Translate

Wednesday, November 2, 2016

خالد منتصر - لحظات الونس مع ذكريات عمرو عبدالسميع - جريدة الوطن - 2/11/2016

كثيرون يولدون فى أسر فنية ومحيط أدبى وصحفى، لكن القليل منهم من يستفيد ويهضم ويتمثل ويحوّل هذه المنحة الإلهية إلى إبداع، من ضمن هؤلاء الكاتب الصحفى الفنان عمرو عبدالسميع الذى واتته فرصة ذهبية للعيش فى بيت كان يتنفس أوكسيجين الفن والإبداع وحوارات السياسة والسينما والشعر والمسرح. تخيلوا طفلاً فى صالون رسام الكاريكاتير الشهير عبدالسميع يستمع إلى أحمد بهاء الدين وإحسان والشرقاوى والخميسى وجاهين.. إلى آخر هذه الكوكبة التى تغنيك عن مجلدات الدنيا، يتشكل وعيه طفلاً فى ردهات «روز اليوسف» وقاعات المتاحف وصالات السينما، ثم شاباً فى إنجلترا وأمريكا، حيث عمل مديراً لمكتب الأهرام هناك، كل هذه التجارب وغيرها جعلت حياة عمرو عبدالسميع سلسلة حيوات ثرية عمرها ألف عام، لذلك انتظرت كتابه «بعض من ذكريات» على أحر من الجمر والتهمته فى ساعتين، للأسف معارك عمرو السياسية، قاتل الله السياسة، حجبت عن القراء جوانب إبداعية وزوايا فنية فى كتاباته، خاصة فى مجتمع يهوى التصنيف السياسى والقولبة الحزبية. ولأننى ضعيف تجاه الإبداع والكتابة الرشيقة، عندما أقرأ كتاباً أشطب من قاموسى وذاكرتى أى تصنيفات مسبقة ينقلها لى عابر سبيل عن كاتب أو فنان، الترمومتر عندى هو الإبداع وطزاجة وبكارة الأسلوب وتفرد اللغة. وكتاب عمرو عبدالسميع فيه كل هذه الصفات، لغة جميلة وأسلوب جذاب وخفة دم وروح سخرية لاذعة وحراقة ومصرية جداً، والأهم نفاذ البصيرة وعمق التحليل والرؤية الشاملة فى حواراته مع تلك الشخصيات العبقرية العملاقة التى أحسده شخصياً على أنه قد عاش معها وحاورها وجلس إليها واستمتع بالاقتراب من محرابها وتعطر برؤيتها. غرض الكتاب، كما قال فى المقدمة، هو استدعاء الونس فى زمن الجفوة والتصحر الوجدانى، حوالى عشرين شخصية كل منها يستحق موسوعة حوارات. لدى عمرو مفتاح سحرى يحل به «باسوورد» الشخصية ويفك شفرتها المستعصية، فالإبحار فى أمواج وأنواء وعواصف تلك الشخصيات العميقة ذات الشواطئ الصخرية المدببة والتى لا تمتلك إليها طرقاً معبّدة ليست بالمهمة السهلة، يحدّثنا عن الوقت المناسب لعبدالوهاب وكيف تتسلل إلى هذا الفنان الموسوس، يستقبل حمم بركان يوسف إدريس التى تنير وتصهر معانى مدهشة عليها الختم الإدريسى المتفرد الذى لا يتكرر، خاصة فيما قاله عن الفرق بين حب المرأة الذى هو كل حياتها وحب الرجل الذى هو بعض حياته، يبكينا حين يتحدث عن جلطة أحمد بهاء الدين التى غيّبت هذا العقل الجبار وحرمتنا من منارة وبوصلة كانت تهدى الحيارى فى زمن التيه، حين نعرف أنها كانت نتيجة تقاعس أصدقاء مثقفين عن مشاركته بياناً رافضاً لهجرة اليهود السوفيت إلى فلسطين. يدخل دوامات النفس البشرية بدروبها الملتوية المعقدة كالمتاهة ليشرح لنا كيف تجنبت سعاد حسنى الظهور أمامه وتعمدت التخفى والهروب، سعاد توقف بها الزمن عند «زوزو» وكانت ترغب فى أن يحتفظ عمرو وغيره بصورة زوزو فى الذاكرة، نقل لنا مرارة إحسان من مرض التصنيف النقدى المصرى القاسى حين طُرد من جنة الكتّاب الثوريين اليساريين موضوعاً محنطاً فى إطار أديب الفراش، رسم لنا بورتريه صلاح جاهين الراقص المكتئب والحالم المحبط والشاعر الذى انتهت حياته مكسورة الوزن.
كتاب «بعض من ذكريات» مكتوب بحرفنة ومزاج وحب وعشق لساكنى صفحاته من الشخصيات التى شكلت وعى وتاريخ مصر.

No comments:

Post a Comment