Translate

Sunday, January 29, 2017

د. عماد جاد - الديمقراطية الاجتماعية - جريدة الوطن - 29/1/2017


الديمقراطية الاجتماعية هى صيغة تمزج ما بين اقتصاد السوق والعدالة الاجتماعية، وهى صيغة ساعدت اليسار فى أوروبا، وتحديداً الشمالية (الاسكندنافية) على تجاوز محنة فشل النظم الاشتراكية فى شرق ووسط أوروبا، ومكنتها من الاحتفاظ بجوهر الفكر الاشتراكى، لا سيما فكرة العدالة الاجتماعية دون صدام مع اقتصاد السوق الذى بات الصيغة المهيمنة حتى فى الدول الشرقية، بل فى الدول التى لا تزال ترفع الشعارات الاشتراكية كالصين مثلاً، والتى تتحدث اليوم عما تطلق عليه «اقتصاد السوق الاشتراكى».
الديمقراطية الاجتماعية هى صيغة تمزج بين جوهر الفكر الاشتراكى، وهى فكرة العدالة الاجتماعية، واقتصاد السوق، وتعنى بالأساس تحقيق العدالة الاجتماعية فى نظام يعمل وفق آليات السوق ويعتمد بشكل أساسى على القطاع الخاص. والديمقراطية الاجتماعية وفق هذه الرؤية إنما تمثل محاولة للتغلب على مساوئ اقتصاد السوق، وذلك عبر الأخذ بيد الفئات الضعيفة فى المجتمع، وتتمثل العدالة الاجتماعية هنا فى أربعة مكونات أساسية هى مسكن صحى مناسب، تعليم مجانى جيد، علاج مجانى وأخيراً حد أدنى للأجور. الديمقراطية الاجتماعية تقول إن هذه المكونات الأربعة إنما هى حقوق لغير القادر تجاه الدولة، وهى التزامات من الأخيرة تجاه الفئات الضعيفة فى المجتمع، ومن ثم فهى تختلف جوهرياً عن فكرة «المن أو العطاء» الذى يُقدّمه الأثرياء للفقراء، فالأخيرة تمثل مساعدة من الغنى للفقير وضمن مشروع خاص بمن لديه القدرة على العطاء والرغبة أيضاً، أما الديمقراطية الاجتماعية فتغطى الاحتياجات الأساسية للمواطن من قِبَل الدولة، ومن ثم فالأمر لا يندرج ضمن «سياسة المن، المنح أو العطاء» بل ضمن سياسات الدولة والتزاماتها تجاه مواطنيها.
عموماً، تطورت الديمقراطية الاجتماعية فى دول شمال أوروبا، وقدّمت صيغة مناسبة تماماً لطبيعة هذه المجتمعات التضامنية، وكانت مناسبة أيضاً لمجتمعات وفرة ورفاه. وعندما بدأت دول أمريكا اللاتينية عملية التحول من نظم سلطوية واستبدادية، ومن نسخة مشوّهة من اقتصاد السوق، اتبعت النموذج الاسكندنافى «الديمقراطية الاجتماعية»، التى قدّمت للدول اللاتينية حلولاً لجميع المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية، وإذا كانت الديمقراطية الاجتماعية قد نجحت فى مجتمعات وفرة ورفاه كالمجتمعات الاسكندنافية، فإنها حققت نجاحاً باهراً فى عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية، وعلى رأسها البرازيل، ففى سنوات لولا دا سيلفا الثمانى تحولت البرازيل من دولة مثقلة بالديون إلى دولة دائنة لصندوق النقد الدولى، من دولة متخلّفة إلى ثامن أكبر اقتصاد فى العالم، من دولة تتعثّر على طريق الديمقراطية إلى نظام ديمقراطى مستقر. حقّقت البرازيل القفزة الكبرى بعد أن أخذت بالديمقراطية الاجتماعية، فعالجت أولاً مشكلة الفقر والفقراء، المشرّدين وسكان مدن الصفيح. وإذا كانت دول لاتينية أخرى أعلنت اتباع الديمقراطية الاجتماعية، ولم تُحقّق الإنجاز الذى حققته البرازيل على جميع المستويات، فإن مرجع ذلك هو الإيمان بالأفكار الخاصة بالديمقراطية الاجتماعية، لا سيما قيمة ومبدأ العدالة الاجتماعية، ووجود القيادات المؤمنة بهذه الأفكار، ومن ثم تسير قدماً على طريق تطبيق الأفكار والمبادئ، أيضاً لا بد من تعاون الرأسمالية الوطنية مع النظام السياسى فى تطبيق أفكار العدالة الاجتماعية، لأن التطبيق يتطلب موارد مالية ضخمة فى مراحله الأولى، ومن ثم لا بد من صيغة ما يقدم من خلالها رجال الأعمال والأثرياء مساهمات معقولة تمكن الدولة من تطبيق مكونات العدالة الاجتماعية.
فى تقديرى، أن مصر فى المرحلة الحالية فى حاجة ماسة إلى الأخذ بالديمقراطية الاجتماعية والأخذ بيد الفئات الضعيفة فى المجتمع فى المجالات الأربعة الرئيسية التى تمثل جوهر قيمة العدالة الاجتماعية، وهى مسكن صحى مناسب، تعليم عام جيّد، رعاية صحية مجانية وحد أدنى للأجور، وتزداد الأهمية فى ظل عمليات التحول الاقتصادى وتحرير سعر الصرف وما ترتب عليه من ارتفاعات كبيرة فى الأسعار، وتدهور أوضاع الفئات الضعيفة فى المجتمع وتأثر قطاع واسع من الطبقة الوسطى.

No comments:

Post a Comment