Translate

Friday, March 31, 2017

خالد منتصر - أشعة مقطعية لعقل وأحشاء الوطن - جريدة الوطن - 31/3/2017

ما زلنا مع القراءة الاجتماعية لصفحة الحوادث، التى فتحنا ملفها أمس، ونتساءل فى البداية: متى تتم الجريمة؟ الجريمة تتم إذا فقد الفرد بوصلة التمييز، وارتفعت عنده حدة الغضب لدرجة العمى الكلى، ووصل اليأس إلى قمته، وأصبح الحل والتفكير فأراً مذعوراً فى نهاية ذيله خرقة مبللة بالكيروسين ينطلق فى حقول وأحراش العواطف المتأججة وردود الفعل الملتهبة دون أن يمر على بوابة العقل، ولكن لماذا وصل المجتمع إلى هذه الحالة من الهستيريا؟، نعم هى هستيريا، فأنا أعترف بأننى عندما أقرأ صفحة الحوادث يعترينى إحساس بأن المجتمع فى حالة زار جماعى تختلط فيه الأجساد وتتصاعد معها حرارة الحمى والدروشة على صوت دفوف صارخة بإيقاع رتيب ممل خانق، فهناك من يخبط رأسه فى الحائط وهناك من يمارس الجنس مع ممسوسة بدعوى إخراج الجن من جسدها، وهناك من يهتز على الأنغام وينزف بدون أن يتألم، ومحاولة رصد هذا الزار المحموم محاولة شبه مستحيلة، ولكننا على الأقل نستطيع قياس النبض والحرارة لجسد المجتمع المحموم من خلال صفحة الحوادث والجرائم، لأننا إذا أنكرنا هذه الصفحة نكون كمن يقيس الحرارة بدون ترمومتر، وأعتقد أن تحليل صفحات الحوادث هو بلغة الطب رسم قلب دقيق للمجتمع المصرى وأشعة مقطعية لعقله وأحشائه من الداخل، وبالطبع سيقود كل ذلك إلى التشخيص السليم ومن ثم الحل السليم، والسؤال الذى يفرض نفسه: هل هى حوادث فردية، كما تردد وسائل الإعلام؟، أعتقد أننا لسنا أمام حوادث فردية وإنما أمام تيار عنف مريض واحتجاج صامت وغليان داخلى، والعالم النفسى الكبير د. مصطفى سويف يرفض تعبير الحوادث الفردية ويسميها «الحوادث ذات الدلالة»، وهى فى رأيه من الممكن أن تكون غير مسبوقة ولكن لأنها تقع فى سياق معين يكون لها معنى «المؤشر» و«النذير» و«النبوءة»، أى أنها تنذر بأننا على مشارف تيار من الجرائم يمثل تصعيداً على مستوى العنف أو التخطيط أو التنظيم أو الاستهداف أو أى بعد آخر من أبعاد السلوك الإجرامى، وهى متعددة».
انتهى تعليق د. سويف، ولكن لم ينته طابور المعترضين على استخدام صفحة الجرائم والحوادث كمقياس ومعيار، ولكن برغم كل الاعتراضات، فإن أحداً لم ينكر غرابة وبشاعة ما تطالعنا به صحف الصباح من جرائم، والتى حولت ليلنا، كما يقول الكاتب سعد القرش «ليلنا خمر تختلط فيه دماء ضحايا وأطفال، بأموال مرتشين، وقوادين، وفاسدين، بأعراض أبرياء وبريئات وبائعات هوى بذمم ضاق بها أصحابها، فاتسعت بحجم ما تتعرض لإغراءات»، أول ما يلفت الانتباه عند قراءة كف الوطن من خلال صفحة الجرائم افتقاد الناس الحاد للحوار والتواصل، هناك زهق شديد وقرف مزمن، وأعصاب عارية مكشوفة فوق الجلد، وتحفز دائم، وعصبية تبلغ درجة الهستيريا مع أدنى انفعال، وبالبلدى الصريح «تلكيكة» للخناق والشجار والوصول بهذه المعركة إلى أقصاها حتى ولو كان القتل، وحتى لو كان هذا القتل لأعز الناس الأب والأم والأشقاء، فرابطة الدم لا تكبح جماح هذه الهستيريا، ولا أوامر الدين وتقاليد المجتمع تستطيع السيطرة على هذه التلاكيك، فالمجتمع يعانى من أنيميا حادة فى التواصل وجوع وفقر شديدين فى التحاور، ولذلك تزيد قوقعة الذات صلابة وسُمكاً، ويبنى كل منا جداراً من الجرانيت حول نفسه مبطناً من جميع الجهات بمرايا لا نرى فيها إلا ذواتنا المتضخمة، لا نرى البثور فى وجوهنا والتقيحات فى أرواحنا، لأننا أدمنا الزيف والضحك على النفس، يعانى كل منا من الوحدة حتى ولو كان فى مظاهرة، والعزلة حتى ولو فى أحضان الحبيب، اللغة مبتورة واللسان أخرس والأعصاب مشدودة والغربة هى المصير المحتوم، مجتمعنا أصبح لا يتواصل بل يتناحر، وفقد قدرته على الحوار ففقد معه الدفء، فافترسه البرد القارس والليل الموحش.

No comments:

Post a Comment