيات الأحكام إلا تجاوزاً»، وكما يقول الدكتور عبدالمنعم النمر عن هذه الآيات فى كتابه الاجتهاد «هذه الآيات منها آيات تفصيلية وآيات مجملة، ما هو قطعى الدلالة وما هو ظنى الدلالة، وحكمة الله سبحانه التى اقتضت أن تكون النصوص متناهية إزاء أحداث غير متناهية هى التى اقتضت أن تكون بعض الآيات مقررة لمبادئ وقواعد عامة يبنى عليها الكثير من التفصيلات وتتفرع عنها بما يصل إليه عقل الباحث وتقتضيه المصلحة، بل إن ذلك من مقتضى رحمته بخلقه، والأمثلة كثيرة على مثل هذا الاجتهاد وتملأ مجلدات وسنذكر منها النزر اليسير الذى يؤكد زيف هذه البديهية.
اجتهاد الصحابة:
1- سهم المؤلفة قلوبهم: وهو السهم الذى نص القرآن الكريم عليه فى آية توزيع الزكاة «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم» الذين كان الرسول يعطيهم وهم كفار متأرجحون حتى يكفوا عن المسلمين شرهم ويكسب ودهم وأوقف عمر بن الخطاب هذا الحكم وقال لاثنين تصدق عليهما أبوبكر بأرض اتباعاً لهذه الآية وقال لهما عندما تذمر إن رسول الله كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل وإن الله قد أغنى الإسلام فاجهدا جهدكم لا يرعى الله عليكما أن رعيتما»، وبهذا طبق الفاروق مبدأ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
2- تقسيم الغنائم: كانت الغنائم من الأعداء المحاربين تقسم حسب الآية الكريمة «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»، والباقى وهو الأربعة أخماس يوزَّع على المحاربين الفاتحين، وعندما نظر عمر فى خريطة الأرض المفتوحة ورأى أنها لو وزعت على الفاتحين لصارت ملكاً لهم ولورثتهم فكيف يكون حال أهلها وكيف يكون حال الدولة نفسها إذا احتاجت إلى مال لإدارتها؟، فقال باجتهاده وبصيرته النافذة «لا والله لا يفتح بعدى بلد كبير فيكون فيه كبير نيل (كبير النفع) بل عسى أن يكون كَلاً (عبئاً) على المسلمين، فإذا قسمت الأرض بعلوجها (أهلها) وأرض الشام بعلوجها فما يسد به ثغور؟ وما يكون للذرية بهذا البلد وبغيره من أرض الشام ومصر والعراق؟؟» وانتهى الأمر على ما رأى عمر برغم معارضة الكثير من الصحابة وصارت الأرض ملكاً للدولة بخراجها على قضاء مصالح المسلمين عامة، وهناك اجتهاد التابعين ومن أهم تجلياته توبة المحارب لله ورسوله قبل القدرة عليه، فأصل الحكم فى هذا موجود منصوص عليه فى القرآن «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»، ولم يحدث طبقاً لهذه الآية فى أيام الرسول أن عاقب الحاكم جانياً محارباً تاب قبل القبض عليه وسلم نفسه معترفاً بذنبه، لكن عروة بن الزبير وهو من كبار فقهاء المدينة له رأى اجتهادى فى هذا خالف فيه ماكان مستقراً حسب نص الآية الصريحة، وقال «لو قبلت توبته وأعفى من العقاب لتجرأ المفسدون فى إفسادهم ثم سارعوا فسلموا أنفسهم وحدث من ذلك فساد كبير حتى ولو ردوا ما أخذوا من مال ولو عفا أهل المقتول فإن ترويع الآمنين باق وحق الحاكم باق».
هذه الأمثلة وغيرها أكثر لا تعنى تجاوز النص وإلغاءه وإنما تجاوز الحكم المستنبط منه والاجتهاد هنا اجتهاد فى مدى توافر الشروط اللازمة لإعمال هذا الحكم على النحو الذى يحقق حكمته وعلته والمصلحة المبتغاة منه فإذا توفرت الشروط فلا تجاوز للحكم، وإذا لم تتوافر أثمر الاجتهاد حكماً جديداً.

No comments:

Post a Comment