Translate

Thursday, February 9, 2017

د. عماد جاد - الرؤية غائبة.. والبوصلة تائهة - جريدة الوطن - 10/2/2017

كثيرة هى التساؤلات فى الشارع المصرى وفى جلسات المثقفين ولقاءات أبناء الطبقة الوسطى، حول وجهة الأحداث فى البلاد.. «إحنا رايحين على فين»، سؤال يتكرر عشرات المرات فى اليوم الواحد، ومما يزيد حالة البلبلة والاضطراب فى البلاد تجمع المتناقضات فى مشاهد متتالية، فهناك أحداث تقع وتقول لك إننا فى الطريق لدولة مدنية وتنمية اقتصادية حقيقية، تقابلها عشرات الأحداث التى تؤكد أن الدولة المدنية حلم بعيد المنال وأن بنية مؤسسات الدولة هى بنية لدولة دينية، وأن مؤسسات مثل الشرطة والقضاء متخمة بالمتطرفين، ويكفى أن نشير إلى مآل قضية سيدة الكرم، وأطفال بنى مزار الذين فروا خارج البلاد من جحيم حكم قضائى جائر بسجنهم خمس سنوات لأنهم قلدوا داعش، إلى قضية مجدى مكين ثم قضايا ترحيل أسر قبطية بمباركة وتشجيع من مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية.
إن دول العالم التى قطعت شوطاً على طريق الديمقراطية والحرية، والتى حققت قفزات فى مجالات الحياة المختلفة، مرت بمرحلة تحول أو مرحلة انتقالية عبرت فيها من السلطوية والديكتاتورية إلى الديمقراطية، ومن التخلف إلى التقدم، وكان العنصر الأهم والأبرز الذى ميز تجارب الشعوب والدول وحدد ثمن التحول ومداه الزمنى هو مدى امتلاك النظام القائم لرؤية واضحة ومحددة، وتحليه بالشجاعة الكافية للعبور نحو المستقبل. من امتلك هذه الرؤية دفع ثمناً أقل وأحدث عملية التحول والانتقال فى وقت معقول كان السير فيه باتجاه واحد، عكس حال النظم التى افتقدت الرؤية والشجاعة الكافية، حيث كان الثمن باهظاً، وكان السير على طريقة «خطوة للأمام وخطوتين للخلف».
امتلاك الرؤية الشاملة بعيدة المدى هو أول خطوة على طريق التحول باتجاه الديمقراطية والتقدم، وأول مكونات هذه الرؤية هو الفصل بين السياسة والدين، فالأولى متلونة متغيرة ومراوغة، وقديماً قال الفلاسفة إنها ليست مجال عمل الرجل الفاضل، تستند إلى منطق «الغاية تبرر الوسيلة»، والسياسى الماهر هو من يجيد تلقى دروس مكيافيللى التى صاغها فى كتابه الأشهر «الأمير» الذى يقدم فيه نصائحه للحاكم كيف يكون مراوغاً، مناوراً ومخادعاً أيضاً، أما الدين فهو مقدس فى نفوس معتنقيه يحض على الفضائل والقيم النبيلة، اختلاطهما معاً يؤدى إلى الإساءة للدين والإضرار بالسياسة أيضاً. وتكشف تجارب التحول فى شتى قارات العالم مع تنوع الثقافات والأديان والمعتقدات، أنه لا تحول دون وضع الخطوط الفاصلة بين الدين والسياسة، للأول خصوصيته وقدسيته، فهو قائم على الفردية والشخصية، علاقة بين الرب والعبد لا دخل للدولة بها، والثانية تستند إلى ضرورات الواقع المتغير والمتلون.
اختبرنا فى مصر خلط الدين بالسياسة منذ عام ١٩٥٢ ووصلنا إلى الذروة فى عهد السادات إلى نهاية عهد مبارك، فكان السير خطوة للأمام وخطوتين للخلف، وجاء زمن الجماعة وكان الخلط شديداً، ومن ثم كان الثمن باهظاً حتى بالنسبة للدين الذى تعرض للاهتزاز فى نفوس شباب مصرى وظهرت على السطح ظواهر الغش والخداع باسم الدين، فكان منطقياً أن يخرج علينا من يعلن عدم إيمانه بالدين كما يقدمه البعض من رجاله.
جاءت ثورة الثلاثين من يونيو تطالب بدولة مدنية حديثة تستند إلى القيم الإنسانية، وإلى المواطنة والمساواة وعدم التمييز، وإلى فصل الدين عن السياسة، وطالب الرئيس عبدالفتاح السيسى بإصلاح الخطاب الدينى، وبدا أن بلادنا تسير باتجاه امتلاك الرؤية اللازمة لتحقيق عملية التحول العصى فى منطقتنا وثقافتنا، ولكن سرعان ما بدا واضحاً أن الرؤية اللازمة غائبة بالفعل، وأن بنية مؤسسات الدولة المصرية قائمة على أسس واعتبارات مناقضة للتعددية والتنوع، غير قابلة للقيم الإنسانية كالحرية، والمساواة، والمواطنة، والشفافية والمحاسبة، ويعشعش الفساد والتطرف فى قلب هذه المؤسسات، ومن ثم فنحن فى حاجة إلى تغيير جذرى وليس إصلاحاً تدريجياً، ونظراً لغياب الرؤية، اضطربت البوصلة ومن ثم يغدو السؤال «إحنا رايحين على فين؟» سؤالاً منطقياً وطبيعياً نابعاً من خوف على المستقبل فى وقت يسير فيه مجتمعنا خطوة للأمام ثم يرتد خطوتين إلى الخلف، والخوف يلف القلوب والعقول سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً وثقافياً.. فهل من مخرج أو حل؟
وللحديث بقية

No comments:

Post a Comment