Translate

Tuesday, March 7, 2017

خالد منتصر - عشت لأروى - جريدة الوطن - 7/3/2016

عندما تصدر سيرة ذاتية كتبها كاتب مصرى بنفس درجة صدق السيرة الذاتية لـ«ماركيز»، هنا سأصدق أن هناك أملاً وأننا بالفعل نمتلك هذا الاختراع المسمى حرية وأننا حقيقة قد قمنا بثورتين!!، لا أتكلم عن الحبكة أو اللغة أو الصنعة التى يمتلكها جابرييل جارسيا ماركيز، لا أريد من روائيينا وكتابنا نفس درجة ومهارة التناول الفنى ولا أريد منهم نفس جموح الخيال الماركيزى، ولكن أطلب منهم فقط أن يكتبوا عن أنفسهم بنفس الصدق والصراحة التى يكتب بها أمثال «ماركيز» فى العالم القابع هناك فى الغرب، نحن فى الوطن العربى لدينا فن مهمل اسمه السيرة الذاتية الصادقة إلا فى النزر اليسير مثل «الخبز الحافى» للمغربى محمد شكرى على سبيل المثال، نحن لو تركونا فى غرف معزولة وأوصدوا الأبواب وتركوا أمامنا أوراقاً بيضاء لنعترف على سطورها بكل ما اقترفناه أثناء رحلتنا فى تلك الحياة، وبرغم تأكدنا من أننا سنمزق تلك الأوراق ونلقى بها فى سلة القمامة بعد الكتابة ولن يراها أحد، برغم كل ذلك، فإننا لن نقول الصدق، لن نبوح، ولن نستطيع تعرية أنفسنا أمام الورق!!، لأن الازدواجية صارت تسكن خلايانا ونخاعنا، ولأننا تعلمنا أن نمثل الحياة لا أن نعيش ونحيا الحياة، «عشت لأروى» سيرة ذاتية مبهرة ساحرة، تمتلك نفس سحر وألق وروعة روايات هذا الكولومبى العبقرى، تمنحنا أسرار رواياته، وتطلعنا على هذا الكنز وتأخذنا إلى ذلك المنجم الذى جمع منه تفاصيل تلك الملاحم الروائية الخالدة، الروائى العظيم نتاج تجربة عظيمة، و«ماركيز» لم يكتف بقشرة الحياة بل نفذ إلى النواة، وشرب الحياة حتى الثمالة، وجرَّب كل شىء ولم يقع فى فخ المواطن المثالى النموذجى الصالح، بل قرر منذ رحلته مع أمه لبيع بيت الجد القديم التى بدأ بها الكتاب، أن يصبح كاتباً، حتى المدرسة تعامل معها طبقاً لمقولة برنارد شو «انقطع تعليمى منذ دخلت المدرسة»!!، لم يخجل «ماركيز» من تدوين كل حماقاته، حتى نزواته وغزواته الجنسية ذكرها، حتى ما يدينه ككاتب كبير مثل أخطائه الإملائية التى يقع فيها ويمررها الناشر على أنها أخطاء مطبعية، حتى هذا الضعف دوَّنه فى سيرته الذاتية، تفاصيل ساحرة كانت ولابد أن تصنع هذا الساحر الحكيم والطفل العجوز «ماركيز»، ولد مختنقاً بحبله السرى، الأب عامل تلغراف بسيط يهوى عزف الكمان، يفخر «ماركيز» بأنه تربية نساء، جده هو من تنبأ له بأنه سيصبح كاتباً وأثنى على كذبه الطفولى لأنه مصنع الخيال الأول، العمة العمياء التى كانت تعرف تفاصيل البيت وخريطته من خلال الروائح، علاقته المشوشة مع الكنيسة وصدمته منذ أن سأله القسيس بغتة هل عاشرت الحيوانات؟!!، تأثير كتاب «ألف ليلة وليلة» على خياله الروائى، إيمانه بمقولة ريلكه «إذا كنت تظن أنك قادر على العيش دون كتابة فلا تكتب»، أول علاقته بهاجس الموت حين سهر بجانب جثة ووجد القمل يهرب من شعرها!!، عمله وهو طفل كموزع إعلانات دواء سعال، ممارسته للغناء والعزف فى الفرق الجوالة، معلمات الرقص اللاتى علمنه الرقص واللاتى كن قعيدات.. إلخ، تفاصيل حياتية غريبة ومدهشة طبخت وصنعت جابرييل جارثيا ماركيز الذى كشف لى أن مقدار ما بثه فى روحى من متعة فنية مرتبط بكم الصدق الذى يكتب به وبمقدار ثراء الحياة التى عاشها والتى تستحق بالفعل أن تروى.

No comments:

Post a Comment