Translate

Saturday, December 17, 2016

د. عماد جاد - كيف ولماذا يصير الإنسان متطرفاً؟ (٣) - جريدة الوطن - 18/12/2016

يولد الإنسان بريئاً، ويخرج إلى العالم عبارة عن صفحة بيضاء، بل ناصعة البياض، ويبدأ محيطه الجغرافى فى ملء ذاكرته، تبدأ الأسرة أولاً فى غرس الأفكار الأساسية، وتدريجياً تبدأ فى تلقينه مبادئ الدين، ثم تقدم له صورة عن مجتمعه والعالم، وتقدم له شرحاً مبسطاً لكل ما حوله من بشر وحجر، ثم تتلقفه المدرسة فيبدأ عالمه فى النمو والتطور، وتقدم له تصورات مبسطة ومكثفة عن مناحى الحياة المختلفة، وفى المدرسة يتلقى التعاليم الدينية فى حصة الدين، وهنا تبدأ مداركه فى الاتساع، وتقدم له تصورات عن ذاته، هويته، وعن الآخر وطبيعته. وحسب ما يتلقى الطفل من تعاليم تتشكل رؤيته للذات والآخر، وفى تلك المرحلة أيضاً يبدأ فى تلقى الدروس والتعاليم الدينية، وهنا ما يقوله له رجال الدين يشغل حيزاً مهماً فى الذاكرة، ويلعب دوراً مهماً فى تحديد طبيعة القيم والمبادئ التى يحملها تجاه الآخر والعالم، وبمرور الوقت تبدأ الشلة أو الأصدقاء فى الظهور ولعب دور فاعل فى حياة الإنسان، كما أن وسائل الإعلام المختلفة تمارس دورها فى التأثير على تكوين الفرد الفكرى.
عادة ما تلعب هذه الأدوات المختلة (أدوات التنشئة) دوراً متكاملاً، إذ إن النظام الحاكم بيده خيوط عدة، فهو من يصيغ مناهج التعليم، والمفترض أنه يوجه الرسالتين الدينية والإعلامية، ومن ثم تأتى الأدوار الأخرى لتتكامل أو تتقاطع أو تتصادم مع الخطوط العامة لأدوات التنشئة المختلفة.
ومن المهم التوقف هنا عند طبيعة النظام التعليمى السائد فى البلد، هل هو تعليم واحد أم أكثر من نظام تعليمى؟ هل هناك تعليم دينى مغلق على أصحاب ديانة أو طائفة واحدة، أم أن التعليم مدنى بالكامل؟ هل هو تعليم عام فقط، أم هناك تعليم خاص ودولى لا يخضع للإشراف العام لوزارات التعليم والتعليم العالى؟ وكلما كان التعليم مدنياً خالصاً ويخضع لمنظومة واحدة ويقع تحت إشراف الدولة، أمكن ضبط العملية التعليمية لضمان توحيد ما يتلقفه النشء، عكس الحال عندما يكون هناك أكثر من نظام تعليمى، وتحديداً عندما يكون هناك نظام تعليم دينى مغلق يقوم بتشكيل الأتباع عبر رؤية ذاتية مغرقة فى السمو والعلو، مقابل رؤية للآخر تتسم بالدونية والحط من القدر.
المؤكد أنه حسب ما تنقش فى صفحة الطفل البيضاء، يأتى الحصاد، فنشر قيم المحبة والتسامح وقبول التنوع والتعدد والاختلاف، وتقديم صورة متحضرة وراقية عن الإنسان كإنسان بغض النظر عن لونه، دينه، طائفته، عرقه وجنسه، يعنى أننا نبنى إنساناً متحضراً مقبلاً على الحياة، محباً لها يقوم بمهام الإعمار فى الأرض، يتفوق فى العلم والبحث العلمى، يفصل بين العلم ونظرياته وطبيعته التجريبية وبين الميتافيزيقيا وطبيعتها الإيمانية التسليمية باعتبارها تمثل ما وقر فى القلب من إيمان وتسليم، نبنى إنساناً يستمتع بحياته وفق ضوابطه الأخلاقية والقيمية، يشع حباً على من حوله فيكون لبنة فى مجتمع متطور يحترم العلم ويقدر القيم الإنسانية الراقية من خير، صدق، عدل، مساواة وقبول للتنوع والتعدد والاختلاف.
أما حشو الأفكار الخاصة بالسمو والرقى والتفوق على ما عداه من بشر لاعتبارات موروثة بسبب العرق أو الدين أو اللغة والطائفة، الإغراق فى الميتافيزيقيا ومحاولة تطويع العلم لخدمتها والبحث باستمرار عما يثبت سلامة الإيمان، البحث عن دليل وبرهان عملى يثبت سلامة الاعتقاد، الدفع باتجاه تكليف الفرد بمهام تمثل اغتصاباً لمهام الدولة ووصاية على البشر، كل ذلك ينتج مجتمعاً مغرقاً فى التدين الشكلى، مجتمعاً يذهب ضحية منظومة متكاملة من أدوات التنشئة التى تقود إلى فرد يبحث عن خلاصه الذاتى على حساب الآخرين والمجتمع.
ماذا عن حالنا فى مصر؟

No comments:

Post a Comment