Translate

Tuesday, December 26, 2017

خالد منتصر - دقات جنائزية على دفوف الستينات - جريدة الوطن - 27/12/2017

رحل صلاح عيسى، كبيرنا الذى علَّمنا سحر الكتابة، منحنا بعض السر والشفرة، منحنا البعض، ليس عن بخل منه ولكن عن تقصير منا، مهما كان الموضوع تاريخاً أو فلسفة أو نقداً لفيلم أو قصاً لطرفة، فلابد من أن تكتب بجاذبية، لا بد أن تمسك القارئ وتحاصره وتقبض عليه من أول جملة، ولابد أن تكون الكتابة كتابتك أنت، والبصمة بصمتك أنت، بحيث لا يحتاج مقالك إلى توقيع ليعرف القراء من هو كاتب المقال من أول سطر، هو روائى ضلَّ طريقه إلى الصحافة، وصحفى طوَّع التاريخ بحيث صار سرده لذة وحكايته متعة وأعقد أحداثه ملحمة تتفوق فى مغناطيسيتها على ملحمة سيف بن ذى يزن وسيرة أبى زيد الهلالى، سخريته دامية موجعة وجديته بسيطة نافذة، عندما قابلته وأنا فى المرحلة الثانوية فى جريدة «الأهالى» أعرض عليه مقالاً ساخراً لنشره فى زاوية «الإهبارية»، تلك الزاوية الكوميدية الرهيبة التى اخترعها والتى كانت إحدى البذور الجنينية المهمة لكل صور الساركازم البرامجى الذى اكتسح الفضائيات بعد ذلك، استقبلنى وكأننى «التابعى» ونشر ما كتبته بعدها بأسبوع، وظلت العلاقة حتى طلب منى الكتابة فى جريدة «القاهرة»، كتِّيب حرفجى صنايعى أرابيسكى صبور مثابر من الطراز الأول، لم يحصل على درجة الدكتوراه فى التاريخ ولكن كتابه عن الثورة العرابية صار أهم مرجع عن تلك الفترة لكل من يتقدم لنيل الدكتوراه فى التاريخ الحديث، يغمس قلمه فى الشريان لا الحبر، ينتقى كلماته من أصداف اللآلئ لا من صفحات المعاجم، قرأت كل ما كتب تقريباً لكن أصارحكم أن المقال الأول الذى سحرنى لدرجة أننى أعدت قراءته عشرات المرات وعرفنى من هو صلاح عيسى، كان مقالاً فى عدد مجلة «خطوة» غير الدورية، الذى كان مخصصاً لرثاء كاتب القصة الرائع يحيى الطاهر عبدالله، المقال نادر وصعب الحصول عليه ولا يوجد على «جوجل» لكنه محفور فى القلب والذهن، عنوان المقال الأيقونة هو «دقات جنائزية على دفوف الستينات»، فى الحقيقة كان «صلاح» لا يرثى «يحيى» بل كان يرثى نفسه، وعلى مستوى الشكل كان المقال مدهشاً بتضميناته القصصية من جمل وعبارات يحيى الطاهر، المقال شحنة كهربية لا يمكن أن تكون بعدها نفس الشخص، مقال سوط يجلد ويجرح ويدمى، وصوت يلوم ويؤنب ويغسل الروح، سأنقل لكم بعض المقتطفات من هذا المقال الأيقونة الذى كتب فيه صلاح عيسى نعيه قبل الأوان وقبل وفاته بثمانية وثلاثين عاماً:
مات الطاووس المشاغب، أمير الحكى ونديم الحى، المتقمص العظيم، المتلون كالطيف، المتعدد كريش الطاووس، الغماز، اللماز، الهجاء، الغضوب، المتشاجر مع ذباب وجهه، طفل البرارى، ابن الموت الذى عمل لدنياه كأنه يموت غداً، كانوا قد ذهبوا بالمشاعل وحين تقدمت إلى القبر كان إسكافى المودة ينتحب فى الظلام، سألته:
- ألا يأتى على هذا الوطن يوم نجد أمامنا خياراً رابعاً غير الموت والهجرة والزنازين؟!.
من دنيا السوق أنا قادم، بصحبتى شهودى، أسماء الطوق والأسورة وأسماء ابنتى، وأسماء أمى، وأسماء بنت أبى بكر، وسميى سيئ السمعة عبدالفتاح يحيى باشا بطل الانقلاب الدستورى، ورأس يوحنا المعمدان، وشاهد من جيلى كلمته نصف نصف اسمه صلاح عيسى.
حين كان الزمن حرباً ولدنا، فدونوا فى خانة الظروف المخففة أننا من جيل كان رضيعاً يوم خرج آباؤه يسألون عن الخبز، ويرحبون بـ«روميل» فما ظهر الخبز وما تقدم روميل، وقد تسألون: أثمة علاقة بين الخبز وروميل؟، فأقول: كالعلاقة بين عم الطاهر عبدالله وعبدالفتاح يحيى باشا، هى الحرب سادتى، تختل فيها الأوضاع وتنعكس الطباع، كما قال شيخنا الجبرتى.
نحن كنا نحلم، دفعنا أهلونا إلى الكتاتيب لعلنا نفلح فنسند ظهورهم التى أحنتها الحرب، نرتدى البنطلون والـ«زاكتة»، ونضع على رؤوسنا طربوشاً يقينا ضربة الشمس، ونتقاضى آخر الشهر مرتباً ثابتاً، كنا نحلم بخبز المدينة الطرى وبالطعمية والحلاوة الطحينية، وفى الذاكرة صور للسياط التى تكوى الظهر والنساء اللواتى متن قهراً وجوعاً، والجدة التى تروى الأساطير، والراوية الذى يغنى على الربابة، وحين زحفنا من القرى الشقوق إلى المدن الكبيرة لم تمنعنا عساكر الهجانة، جئنا فى الدرجة الثالثة لأنه لا توجد درجة رابعة بالقطار، على ظهورنا قفف البتاو وزلع المش والأرز المعمر بلا شىء، تسربنا فى الغرف السطوحية فى الحارات الخلفية، نقرأ كتباً مدرسية وكتباً صفراء، وكتباً بيروتية، والدنيا قد تغيرت.
نحن فى واقع الأمر عينة صالحة لدراسة أثر القهر على الأدب والفن والمهم على الإنسان، فنحن كنا مطاردين من الداخل، بأحلام أهلنا أن نصبح أفندية، بذكريات الوباء والهزيمة، بكتب قرأناها، برفاق حلمنا بهم، بعجز يمنعنا أن نكون من الشعب حقاً، مطاردين من الخارج بالمخبرين وأصحاب العمارات ورؤساء تحرير الصحف ومقالات هيكل وسياط ضباط المباحث فى معتقل القلعة، وحلقتنا المسكينة التى لم تزد عنا نحن، ولم تمنحنا الإحساس بأننا رفضنا ما يجرى، وعجزت أو عجزنا نحن أن نمدها للشعب الذى نحلم به ونفكر فيه.

No comments:

Post a Comment