Translate

Saturday, December 17, 2016

خالد منتصر - «يوم للستات».. هل الجسد مشكلة أم حل؟ هل هو طاقة بهجة أم كهف خوف؟! - جريدة الوطن - 18/12/2016

«الخوف لا يمنع الموت ولكنه يمنع الحياة» عبارة عبقرية عن الحياة قالها من نتهمه بخدش الحياء نجيب محفوظ، عبارة تجسدت أمامى وأنا أشاهد مستمتعاً فيلم «يوم للستات»، هل نحن أحياء فعلاً وبجد أم أننا جثث تتنفس؟، هل نظرتنا للجسد يلخصها «عشق الجسد فانى» وأنه ما هو إلا وعاء ترابى عفن لحفظ الروح السامية المقدسة الجليلة؟، الجسد فى مصر مشكلة بينما هو فى الحقيقة حل، الجسد من المفروض أن يكون طاقة بهجة لكننا حولناه إلى كهف خوف، الجسد نافذة حياة بات على أيدينا سوراً من فولاذ يفصلنا عن الحياة، يوم للستات فيلم يحتفى بالحياة وبالجسد وبالبهجة وبأحلام البسطاء المتواضعة الصادقة، فيلم يعرى زيف ازدواجيتنا وكذبنا ونفاقنا وكلامنا الوهمى عن الدرة المصونة والجوهرة المكنونة التى نناديها بالحرمة ونسب أعداءنا بعورتها ونشبهها بالكلب والحمار خوفاً من أن تخدش ورع صلواتنا!، السينما المصرية التى نشأت برعاية نسائية قررت أن تنصف تاء التأنيث على يد واحدة من أحفاد عزيزة أمير وهى الفنانة إلهام شاهين التى تصدت لإنتاج هذا الفيلم المتميز فى زمن أفلام التيك أواى!، عندما شاهدته تذكرت مشهداً كنت أتمنى تجسيد فكرته سينمائياً وهو مشهد المنتقبة التى تركها زوجها الملتحى على شاطئ البحر ونزل ليعوم ويستمتع بينما هى تزحف رويداً رويداً لكى تفوز بنقطة رذاذ أو شمة يود، فرامل الخجل والحرام تمنعها وإيقاع وغريزة الحياة تشدها كالمغناطيس، كشف الفيلم لى اليوم سراديب هذه السيدة من خلال نماذج مدهشة لنساء وجَّهن المرآة الكاشفة إلى أحداقنا الكليلة المرتعشة لننظر إلى ملامحنا القبيحة بتفاصيلها المرعبة، الفيلم ليس من الأفلام التصاعدية ذات البناء الرأسى والأحداث اللاهثة التى يسلم فيها حدث إلى الآخر الأكثر تعقيداً حتى تأتى النهاية، ولكنه فيلم أفقى إن جاز التعبير وكأنك تشاهد لوحة جدارية عريضة بألوان الباستيل التى ترسم بضربات الفرشاة نقاطاً عنيفة متراصة تتفاعل وتتضفر مشاهدها وشخصياتها لتمنحك فى النهاية وعندما تبتعد إلى الخلف وتتأمل مشهداً عاماً مغرقاً فى الشجن النبيل، مركز اللوحة السينمائية حمام سباحة فى مركز شباب يخصص يوماً لسباحة الستات، يفجر فيهن الحياة التى كادت تغرب شمسها، تستيقظ أجسادهن من غفوة كبت أسود غلف وكلفت تلك النسوة فى توابيت من القماش والعادات والتقاليد والدونية والانسحاق، ستشاهد عجينة من شخصيات نسائية تقتات فتات أحلام من زمن ضنين، منها حلم التحول إلى سمكة حرة طليقة فى الماء، تتفاعل مع أصل الحياة وتتحد مع منبع الكون بدون أغطية أو حواجز أو قوالب سواء من قماشات مصطنعة أو من تحريمات مزيفة، شامية التى جسدت دورها إلهام شاهين ببراعة تعمل موديلاً عارياً للرسامين وهى مهنة ورثتها عن الأم والخالة، مهنة كانت حتى منتصف السبعينات غير مستهجنة حتى اقتحمنا التصحر الوهابى السلفى، تخيل الجميع أن شامية مشروع داعرة بينما هى حرمت نفسها من اللذة الحسية الكاملة لكى تحتفظ بها للحبيب الذى هجرها وسافر إلى الخليج، صاغت وجدانها أغانى عبدالحليم التى بعد أن ذهبت وعانت لشراء منديله الموقع باسمه تمردت وأغلقت الكاسيت لأنه خدعها وأيقنت أن الحب حبيس سماعات الريكوردر ولم يخرج ليمس شغاف قلبها، فى وصفها لنفسها تقول «أنا شوية حاجات عندى موبايل وتلاجة وتليفزيون.. إلخ، لكن أنا إيه أنا شوية حاجات»، اكتشفت أنها فى العمل موديل وفى الحياة أيضاً مجرد موديل!