Translate

Saturday, February 25, 2017

خالد منتصر - احتفاء الفنان واختفاء الملك - جريدة الوطن - 25/2/2016

لم أشاهد فى هولندا احتفاء بملك أو رئيس وزراء لكنى شاهدت احتفاء بالرسام والموسيقار، ليس احتفاء بل تقديساً للفن والفنان، بالطبع فان جوخ هو التميمة والأيقونة والرمز والمعنى والفخر والزهو فى بلد الزهور، وكأنها رسالة اعتذار العالم لهذا الفنان البائس الجميل، قررت زيارة Neuenen القرية أو المكان الذى عاش فيه فان جوخ قبل ذهابه إلى فرنسا وأبدع فيه نحو ربع أعماله الفنية، بالطبع زرت متحفه الشهير فى أمستردام العاصمة عدة مرات، لكنى هذه المرة كنت أريد الاقتراب من فان جوخ الإنسان، أتنفس نفس نسمات الهواء المنعشة التى كانت تستفز مارد الفن بداخله، ألمس جدران بيته الذى يسكنه الآن قسيس تعود على فلاشات كاميرات السياح التى تصور البيت من الخارج، أرى المروج والشجر وغيوم السماء وهى تفسح طريقاً للشمس التى كان يعشق رسمها فنسنت، أمام بيته فى «نيونن» تم بناء متحف رائع يسرد سيرة هذا العبقرى فى تلك القرية، هو لم يبدأ الرسم إلا فى نحو السابعة والعشرين وانتحر فى السابعة والثلاثين، والمدهش أن حصيلة تلك الرحلة القصيرة جداً أكثر من ألفى لوحة واسكتش!! القرية كانت تعشقه بالرغم من أن الكثيرين كانوا يحذرون من نوبات جنونه، قصة حبه المجهضة ماتت بسبب أن شقيقة مَن عشقها منعتها من لقاء ذلك المجنون، كان يسابق الزمن بضربات فرشاة متوترة متحدية صادقة، المتحف يشرح لك سر جاذبية فان جوخ ولماذا هو يستحق كل هذا الاحتفاء وتلك الشهرة، إنه الصدق، كان بلا قناع، لم يكن حيادياً، انحاز إلى البسطاء، وكان يهزه كل ما يلمس الإنسان من الداخل، قصة الفلاحين الغلابة المجتمعين حول تلك المائدة الكالحة فى ضوء شحيح يأكلون البطاطس بأيديهم المعروقة الناشفة المشققة، المتحف يكتب أسماءهم ويعرفنا على شخصياتهم ويرصد قصة تلك اللوحة وكيف رسمها فان جوخ الذى ينطقونه هناك فان خوخ، يرصد لنا ماكينة النسيج التى رسم تفاصيلها ومجد العامل البسيط الجالس أمامها وكأنه فى لحظة صلاة. المتحف يضم أيضاً خطابات فان جوخ التى تقطر بلاغة لكنها ليست بلاغة الفخامة الأكاديمية الاستعراضية، بل بلاغة صدق فنان يكتب إلى شقيقه عن رحلته مع الفن والمعاناة، يكتب له عن انحيازه للإنسان الذى لم يحاكمه أبداً بمفهوم الخطايا ولم يجلد ظهره بسوط الإدانة الأخلاقية، حتى العاهرة رسمها بحب، فى الدور الأخير من المتحف استقبلنى موظف عجوز شرح لى شجرة العائلة ومن الذى لا يزال حياً منها، وكيف أن فنسنت هو الأكبر بعد شقيق مات كان يحمل نفس الاسم، وفى نهاية الشرح قال بعفوية وهو يشير إلى الفرع الأخير من شباب عائلة فان جوخ على شخص أخبرنى أنه مخرج سينمائى قُتل فى هولندا على يد شاب مغربى وصف قتل فان جوخ الحفيد بأنه نوع من الجهاد الإسلامى، بل فرض أنه لو عاد به الزمن لكرر نفس الفعل وربما بصورة أقسى وأعنف!! وأنا أغادر المتحف منتشياً وحزيناً فى نفس الوقت، كان الختام صورة مستقبل مبهجة، أطفال أنهوا جولتهم فى المتحف ويجلسون على موائد وأمامهم أوراق يكتبون فيها بحماس، اقتربت منهم بفضولنا المصرى المزمن فوجدتهم يجيبون عن أسئلة حول فان جوخ من حصيلة ما شاهدوه فى المعرض!! اندهشت أكثر عندما عرفت أن ما يكتبونه هو من ضمن الواجبات المدرسية فى هولندا وسيتم تقييمهم عليه وسيحصلون على درجات فيه!! تساءلت وأنا أغلق الباب وأحيى وأصافح الموظفة العجوز التى أخبرتنى أنها عاشقة لمصر، هل هؤلاء الأطفال من الممكن أن يذبحوا أو يحرقوا أو يفجروا أجسادهم فى أبرياء وهم يحبون ويعشقون هذا القديس الذى يسمى فان جوخ؟!!

No comments:

Post a Comment