Translate

Monday, August 28, 2017

عاطف بشاى - الفنان الأجير - جريدة الوطن - 28/8/2017

قالت لى يوماً الفنانة الراحلة «مريم فخرالدين» إنه من عاداتها اليومية أن تتصل فى الصباح الباكر بالفنان الكبير الراحل «أحمد مظهر»، الذى قاسمها بطولة الفيلم الشهير «انت من الأحرار يا على» أقصد فيلم «رد قلبى»، وذلك للاطمئنان الدائم عليه فتبادره: «بونجور يا برنس».. فيرد عليها: «بونجور يا إنجى» (وهما اسماهما بالفيلم).. ثم تسأله عن أخباره فيقول لها فى أسى إن المخرجين والمنتجين أصبحوا يعزفون عن إشراكه فى أفلامهم -بسبب كبر سنه- خوفاً من رحيله أثناء التصوير، فيتسبب لهم فى مشكلة إنتاجية.. لذلك فقد نصحته بأن يكون واقعياً وأن يوافق على العمل «باليومية» مثلها.. سألتها: وماذا كان رد فعله؟!.. قالت: «أتصور أن سماعة التليفون قد وقعت من يده.. فقد سمعت صور ارتطامها وانقطع الصوت»..
وقد رشحتها لتلعب دوراً مهماً فى مسلسل من تأليفى وبطولة «فريد شوقى» و«سناء جميل» هو «الشباب يعود يوماً».. فجاءت إلى الاستوديو أثناء التصوير للاتفاق.. وحينما تقدم منها مدير الإنتاج ومعه العقد لتوقعه فوجئنا بها تقول له: «مالوش لزوم العقد.. المسألة أبسط من كده بكتير.. شوفوا انتم عاوزين كام يوم ونتفق على أجر اليوم.. تدفعوه لى وأنا مروحة كل يوم بعد التصوير..»، ففغر مدير الإنتاج فمه فى ذهول غير مصدق ما تقوله، وكان قد ارتدى أفخر ملابسه وصفف شعره وتعطر ببرفان ثمين، ليكون فى شرف استقبال حسناء الشاشة زهرة الرومانسية فى الزمن الجميل.. «والشعر الحرير على الخدود يهفهف» والتى لم تنسَ أن تؤكد له مرددة: «بس بشرط لازم تجيلى البيت قبل التصوير بيوم (تبيت علىّ) ومعاك ألف جنيه عربون».
وقد بررت لى سلوكها هذا موضحة: «أنا ونجوم جيلى شبعنا نجومية.. ولن نخسر هذه النجومية الآن بسبب دور صغير.. أو أجر هزيل أو يومية مثل الأجراء أو عمال التراحيل، لو تعنتنا وفرضنا شروطنا لن يلتفت لنا ولن نعمل.. لأن السينما المصرية لا تحترم ولا تقدر إلا النجوم..».
لذلك فقد كان ذكاء فريد شوقى الذى أبقاه نجماً يفرض نجوميته على صناعة السينما المصرية -رغم تقدمه فى السن- أنه كان ينتج أفلامه ومسلسلاته بنفسه بل يقوم بتأليف قصصها.
والحقيقة أن حتى هذا الحل الذى لجأت إليه «مريم فخر الدين» بالعمل باليومية ليس دائماً حلاً مرضياً.. أو آمناً.. وأذكر أن الفنانة «نعيمة الصغير»، التى كانت تعمل بنفس هذا النظام، اتفقت على القيام بدور أم فى فيلم بأجر خمسة آلاف جنيه لخمسة أيام تصوير.. فقد تم خداعها، بسبب أنها لا تقرأ ولا تكتب، فلم تنتبه إلى أن المخرج قام بتصوير دورها كله فى يوم واحد.. ولم تحصل إلا على ألف جنيه فقط.. كانت قد اشترت بهم ملابس للدور..
أكتب ذلك اعتراضاً على ما كتبه الصديق الناقد «طارق الشناوى» فى «المصرى اليوم» مستنكراً حالة الغضب التى انتابت الفنانين الكبيرين «يوسف شعبان» و«محمود الجندى»، وهو ما دفعهما لإعلان اعتزال الفن ضد القواعد المجحفة للوسط الفنى الذى لا يراعى حقوق الكبار.. ويعلق على ذلك بجملة: «لا تبصق فى بئر شربت منها يوماً.. فقد تعود لها يوماً ما»، وأردف: «سوف أفترض أنك لن تعود أبداً إليها.. فهل تتنكر لمن كان يوماً مصدر حياتنا ورزقنا؟!».
الغريب أن طارق أورد بنفسه مثالاً مؤلماً للإجحاف والجحود.. والإقصاء الذى تعرض له الفنان «عماد حمدى» حينما صرخ عندما كان مطلوباً من المخرج «حسام الدين مصطفى» حذف (20) دقيقة من فيلم «سونيا والمجنون»، فتخلص تقريباً من كل دور «عماد حمدى» ولم يقترب من أدوار «نجلاء فتحى» و«محمود ياسين» و«نور الشريف»، وعندما عاتب المخرج قال له: الناس تقطع التذكرة من أجل «نجلاء» و«محمود» و«نور».. هذا وقد علق على ذلك «عماد حمدى» وهو يروى ذكرياته عن أحوال السينما والفن فى بلادنا للناقدة «إيريس نظمى» فى ذلك الوقت قائلاً بمرارة: «لقد أدركت فى تلك اللحظة أن عماد حمدى قد انتهى!».
إن ما تسميه يا عزيزى «طارق» تنكراً لا يجوز فى حق من «منحكم يوماً الحياة والحضور والتاريخ» معلناً أنك لا ترضى بأن يغادرا الحياة الفنية على طريقة «يا رايح كتر من الفضايح» فإنهما لم يتنكرا أو يبصقا على الفن، بل عبرا عن استيائهما لسوء التقدير ونكران إبداعهما.. فكما أعطاهما الفن احتفاء بنجومية بازغة فى شبابهما فقد منحاه عصارة إبداعهما وذوب نفوسهما واحتراق أعصابهما وكل حياتهما..
إنه ليس تنكراً بل ألم ممزوج بالأسى والحسرة لقسوة الزمن الضنين وغلظة قلوب المحتكرين.. وسوء أحوال الفن الهابط الذى يركز على تيمات مستهلكة لأفلام تجارية مسفة تعتمد فى بطولتها على سيناريوهات تافهة تفصل خصيصاً لشباب متواضعى الموهبة ولا تحمل سوى أسمائهم.

No comments:

Post a Comment