Translate

Tuesday, May 30, 2017

خالد منتصر - هل هذه حقاً بديهيات دينية؟ (4) - جريدة الوطن - 30/5/2017

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب..
أول مسمار فى نعش الاجتهاد الإسلامى كانت هذه الجملة، وكان هذا الفهم، والاجتهاد لم يغلق بابه بمتاريس صلبة إلا عندما أُهملت أسباب النزول، وأخذت ألفاظ النصوص بعموميتها متجردة من الوقائع التى أحاطت بها، والعوامل التى أفرزتها، وقد بذل القدماء جهوداً ضخمة فى دراية هذه الأسباب، وكما يقول الواحدى فى كتابه «أسباب النزول» عن غرضه من تأليف هذا الكتاب: «إبانة ما أنزل فيه من الأسباب، إذ هى أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تعرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها، وبيان نزولها»، وقد صدقت نبوءة ابن عباس، حين قال: «لقد أنزل علينا القرآن فقرأناه، علمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لهم فيه رأى، ثم يختلفون فى الآراء، ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه»، وها نحن نقتتل على عموم اللفظ دون أن نسأل عن خصوص السبب، ووصلنا إلى ما ردده الواحدى، وكأنه يتكلم عن حالنا الآن «وأما اليوم، فكل أحد يخترع ويختلق إفكاً وكذباً ملقياً زمامه إلى الجهالة، غير مفكر فى الوعيد للجاهل بسبب الآية، وذلك الذى حدا بى إلى إملاء هذا الكتاب الجامع للأسباب، لينتهى إليه طالبو هذا الشأن والمتكلمون فى نزول القرآن، فيعرفوا الصدق، ويستغنوا عن التمويه والكذب، وقد رأينا عند عرضنا لبديهية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) كيف تساعد أسباب النزول على فهم الغرض والحكمة والعلة من النص، ونضرب هنا مثالاً مشهوراً آخر تذكره الكتب دائماً للاستناد على أهمية دراسة أسباب النزول، عندما قرأ مروان بن الحكم قول الله سبحانه وتعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أشكل عليه الأمر، بل وجزع قائلاً: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون!، لكن ابن عباس تداركه وأوضح له أن هذه الآية خاصة وليست عامة، وأن خصوصها محدد بسبب نزولها، فهى قد نزلت فى أهل الكتاب، حين سألهم النبى عن شىء فكتموه إياه، فأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه».
هكذا بدراسة أسباب النزول نستطيع الابتعاد عن التأويل المغرض الذى برع فيه دعاة الدولة الدينية، وأصبح دستورهم ومرجعهم الأثير، والتشويش الحادث فى أذهانهم ناتج من الخلط فيما بين أسباب النزول ومناسبات النزول، فالسبب هو الظروف الواقعية التى تفاعلت مع النص، ليظهر على النحو الذى أصبح به حكماً، أما المناسبة فتعنى أن النص كان معداً سلفاً، وأنه كان يتحين مناسبة ليظهر ويتربص فرصة، فإذا حانت المناسبة أو ظهرت الفرصة كان النص أو تنزلت الآية، والفرق بين أن تكون الظروف الواقعية للنص أسباباً للتنزيل، أو أن تكون مناسبات له كبير جداً، ويضرب المستشار سعيد العشماوى الذى شرح لنا هذا الفرق مثلاً لحالة أدى فيها الخلط بين الأسباب والمناسبات إلى عواقب وخيمة فى الفهم، فبعد فتح مكة وحج النبى والصحابة تنزلت الآية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»، وقد أخذ الفكر الإسلامى هذه الآية على معنى المناسبات، فاقتطعها عن أسباب نزولها، واعتبرها نصاً عاماً، فهم منه أن الدين كمل يوم نزلت الآية فقط، والشريعة قد استوفيت بمقتضى نزول هذا النص، فلا زيادة لمستزيد، ولكن إذا فسرنا الآية بأسباب التنزيل، وضح كل غموض، وزال أى لبس، ذلك أنها تقصد إلى أن الحج أكمل شعائر الدين، أما الدين نفسه فهو كامل أبداً منذ آدم وحتى النبى، فأسباب النزول أهم إثبات لتفاعل القرآن مع الواقع، وهو أسمى مكسب عقلى حصلنا عليه نتيجة اجتهاد الفئة المستنيرة العقلانية التى اقتنصته من فئة الحرفيين المتمسكين بظاهر النص، ولكننا ضحينا به للأسف، لنغازل الأصوليين، وننافق السلفيين الوهابيين.

No comments:

Post a Comment