Translate

Tuesday, December 6, 2016

د. عماد جاد - المؤسسية - جريدة الوطن - 6/12/2016

تقاس درجة تطور المجتمعات بدرجة المؤسسية السائدة فى التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمؤسسية Institutionalization تعنى أن المؤسسة تعلو على الأفراد، وأن تصرفات الأفراد، وسلوكياتهم، وقراراتهم تأتى فى سياق القواعد التى تحددها المؤسسات، وأن تفاعلات المؤسسات مع بعضها البعض تتحدد وفق مواد دستور البلاد. تتحقق المؤسسية الكاملة فى الدول كاملة الديمقراطية مثل فرنسا، بريطانيا، ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ويسود الفرد ويتفوق الأفراد فى الدول غير الديمقراطية (نموذج كوريا الشمالية، كوبا وغيرهما فى عالم اليوم) وتتوزع دول العالم بين هذين الحدين، ما بين المؤسسية والفردية، وغنىّ عن القول إنه كلما اقتربت التفاعلات فى دولة ما من الدول من الفردية، كان ذلك مؤشراً على تراجع الدولة على مقياس الديمقراطية، والعكس صحيح، أيضاً كلما اقتربت تفاعلات الدولة من المؤسسية، كان ذلك مؤشراً على ابتعاد الدولة عن الفردية واقترابها من الديمقراطية.
المؤسسية تعنى أن القواعد والقوانين لها الغلبة على الأفراد، وأن هذه القواعد وتلك القوانين هى التى تحكم سلوك الأفراد وتفاعلاتهم، وتحدد فى الوقت نفسه مساحة الحركة المتاحة للفرد أياً كان موقعه، (مؤسسة أقوى من الفرد)، ويقاس انضباط والتزام الموظف العام أياً كان موقعه بالتزامه بقواعد المؤسسة وضوابطها، وفى حال إخلال الفرد بالقواعد والقوانين تجرى محاسبته من قبل المؤسسة المعنية، (تم إجبار الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون على الاستقالة لأنه أمر بالتجسس على حملة الحزب الديمقراطى فيما عُرف بفضيحة ووترجيت. أيضاً تجرى محاولات اليوم لإقالة رئيسة كوريا الجنوبية لأنها أصدرت قرارات مجاملة لصديقتها).
لا تتحقق المؤسسية دفعة واحدة أو على نحو مفاجئ، بل تتحقق تدريجياً، بمعنى أنه يتم أولاً إرساء الأساس فى دستور البلاد ثم يجرى تطبيق الدستور على الجميع، وفى نفس الوقت يكون هناك حرص شديد من المسئولين بدءاً برئيس السلطة التنفيذية مروراً بكبار الموظفين العموميين على الالتزام بالدستور واحترام القانون، وفى الوقت نفسه تكون هناك متابعة من الجهات التى حددها الدستور لأداء الأجهزة المختلفة، ويجرى تمكين هذه المؤسسات من أداء أعمالها الرقابية.
وغنىّ عن القول إن الدول غير الديمقراطية أو التى بدأت رحلة التحول الديمقراطى تكون مشكلتها الأساسية مع السلطة التنفيذية بالأساس، فهذه السلطة اعتادت التغول على صلاحيات السلطات الأخرى، وتحديداً التشريعية والقضائية، واعتادت استخدام ما لديها من أدوات ثواب وعقاب، جزرة وعصا، على تطويع أعضاء من السلطتين التشريعية والقضائية، وتوظف السلطة التنفيذية مكوناتها، لا سيما أذرعها الأمنية، فى إعاقة المؤسسية، ولديها «فورمات» أو عبارات جاهزة مسبقاً تستخدمها لهذا الغرض وعلى رأسها مقتضيات «الأمن القومى» للبلاد، والتى باتت تستخدم كثيراً فى مواجهة دعاوى التطور الديمقراطى والمؤسسية.
المؤكد أن التاريخ سوف يسجل بأحرف من نور كل مسئول أو حاكم يعمل على احترام مبدأ الفصل بين السلطات ويرى فى المؤسسية ما يدعم تجربة التحول الديمقراطى فى بلاده، أما من يقاوم هذا التوجه فسوف يسجل فى التاريخ باعتباره من أضاع فرصة تاريخية وفضل انفراده بالسلطة على حساب ترسيخ المؤسسية ووضع بلاده على طريق التحول الديمقراطى.

No comments:

Post a Comment