Translate

Tuesday, December 19, 2017

خالد منتصر - قصيدة عشق سينمائية لفان جوخ - جريدة الوطن - 19/12/2017

«الموت ليس أكثر الأشياء قسوة على الفنان»، هكذا كتب فان جوخ فى رسالته لشقيقه ثيو قبل انتحاره، أطلق الرصاص على بطنه الخاوية هارباً من المجتمع الأكثر خواء الذى كانت قسوته فى الإهمال واللامبالاة الأقسى من الموت، مات وسط «باليتة» لونه المحبب، الأصفر، حيث الشمس وحقول القمح، لم يفسد صفاء الأصفر الذهبى إلا الغربان السود، كانت تلك الجملة السكين هى أيضاً «فينالة» فيلم فان جوخ الساحر «loving vincent»، خرجت من الفيلم فى حالة انتشاء وشجن وسعادة، فيلم مختلف يغسل الروح والوجدان، على المستوى السينمائى هو مظاهرة حب من عاشقى فان جوخ، معجزة أنيميشن تحتاج إلى صبر وجهد والأهم إلى غرام بهذا الفنان الاستثنائى حياة وفناً، واقتناع حتى النخاع بأنه مرحلة فاصلة ومهمة فى تاريخ الفن، إنتاج بولندى إنجليزى و100 رسام خاضوا تجربة رسم وتلوين 6000 لوحة مستحضرين روح وأسلوب فان جوخ فى كل لقطة، الأهم من دقة الفوتوغرافيا النفاذ إلى جوهر هذا العبقرى البائس، لمس قبس النبوة وطهارة القديسين التى تسكن جسد هذا المتمرد الحزين والمغامر المقامر الذى بدأ الرسم فى سن الثامنة والعشرين ومات فى السابعة والثلاثين!، بين تلك الرسوم تطل مشاهد الفلاش باك بممثلين حقيقيين ولكن، وهذا هو سحر الفيلم، هؤلاء الممثلين وكأنهم يخرجون إلينا متحررين من إطارات لوحاته ويتحركون بلمسة ريشته السحرية، كل هذا من خلال قصة وحبكة شبه بوليسية، من خلال بحث ابن ساعى البريد صديق فنسنت الذى يريد توصيل رسالة كتبها فان جوخ إلى شقيقه ولم تصل، من خلال رحلة البحث تلك ومن خلال شاب لم يكن مقتنعاً بأهمية وتأثير فان جوخ، تظهر ملامح بورتريه هذا العبقرى صاحب الشعر الأحمر رويداً رويداً، يصله فى البداية خبر رحيل شقيقه ثيو الذى لم يتحمل فراقه فمات بعد ستة شهور فقط من دفن فان جوخ فعرف أن محطة وهدف الرسالة قد غاب، بدأت رحلة البحث بتاجر اللوحات فى باريس الذى يحكى له خصام فنسنت مع الدقة الأكاديمية ولوم التقليديين له على لوحاته التى كانوا يجهلون أنه يشق درباً جديداً بها سيجعله «أبو الفن الحديث»، إلى صاحبة الفندق الذى عاش فيه وشهد وفاته والتى حكت له كيف كان غريب الأطوار يعيش لالتقاط اللحظة الفنية فقط ولو غرق تحت المطر ولو كان الثمن حياته، إلى المراكبى الذى شهد تسكع فنسنت مع أصدقائه التافهين الذين لا يستحقونه، إلى طبيبه جاشيه الفنان الكلاسيكى الذى عاش صراعاً بين الحب لهذا الإنسان الضمير وبين الغيرة من هذا الفنان البوهيمى المتمكن الذى يشبه المتسولين، وابنته التى عشقته وفهمت سحره وسره، إلى طبيب آخر صارحه بتشككه فى أن فان جوخ مات مقتولاً لا منتحراً من اتجاه الرصاصة واختفاء المسدس وأدوات الرسم... إلخ، بعد تلك الرحلة عرف هذا الشاب ابن الصديق ساعى البريد، الذى كان غير مكترث بمجنون يسمى فنسنت فان جوخ، عرف وتأكد من أن هذا الجنون كان موهبة لم يتحمل وهجها هذا المجتمع الكسول فاتهم صاحبها بأبشع التهم، ورفعوا عليه البلاغات، وضربه الأطفال بالحجارة، رسم 800 لوحة فى تلك السنوات التسع، لم تكتب عنه إلا مقالة نقدية واحدة ولم يبِع إلا لوحة واحدة، وعندما أحس بأنه صار عبئاً مادياً على شقيقه الذى تتكدس لوحاته عنده راقدة بلا حراك لا يشتريها أحد، قرر الانتحار، قال لطبيبه جاشيه «هذا أفضل للجميع»، كان يعطى بلا حساب، يمنح منزله الأصفر الذى اشتراه بكل ماله إلى الرسامين لكى يمارسوا هوايتهم وجموحهم وجنونهم فيه، شاركه جوجان فى المنزل ثم هجره بعد مشاجرات وإهانات استغل فيها جوجان تمسك فان جوخ به واحتياجه إليه ليعالج وحدته الخانقة، استغل ذلك ليجرحه أكثر، منح أذنه المقطوعة إلى راقصة فى ملهى، منح حبه وحياته للفقراء البؤساء من عمال المناجم وفلاحى الحقول المساكين ومتسولى الشوارع الذين يتحايلون على الحياة، حتى فتاة الليل الغانية نظر إليها نظرة تعاطف وشفقة، مات ألماً من الناس وهو الذى ذاب عشقاً للناس وعاش محارباً جريحاً يعطيهم فناً ليخصم ألماً من رصيد حياتهم الضنينة البخيلة المضنية، طلب فى النهاية مطلباً بسيطاً «أحبونى مثلما أحببتكم».

No comments:

Post a Comment