، لا تعيش نفسها بل تعيش الدور المرسوم لها ثابتة ساكنة أمام اللوحة وأمام الحياة، تمر الأيام ويشيخ الجسد وتمضى الحياة تتعامى عن «شامية» وتهملها تاركة إياها لأنياب ومخالب ألسنة الحارة، أهم نموذج مقابل لشامية هو ليلى (نيللى كريم) التى تقف فى محل العطور بعد أن فقدت زوجها وابنها فى حادث العبارة، غطست فى حمام السباحة لكسر الخوف من البحر والماء والتطهر من الألم والذنب، فإذا بالواقع يختلط مع الخيال وتحاول إنقاذ ابنها الشبح فتغرق، بعد إنقاذها تبكى وترقص النسوة «أبلة ليلى عيطت»، فقد ظلت طيلة تلك السنوات متحجرة الدمع تنزف ملح الحزن إلى الداخل ليتكلس ألماً مكتوماً يجرح بحافته المدببة القلب والروح، خرجت نافورة الأحزان فغسلتها، والد ليلى (فاروق الفيشاوى) شخص ضعيف على هامش الحياة غارق فى الحشيش وفى حزنه المزمن، فالابن الذى من المفروض أن يكون سنده وعونه مجرد شاب عاطل سلفى منغلق قاس متعجرف كاره للحياة، كل همه أن يحرم أخته من بيع العطور الحرام ويمنع «شامية» من التدخين الحرام ويمنع الحارة الكافرة من الحياة!، النموذج الثالث «عزة» التى تصفها الحارة بالعبيطة، والتى صار حلمها الوحيد أن ترتدى المايوه فى حمام السباحة، وأن تأكل فى كنتاكى مع حبيبها الميكانيكى، قلب «عزة» ملىء بالنبل فهى تخدم جدتها المقعدة بكل إخلاص ولكن الحارة لا تراها إلا عبيطة ورمزها السلفى لا يراها إلا بائعة هوى لأنها تحب بصدق، ينفجر لأنه ضبطها فى مشروع قبلة، لم يستفزه جوعها وتشردها ومأساتها مع جدتها وفقرها المدقع ومجارى الحارة الطافحة، لكن ما استفزه هى لحظة نشوة اختلستها فقيرة جائعة مشردة من القدر!، جرأة الفيلم فى عرضه الموجع الصادم لفلسفة الجنس المصرية، الفيلم بالرغم من خلوه من المشاهد الجنسية إلا أن رائحة الجنس تفوح كخلفية للأحداث لتفضح كم نحن منافقون نتحدث عنه فى السر ونلعنه فى العلن، السلفى وهو يضرب عزة فى البداية كان يضربها باشتهاء وشهوانية، الجار يراقب «شامية» وهى ترقص ثم يتحدث مع زوجته ليدين عهرها، «ليلى» التى فقدت السند والضنا لا تحس بالأمان إلا حين ترتمى فى حضن من يحبها فى صمت، «عزة» تحب الميكانيكى بجد ولا تحس أنها امرأة إلا وهو يطلب منها قبلة فتترك عالم لعب الكرة والخناقات ليخرطها خراط البنات، حبيب «شامية» الغائب لا تعود إلى ملامحه حمرة الحياة إلا بعد لقاء حميم مع شامية.. إلخ، الفيلم يصدمنا بأننا مجتمع مصاب بفوبيا الجسد يفشل فى دمج الجنس بالحب فتصير علاقات الأزواج فى بيوتنا المصرية اغتصاباً مقنناً وشرعياً!، مجتمع يغنى للحب كثيراً وبإفراط ولكنه لا يحسه ولا يعيشه، الفيلم ملحمة تمجيد لأحلام المرأة البسيطة واحتفاء ببهجة الجسد ومحاولة للوصول إلى إيقاع الحياة التى لا يمكن أن تقصقص جناحى الفراشة الملونتين لكى تكون الفراشة أكثر احتراماً وحشمة، تحية إلى المخرجة كاملة أبوذكرى التى صنعت الفيلم كقصيدة مرئية بدون ترهلات، مشهد خلع الأحجبة من السيدات قبل السباحة ومشهد بكاء «شامية» أمام جمع نساء الحارة فى حمام السباحة، ومشهد نيللى كريم وهى تحاول إنقاذ ابنها، ومشهد احتضان «شامية» لحبيبها الغائب وهو يبكى كالطفل، كلها مشاهد نفذتها كاملة بحرفية والأهم بخيال جامح، الكاتبة هناء عطية لم ترسم مشاهد صح فقط من ناحية الكتابة الحرفية، لكن وضح تماماً تبلور القضية وإحساسها العميق بها، الممثلون فى الفيلم برغم قصر أدوار بعضهم إلا أنهم كانوا فى كامل لياقتهم، أما ناهد السباعى فهى بالفعل كانت تستحق الجائزة وعن جدارة فقد أدت الشخصية وتشربتها حتى النخاع، فيلم «يوم للستات» جاء فى موعده بالضبط وإن كان قد تأخر فى تصويره، إلا أن تصحرنا الوجدانى وكراهيتنا للمرأة كان قد طلب مدداً وسنداً، وها قد جاء المدد والسند بـ«يوم للستات».

No comments:

Post a Comment